23 ديسمبر، 2024 12:42 ص

دراجة في مهب الريح

دراجة في مهب الريح

في تاريخ الحياة لكل فرد على هذا الكوكب تنبثق أحلام بين الحين وآلآخر, أحلام تكون ليس لها قيمة عند البعض لا بل تبعث لديهم حالة من التهكم والسخرية في حين تكون بالنسبة للبعض ألآخر شيء أجمل من كل كنوز ألآرض . من هذه الأحلام حلم بسيط جداً – وهو إمتلاك دراجة هوائية- من نوع يختلف عن الدراجات الهوائية التي رافقتني منذ أن أبصرت النور. كان والدي في الخمسينات والستينات يمتلك دراجة هوائية كانت بالنسبة له تمثل عصب الحياة لأنه يستخدمها في التسوق والذهاب الى مكان العمل الذي يبعد عن البيت مايقرب من خمسة كيلومترات وكذلك أشقائي كان لديهم دراجات هوائية يذهبون بها الى مدارسهم ألأعدادية ويستخدمونها في جميع تنقلاتهم هنا وهنا –  حينما كنا في الريف- من عام 1957 الى مرحلة ألأنتقال الى العاصمة عام 1979.حينما كنتُ طفلاً في الرابعة من العمر كنتُ أحياناً أطلب من شقيقي –  هادي- أن يعيرني دراجته كي ألهو بها على الطريق الترابي الممتد من نهر الفرات الى الشارع ألأسفلتي الذي يربط مابين معسكر الحامية وقضاء المسيب. في بعض ألأحيان يمنحني إياها على شرط أن لا أسقط على ألأرض ويخرج الدم من ركبتي وأحياناً أخرى يردعني بقوة فأرتد مدحوراً كجندي قاتل بسلاح مكسور فخسر في معركة حامية الوطيس. في بعض ألأحيان أطلب من والدتي أن تذهب الى شقيقي وتقول له ” إعطيه الدراجة ” . كنت أتكور خلف الباب وأغلق أذنيَّ بيدي كي لاأسمع جوابة. كانت لحظات عصيبة تلك التي أقف بها خلف الباب منتظراً جواب والدتي على أحر من الجمر. كنت لاأنتظر صوتها لأنني كنت أنظر الى عينيها فقط وأقرأ حالة الرفض أو الموافقة. من أعظم لحظات طفولتي تلك التي أنتظر فيها الجواب. صور مأساوية أحيانا ومفرحة حيناً آخر. ظل هاجس إمتلاك دراجة خاصة يراوني أكثر من عشرين عاما. توجد في البيت عدة دراجات لكنني لاأمتلك واحدة. وتقدم الزمن ماتت أرواح كثيرة من ضمنها روح والدي ..سافر الى العالم ألاخر وتركني وحيداً بلا دراجة خاصة. 
وظلت دراجة والدي وحيدة مركونة عند الطرف البعيد من ساحة الدار في القرية البعيدة لاأحد يستطيع ألأقتراب منها لما تمثله من مأساة فقدان ألأب العزيز. إستحوذتُ على دراجة والدي –  لكنني لم أشعر بفرحة أبداً –  لأنها كانت تمثل تاريخ كبير ومؤلم بالنسبة لي. كبرتُ وكبرت ألأحلام وحصلت على وظيفة جيدة تدر علي مالا وفيراً ورحت أقتني دراجات متنوعة لأنها كانت عقدة –  طفولية بالنسبة لي –  ويوماً ما طلب ولدي الكبير أن اشتري له دراجة هوائية. عادت لي كل الصور القديمة التي مزقت جزءأً كبيراً من طفولتي. كان في السادس ألأعدادي ..ذهبت معه الى ألأعظمية –  ساحة عنتر- حيث تباع أرقى أنواع الدراجات الهوائية. وقفتُ بعيداً عن محل بيع الدراجات وطلبتُ منه أن يختار أغلى واحدة. 
جاء نحوي وهو يقول ” وجدتُ واحدة لكنها غالية جداً” صرخت به وطلبت منه أن لايفكر بالنقود وعليه أن يختار فقط. كانت أغلى واحدة ب 190 الف دينار. نقدت البائع المال دون أن أنبس ببنت شفة وكنتُ سعيدا جدا. تخرج ولدي طبيباً ولم يشتر لي يوما ما قميصاً أو علبة سكائر. يوما ما كنت جالساً في حديقة الدار وجاء ” كريم كرارة- من أصدقاء الطفولة والصبا والشباب. أخبرني بأنه في حاجة الى دراجة يذهب بها الى مصفى الدورة حيث يعمل هناك . منحته دراجة كهدية ومنذ ذلك اليوم لم يدخل بيتي . اليوم وأنا أشتري هذه الدراجة التي كنت أفضلها على كل الدراجات ألأخرى لأنها سلسة وناعمة في السير. ذهبت الى بيت شقيقي الكبير –  الذي كنت استجدي دراجته في طفولتي- أعجب بها وأخبرني أنه سيشتري واحدة في الشهر القادم حينما يستلم التقاعد. قلت له بأنني إشتريتها ب100 الف دينار وعليه أن يعطينني 50 الف دينار ثمناً لها. ” قال سأعطيك الـ 50 الف بلا مقابل وساشتريها منك عند إستلام التقاعد” . نظرتُ إليه بألم وتذكرت ذلك التاريخ البعيد وكيف كنت أستجدي دراجته العزيزة. قررتُ مع نفسي هذا اليوم أن أقدمها له هدية بلا مقابل لأنه صرف علي كل مراحل التعليم بعد وفاة والدي. كان هو والدي ألآخر. من يدري ربما أشتري واحدة أخرى حينما أستلم بدوري راتبي التقاعدي –  الذي راحت الدولة تستقطع منه جزءأ لضريبة لاأعرف ما سرها. وراح الحلم من جديد مع الريح.