23 ديسمبر، 2024 3:54 م

دجلة والفرات يدخلان في سجل ضحايا العراق

دجلة والفرات يدخلان في سجل ضحايا العراق

بعد فرض الحصار الشامل عام 1990, حاول العراقيون أن يجدوا منفذا لتامين احتياجاتهم الغذائية والإنسانية , وأمام إصرار مجلس الأمن الدولي على سريان العقوبات ورفض تخفيفها , جرى التشبث بالمنظمات والمؤسسات الدولية غير الرسمية لمحاولة الضغط على المنظمة الدولية , وفي إحدى المرات جاء وفد من جامعة ( هارفارد ) لتقييم الوضع المعيشي للسكان والنظر في تقديم العون اللازم للعراقيين , وبطريقة الضيافة العراقية المعروفة بكرمها والتي لم تنقطع رغم ظروف الحصار اصطحبنا الوفد إلى ( أبو نؤاس ) لتناول السمك المسكوف باعتباره الماركة المسجلة للبغداديين .

وقبل انتهاء وجبة الغداء , قال رئيس الوفد إن ما يتناوله اليوم هو الألذ الذي ذاقه بعد الفطام , وسأل من أين مصدر هذا السمك فأشرنا إلى نهر دجلة الذي كنا نجلس على ضفافه , ثم سأل عن طول هذا النهر فأجبناه انه يمتد من الشمال ويلتقي بشط العرب في جنوب البلد وطوله أكثر من ألف كيلو متر , ونزولا عند رغبته أخذناه في اليوم التالي إلى منطقة (الفحامة )في الراشدية ليطلع على دجلة عن كثب , ونزل إلى حافة النهر فوجد نساءا يغتسلن الأواني فاندهش قائلا : إذن الماء صالح للشرب ومن الاستخدام المباشر فأجبناه بالإيجاب , فذكر إن هذه الميزة يتمتع بها عدد قليل من البلدان.

وتسائل متعجبا وماذا تريدون منا بالضبط فقد أنعم الرب عليكم بنهر لو استثمرتوا مياهه لتربية الأسماك فقط لحققتم الاكتفاء الذاتي من الغذاء , وهذه المساحات الواسعة من أرضكم الخصبة بالإمكان أن يرويها نهركم لكي تتحول إلى مزروعات تغزو الأسواق العالمية , وعلى حين غرة اخبره احد الزملاء بان لنا نهرا آخرا لايقل عنه عذوبة وتدفق وهو الفرات الذي يمر بالجزء الغربي ويلتقي بدجلة في منطقة العشار , وعندها قال ومن معه في الوفد كلمات لاأنساها أبدا ( وهو غير مسلم ) : لعل من حكمة الله عليكم هو فرض الحصار لكي تتذكروا بما أغدق به على بلدكم من نعمات ولو كنت مكانكم لتركت النفط جانبا واستثمرت في دجلة والفرات حيث يمكن أن تكبر فيهما ملايين الاصبعيات لكي تطعم شعبكم بعد أسابيع .

وفي حينها قدمنا دراسة متكاملة حول زيارة الوفد مشفوعة بعدد كبير من التوصيات والمقترحات , ورغم إن الدولة لم تنفق على ضيافة الوفد حيث تمت تغطيتها من الأموال الخاصة للفريق العراقي من باب الاعتزاز بالضيوف ( حيث كان مرافقة الوفد ومجاراته بالصفة المهنية وليس الرسمية ) , إلا إن رد الجهات المعنية انطوى على نوع من القسوة والتأنيب , فبدلا من وضع المقترحات موضع التطبيق لإطعام شعبنا الذي كان يعاني اغلبه الجوع , فقد وردت إجابة مطولة وانتهت بتساؤل ( هل من الحكمة أن تطعمون الوفد بالسمك المسكوف والغرض من الدعوة هي ليشارك العراقيين حالة الجوع ؟ ) .

وما أثار ذكرياتي عن الموضوع , مايحصل من هدر واضح في مياه نهري دجلة والفرات في بلد اسمه بلد النهرين , فالجميع يعرف إن للعراق مشاكل مع دول الجوار ( تركيا , سوريا , إيران ) حول الحصص المائية المشروعة لبلدنا وكثيرا ماتم التباحث حول كمية الاطلاقات والتصريف , ولكننا نجد إن سدة الفلوجة أغلقت لمرتين ووصلت سيولها إلى مشارف بغداد بعد أن أغرقت آلاف الدونمات وأهلكت مامرت به من مدن وقرى وبساتين ومزروعات , ولانعرف ماهوالقادم بعد أن باتت العامرية والغزالية في مرمى الفرات الذي قد يزحف قريبا على بغداد إذا لم تتم السيطرة الفعلية على السدود .

أما دجلة الخير الذي نظمت من اجله الآلاف من القصائد وأبيات الشعر , فان مياهه أحرقت بالنفط ولمسافات طويلة تمتد من بيجي إلى تكريت والفاعل مجهول , وقد أدى ذلك إلى نشوب حرائق في المزروعات وإتلاف البيئة وتضرر السكان , والبيانات الرسمية لم تعط تفسيرا متفقا عليه لأنها عبارة عن تكهنات واحتمالات , ولكنها طمأنت بان الوضع تحت السيطرة وان الجهات المعنية قد قامت بواجبها بالشكل المطلوب , وحسب ما ادعوه فان جزءا مهما من المياه قد جرى تصريفها عبر بحيرة الثرثار لكي لاتهدر جراء التبخير الذي يحدث من شدة النيران .

ومن الغريب حقا أن تتحول نعمة الفرات ودجلة إلى نقمة على العراقيين , فالتلاعب بمجريات المياه وتغيير مساراتها وحجبها أو إحراقها بالنفط هي أعمال مشينة , وربما إنها خارج الحديث النبوي الشريف ( إنما الأعمال بالنيات ) فمن كانت لديه القدرة على المواجهة وإثبات الوجود فان ذلك يكون على الأرض وليس التلاعب بنعم الله , ومن المقلق حقا بان تستمر مثل هذه الأفعال من دون ظهور نهاياتها أو حتى إظهار لحقيقة ما يجري فهي معركة خاوية من البيانات , فالتداعيات تكبر يوميا مثل كرة الثلج المتدحرجة دون اكتراث لنقطة انفجارها , ومن حق الساسة الانشغال بالدعاية للانتخابات ولكن من دون أن يسمحوا بان يكون الخالدان دجلة والفرات في سجل ضحايا العراق .