مَنْ منكم زار بغداد ولم يستدر بعينيهِ متأملاً بدهشةٍ وإعجاباً نهر دجلةوهو يعبر جسر ( الجمهورية) أو ( السنك) أو ( المعلق) ؟
وَمَنْ منكم سارَ على ضفافهِ ولم يستمتع برؤية طيور النورس المحلقة فوق مياهه، ورائحة السمك( المسگوف) الذي كانت نيرانه الدائرية المشتعلة تتلألأ على طولِ النهر مُضيئة طريق السياح والمارة فوق جسوره !
هذا النهر الذي أحتضن عند ضفتيهِ مواعيد المحبين العابرين رواحاً ومجيئاً وألتقط خلسة أصوات ضحكاتهم ودّون حوارات وآهات المكلومين الفاقدين أحبابهم .
هل هناك مَنْ لا يعرف دجلة الذي كُتِبَت عنه أجمل القصائد ، لعل أشهرها رائعة الجواهري حين أنشد قائلاً ؛
حييت سفحك عن بُعدٍ فحييني
يادجلة الخير ياأُم البساتينِ
وأيُّ عراقي يمكنه أن يتخيل شارع ( أبو نؤاس ) بدون نهر دجلة ؟!
ما أن تسير ذات عُزلة فوق ( جسر الأئمة ) متأملاً جريان مائه ومحدقاً في إنعكاسِ لونه حتى تٓشعُر وكأن النهر يستوقِفُك عند موضعٍ على شاطئهِ ليحكي لَك بعض حكايات الأجيال السالفة وليبُثك وجع قلوبهم وشكواهم !
هذا النهر الذي يشقُ بغداد إلى نصفين -نشأت على ضفافه أقدم الحضارات الإنسانية في بلادِ مابين النهرين- هل تأملتم نزيف دموعه ام هل استمعتم إليه بقلوبكم وضمائركم وهو يروي أول حكاية مفجعة ( جرت على ضفافه) لم تشهد بغداد أفجع منها في تاريخها أيام المغول الدموية . عندما باشر الغزاة المغول برمي عشرات الأطنان من الكتب والمخطوطات في نهر دجلة. وكان الرجال والنساء والشيوخ والصبية على سطوحِ بيوتهم القديمة يُشيعون بالحزن والألم ذاك الأرث الفكري والعلمي الذي واصل الغزاة رميه في دجلة فكانت تتلاطم الأمواج وتتقاذف سطور المعرفة والتاريخ في الوقت ذاته.
ويذكر المؤرخون تلك المشاهد التي أنحفرت في الذاكرة حيث أمتزج لون الحبر الأزرق الذي خُطت به آلاف الكتب والمخطوطات بدماءِ العلماء والمفكرين الذين مزقتهم حراب الغزاة، وقد أجمل أبن طباطبا مانزل بأهل بغداد آنذاك في قولهِِ ؛
” فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم، والتمثيل البليغ، مايعظم سماعه جملةً، فما الظن بتفصيله ؟، فأصبحت بغداد التي كانت مَضْرب الأمثال في سعةِ العمران وتقدم الحضارة ، قِفراً موحشةً ، وتراكمت جثث القتلى في شوارعها، فغيرت رائحتها وحدث بسبب هذا التغير وباء شديد راح ضحيته خلق كثير ” ، فما أشبه الليلة بالبارحة ؟؟
إذ أُضيفت حكاية مُفجِعة أخرى (شهِدها هذا النهر ) لذاكرة العراقيين ، عندما أُستخدم كمقبرة جماعية في يونيو 2014 لطلبة القوة الجوية العراقية الذين أعدِموا على ضفافه من قبل تنظيم الدولة ( داعش ) في قاعدة سبايكر الجوية .
هذا التنظيم الذي أستخدم المياه كسلاح وبأبشعِ صورة ممكنة. حيث بدأ الخراب مع سيطرة مقاتليه
على مساحات واسعة من وديان النهر فقاموا بإحراق العديد من الأراضي الزراعية وقطع المياه عن الأخرى مما تسبب بهلاك محاصيل تساوي مئات الملايين من الدولارات.
وكان الأُمر يزداد سوءاً كلما أنسحب هذا التنظيم من قريةٍ إلى أخرى ، فقد أتبع أستراتيجية الأرض المحروقة فكان يفجر الجسور ويسدّ قنوات الري ويزرع الألغام في محطات رفع المياه ، كما أشعل مقاتليه النار في العشرات من آبار بترول القيارة والتي ذهبت محتوياتها إلى نهر دجلة لتمتزج هي الآخرى بمياهه.
لم يكن الدمار الناتج عن الحروب هو المِحنة الوحيدة التي عانى منها نهر دجلة ، إذ شيَّدت كل من تركيا وإيران عدداً من السدود خلال العقود الماضية في وقتٍ كان يعاني فيه العراق من تردي في الأوضاع السياسية والأمنية وضعف نفوذ الدولة وسيطرتها على ( ثرواتها النفطية والمائية ) .
فشّيدت تركيا سد ( إليسو) الذي بدأ بحجز جزء هائل من مياه دجلة وتسبب بإنخفاض مناسيب المياه الواصلة للأراضي العراقية.
فيما قامت ايران هي الاخرى ببناء السدود وقطع مياه نهر الزاب الصغير من الوصول الى شمال العراق مما ينذر بحصول كارثة حقيقة لكونه (هو الأخر ) سيؤثر بشكل كبير على الزراعة في مناطق السليمانية وكركوك وديالى ، كما وسيتسبب في إنخفاض منسوب المياه إلى مستوى كبير وخصوصاً في فصل الصيف . السؤال الأهم وسط كل ما جرى ويجري من ( إغتيالٍ) لنهر دجلة ، أين هو دور الحكومة ؟! وأين هي هيبة الدولة في التحكم في ثرواتها الوطنية ؟
أمام كل هذا ، لم تتخذ الحكومة خطوات جادة تجاه ماأصاب نهري العراق العظيمين ( دجلة والفرات ) من ملوحة وتلوث ومخلفات حرب وتلف في بنيته التحتية وإنخفاض معدلات الصيد في الأهوار خاصة بل عمدت إلى خفض ميزانية وزارة الموارد المائية من 1.7 مليار دولار عام 2013، إلى 90 مليون دولار عام 2016 . وهو مامنع الوزارة، من الوفاء بالعديد من التزاماتها المتعلقة بصيانة البنية التحتية.
وأتساءل ؛ حكومة عجزت عن حماية حقوق وممتلكات وطنها وشعبها ، لماذا تُصِر على إعادة تدوير نفسها من جديد ؟!
ومع كل تلك وهذه الكوارث التي واجهها ويواجهها العراق أليس من اللائق ( مأساوياً) أن تكون مياهه شريكة هي الأخرى في كفاحه الطويل ؟!
لقد كان ولا زال دجلة شاهداً على ماعانىٰ منه هذا الوطن من مِحنٍ وحروبٍ وإهمال حكومة وساسة أدت بِهِ في نهاية المطاف إلى شحةِ وجفاف مياهه ، وتعرض ثرواته السمكيةوالزراعية لخطر الزوال ومغادرة طيور النورس لضفافه ورحيلها إلى غير رجعة !