18 ديسمبر، 2024 11:54 م

داليدا مشحوفنهْ طرْ الهور

داليدا مشحوفنهْ طرْ الهور

يقول صاحبي  في ليلة من ليالي الأهوار : لو أتت داليدا الى هنا في هذه الليلة السومرية المقمرة ، وغنت بفرنسية فصيحة ، أغنية عن غرام البلد في مناقير العصافير ، لصار للقصب حماسا ذكوريا وانثويا وعانق بعضه البعض في غرام عجيب.
ضحكنا ، وقال أحدنا : من أتى بسانت لوران لقرى المعدان ، أنها مسافة عطارد عن شخير المعدان فوق السوابيط.
تلك المسافة كانت تشد فينا الف حنين ، المكان وخياله ، والماء وسفره الازلي ، من هنا ، الى القرنة ، ومن القرنة الى الخليج ، ومن الخليج الى مسقط ، ومن مسقط الى دلهي ، ومن دلهي الى خصر وصوت الممثلة الهندية فاجنتي مالا التي كانت تسحرنا بأفلامها في تلك الأيام.
يقول صاحبي : وتلك هي سفرة نوح الازلية من هذا المكان وذهب بها الى تلك الأمكنة . والتي يعيد عطرها وصداها صوت الرجل صاحب المشحوف والذي يطرب اسمعانا  في كل ليلة وهو آت من ليلة صيد بالفالة مهتديا بضوء القمر ويغني : مشحوفنة طر الهور …
هو يكرر ذات الحنين الذي تكرره داليدا في اغانيها الاسكندرانية المدافة بلهجة الجنوب الفرنسي .ولهذا فلربما نوح رسى بمرسيليا أو كان أو ربما واحد من ركاب سفينته وصل الى هناك.
ضحكنا ، وقلنا : يارجل الصياد الطيب يطر الهور بأغنيته الجميلة .وأنت تطر رؤوسنا بداليدا وافتراضاتكَ الخرافية.
قال : بفضل  تلك الافتراضات ولدت الاساطير ، وصرنا محج لرجال الاثار والمستشرقين.
ذات يوم جاء صديق آخر ليهمس في إذني : المطربة الفرنسية ــ الاسكندرانية داليدا ماتت منتحرة ، هل نخبر صديقنا ؟
قلت : لاتخبره فلربما ينفذ الشوق فيه ويتحول الحزن عنده الى صمت ودمعة ، فدعنا نبقي الخبر سرا لنتمتع بخياله وهو الذي يريد ان يُلبسَ المطربة الراحلة ثوبا ريفياً ويضع خزامة في طرف انفها ويرسم وشماً على حنكها ، ويركب معها المشحوف ويأخذها الى المكان الذي يتصيد فيه المعيدي ( تعبان ) ويسمعها نشيجه اليومي ( مشحوفنه طر الهور ) لتحفظها هي وتغنيها له . مرة في الفرنسية ومرة في العربية.
قال صديقي : الغرام المجنون يخلقه همس الصوت أولا ، تلك بدايات روميو مع جوليت وقيس مع ليلى.
قلت : ليس بهذا الحجم .صديقنا يحب صوت داليدا ويعرف أنها بعيدة عنه بآلاف الفراسخ وليست في متناول اليد.
لكنه عرف بموت مطربته المدللة من سماعه اليومي لاذاعة القاهرة .
تخيلناه سيبكي ، وسيندب حظه انها سوف لن توقعَ له اوتغرافا لصورتها معه يوم يزور باريس ويحضر واحدة من حفلاتها الصيفية ، ولكنه بقي من غير مشاعر حزن تسكن وجه ، عدا صمته وتكرار عبارة ليرحمها الله.
استغربت أنه لم يعلق بشيء . ولم نسأله ولم نواسيه ، عدا أننا لم نكرر افتراضات انتحار داليدا أمامه .
لكن احدنا كان كثير الكلام والملاطفة وهو من كارهي الغناء الاجنبي قال : انتحرت لأن اخينا ( فلان ) لم يفْ بوعده ويجلبها الى قرية ( المحاريث ) ويعلق في ( خشمها ) خزامة.
سمعه ونظر اليه وصمت .
في اليوم الثاني كرر ذات الدعابة التي وجدناها غاية في الفطارية والسذاجة. وعاد في الليلة الثالثة يكررها امامنا .
عندها انتض صديقنا الذي كان يعشق داليدا وصوتها ولكمهُ على وحهه .
انتفخ وجه صديقنا الساذج .وقام ليثأر لنفسه .فأبتدا عراك ليلي .استغرب له معدان القرية ، فلم يتعودوا في حياتهم ان يروا او يسمعوا شجارا بين معلمي المدرسة.
الغريب في هذا ، أن الشجار بين الصديقين كان في اشده في التلاكم .عندما مر الصياد بزورقه وهو يغني اغنيته :مشحوفنه طر الهور.
عندها قال الذي كتم حزنه من اجل داليدا في قلبه : اكراما لهذا الصوت ، سأتوقف عن لكمك ايها الفطير.