في غمرة احتفالات أكراد العراق بانتصار القوات الكردية في مدينة “عين العرب” السورية ودحرهم لتنظيم “داعش” وتقهقره خارج المدينة, باغتهم التنظيم بهجوم واسع على مدينة “كركوك” الإستراتيجية الخاضعة لنفذهم, واستطاعوا السيطرة على مناطق واسعة من المدينة ومنها حقل “خباز” النفطي قبل أن تستعيد قوات “البيشمركة” الكردية زمام المبادرة بوصول إمدادات إضافية من بقية مناطق الإقليم, ودعم جوي كثيف من قوات التحالف الدولي ليتم طردهم من المواقع التي سيطروا عليها, ولكن بثمن باهظ.
تنظيم “داعش” الإرهابي استغل حالة الجفاء بين الإقليم والحكومة الاتحادية, وعدم الانسجام والتنسيق بين قواتهما على الأرض, ومحاولات الأكراد طمس جهود وتضحيات القوات الغير كردية والتقليل من شأنها في الحرب ضد “داعش” كالجيش الاتحادي ومتطوعو الحشد الشعبي وأبناء العشائر العربية, وتصريحات المسؤولين الأكراد الغير مسؤولة لضم المناطق “التي تحررها “البيشمركة” المسماة “بالمتنازع عليها” إلى الإقليم, مع إعلانهم عدم المشاركة في جهود القتال ضد “داعش” في خارج هذه المناطق, بالرغم من الحكومة الاتحادية هي التي تنفق على “البيشمركة” من الموازنة العامة من خارج حصة الإقليم, وكان تأثير هذه الخلافات رسائل واضحة وأسبابا مقنعة “لداعش” لان تضع “كركوك” هدفا استراتيجيا لمعاركها القادمة, والثأر لتقهقرها في “عين العرب” من الأكراد.
وعلى حين غرة وتحت جنح ضباب يوم شتائي بارد, باغت إرهابيي تنظيم “داعش” مدينة “كركوك” بهجوم مباغت وسريع من ثلاث محاور قدمت من جنوب المدينة, وبأشرس مقاتليه من المنضوين بكتيبة “البتار” المشكلة في ليبيا خصيصا للزج بها في القتال في سوريا والعراق, فكان الهجوم درسا بليغا للأكراد, أعادوا خلاله تقييم حجم المخاطر التي تشكلها “داعش” وأنهت نظرية عدم التصادم معهم طالما كانوا خارج مناطق نفوذهم في العراق او سوريا, وازدياد الشكوك من قدرة “البيشمركة” على التصدي للتنظيم وحدهم دون إسناد القوات الأمنية الاتحادية او متطوعي الحشد الشعبي, واظهر الهجوم مرة أخرى قدرة التنظيم على التحشيد والمباغتة والمناورة والخداع وفشل تام في رصد تحركاته او توقع أفعاله, وثبت إن الضربات الجوية لطائرات التحالف الدولي ما زالت غير مؤثرة في قدرات التنظيم القتالية, رغم تأكيد مسؤولون عسكريون أميركيون من تحقيق انتصارات كبيرة على التنظيم, وقتل العديد من قادته ساهمت في استعادة بعض المدن والقرى التي كانت تحت سيطرته, وهذا يدل إلى انه من الصعب القضاء على تنظيم يقاتل باسلوب الكر والفر بحرب استنزافية, وتجنبه الاصطدام بمعارك حاسمة او حتى الاحتفاظ طويلا بالأرض ما لم تعزز القوات المتصدية له بجهد قتالي كثيف ينشر في المناطق الساخنة لتجنب عنصر المباغتة وتعويض ضعف الجهد ألاستخباري.
الهجوم على “كركوك” لم يكن الأول ولن يكون الأخير لأهمية المدينة الإستراتيجية والتي تفوق أهميتها الاقتصادية أهميتها العسكرية بكثير, حيث إن سقوط المدينة يعني توقفها عن تغذية الخزينة العامة بعائدات النفط, وبالتالي خنق الاقتصاد العراقي المترنح أصلا تحت وقع الهدر الهائل في المال العام وانخفاض أسعار النفط, ويؤدي إلى زيادة نسبة العجز الذي تشير التقديرات الرسمية انه سيكون بنسبة “25%” من حجم الموازنة, فيما تشير التقديرات الغير رسمية المنطقية المستندة على حجم الإنتاج وأسعار البيع الحقيقية وحتى من دون احتساب توقفات التصدير المفاجئة, تشير إلى إن نسبة العجز ستبلغ أكثر من ضعفي الرقم المعلن وهذا ما يضع الدولة على شفا الانهيار الاقتصادي, لهذا فمن المرجح أن تكون “كركوك” هدفا دائما لهذا التنظيم الإرهابي لشن حرب اقتصادية وتجفيف مصادر تمويل الحكومة, وإضعاف قدرتها على إدامة زخم القتال ضدها.
أهمية مدينة “كركوك” يحتم على الحكومة الاتحادية فرض سيطرتها على المدينة, ونشر القوات الاتحادية والمتطوعين إلى جانب قوات “البيشمركة” للدفاع عنها, فالاقتصاد العراقي لا يحتمل خسارة مصدر مهم من عائداته لتعنت الأكراد واستئثارهم بالمدينة, كما إن زيادة الاعتماد على نفط الجنوب إذا ما سقطت “كركوك” او دمرت حقولها ستزيد من حدة المطالب بأقلمة محافظات الجنوب أسوة بإقليم كردستان للتباين الكبير بين ما ينتجه الجنوب وبين ما يحصل عليه من عائدات, ناهيك عن خلخلة الوضع الاقتصادي بازدياد الانفاق على الحرب مع قلة الموارد, وهذا ما سيشكل الخطوة الأولى لتفتيت العراق وانهياره بتشكيل الأقاليم في ظل حكومة ضعيفة وأزمات أمنية واقتصادية مستفحلة ومزمنة, وجيش غير مكتمل النمو وصلاحيات دستورية واسعة للأقاليم تسمو على صلاحيات الحكومة الاتحادية التي ستتلاشى سلطاتها ولن تجد ما تحكمه في ظل الأقلمة.