23 ديسمبر، 2024 11:34 ص

داعش والشيوعية…والتكفير في بلاد العرب

داعش والشيوعية…والتكفير في بلاد العرب

لم ينتفض العقل الاوربي على الثالثوث المقدس نهاية القرن السابع والثامن عشر, الا بعد ان احس الناس بالقرف من الفكر الكنسي المتكلس,وان هواء الحرية عندهم بدأ ينفذ, قد تكون الثورة الفرنسية وعدد من الثورات التي سبقتها في اوربا البداية للتفكير بضرورة التغيير,او تكون لظاهرة انتشار فلسفة العقل في اوربا وعلاقتها بتفكيك رموزالمقدس الموروث والعادات الاجتماعية والسياسية القائمة ,هي المحرك الرئيس للتغيير الحضاري الشامل الذي تمتعت به تلك المجتمعات,

الا ان النتائج المتسلسلة والمتتابعة لثورة التحرر والنجاح في الانعتاق الديني والتبعي لسلطة الكنيسة والملك ,اثمرت مجتمعات اقرب للرفاهية والاستقرار الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي,ولكن انعطافة الانتكاسة او حاجة الاصلاح الاوربي الاجتماعي انتج ظاهرة ثورية غريبة عليهم,هي ثورة الفكر الماركسي والمد الثوري الشيوعي تجاه هيمنة السلطة الرأسمالية الارستقراطية الاوربية الحديثة ,وهي قوى مرحلة قادمة من تركات الانظمة القديمة ,مرتدية لباس منمق مؤسساتي اسمه البنوك والمصارف واسواق الاسهم والمال والاعمال,ثم تطورت صوره الى انماط ونماذج مختلفة كمنظمات ومنتديات التجارة والاقتصاد الدولية,الخاضعة لسلطة صندوق النقد والبنك الدولي,وهي سلطة اليهود واصدقائهم في العالم او القرن الامريكي الجديد,

وكعادة الشرق والعرب تحديدا ,استوردت تلك الافكار,واخترق جسد امتنا العربية والاسلامية بشكل خطير ومؤثر,فصارت لدينا ثلاث قوى تتصارع للهيمنة الفكرية والسياسية في بلادنا العربية(القومية- اليسارية الشيوعية –اليمينية الاسلامية),في بلاد ومجتمعات منهكة خارجة من رحلة طويلة من الفوضى والتخلف والجهل المتعمد او المركب كما يسميه علماء الاجتماع, الذي فرضته الظروف الحياتية الصعبة المتمثلة بسلطات الامبراطورية العثمانية القبيحة ,والقوى الاستعمارية القادمة بعدها,علما ان نجاح الاحزاب والحركات القومية عموما في التسلق على رقاب الشعب لاستلام الحكم والسلطة في معظم البلدان العربية,هو نتاج رفض الشارع العربي للتيارين المتطرفين الاخرين(اليساري الشيوعي المنتفض ضد الاديان,والقوى اليمينية الاسلامية المعارضة لها),

مع ان القوى اليسارية استطاعت ان تضع لها اقدام ثابتة في معظم البلدان العربية(من اليمن مرورا ببلاد الرافدين والشام وصولا حتى شمال افريقيا حتى السودان),لكنها فشلت في تحقيق نصر سياسي ملحوظ في اي من تلك الرقع الجغرافية رغم اتساع دائرتها الجماهيرية,ولعل انتفاضة بدر شاكر السياب كما يقال بعد خروجه من الحزب الشيوعي العراقي ,وتهجمه على قيادات الحزب المحلية والاممية,وسقوط قيادات الحزب بين معتقل وهارب وفاسد,ادت في النهاية الى صعود نجم الحركات الاسلامية بشكل كاسح في نفس تلك المنطقة,ومن هنا يمكن الايجاز في تحديد اسباب انتشار ظاهرة التكفيرعند الحركات التكفيرية وعلاقتها بالحركات الشيوعية منها مايلي:

اولا:لغة التحريم والتكفير المستمرة للمسلم وعلى مدى اكثر من اربعة عشر قرنا,وقد كانت سيفا مسلطا في زمن النظام الاموي والعباسي ضد المعارضين(بتهم الزندقة والردة والالحاد)

ثانيا:عدم وجود لغة وسطية معتدلة عند الحركات الاسلامية المعتدلة,بحيث انها تعتبر تارك بعض الفرائض الاسلامية المهمة او العادية اشبه بالانسان الكافر,حقيقة كان بعض الاخوة في بلاد المهجروصدمته بترف الحركات الاسلامية,ودجل الاخرين المختفين خلف زهد الامام علي ع,ادت بهم تلك الحالة الى ترك الفرائض الاسلامية المهمة,لكن هل يمكن اعتبار هذه الظاهرة مرضا او ازمة نفسية,يلتمس لها العذر لتخفيف لغة التهجم والقذف والتكفير,علما ان المحاكم الاوربية اليوم تعطي للحالة النفسية لاي انسان متهم او مذنب او مرتكب جريمة معينة اولوية قصوى في قراراتها.

ثالثا: انتشار الشيوعية ,ومن ثم ظهور التكفيريين داعش وغيرها من الحركات الفوضوية بعد ثمانية عقود تقريبا,نجد ان بينهما علاقة ورابطة وثيقة, الاولى سبقت الحركات الاسلامية بتدمير البنية الاخلاقية الاسلامية بقصد او بدونه,وهي بنية (اي الاسلامية)وحيدة متمكنة يمكن الاعتماد عليها في بلداننا بشكل كبير,اذا ما اعتبرنا ان بنيان العادات والتقاليد الاجتماعية البدوية اوالقبلية العشائرية ,هي ثقافة خاصة صدامية معارضة للنظام والقانون والسلطات الحديثة,فالشيوعية ادت الى ظهور عادات اجتماعية مقززة(الفلاح والعامل الشيوعي الذي تحرره مثلا من سلطة الدين,ماهي القوى الاخرى التي يمكن ان تكبح عطش العرب والعراقيين مثلا للجنس ,للفوضى ,للكذب ,للغش ,للهرب من المواجهة,مع وجود بالطبع حالات شيوعية مثالية لكنها نادرة وقليلة)

رابعا:مرة اخرى نقول ماهي العلاقة بين داعش والشيوعية,الشيوعية كما قلنا سابقا مهدت لفكر خارجي مزج وقارب بين ثورة اوربا ضد الكنيسة ,وبين المسجد او الاسلام,وهناك فرق شاسع وواسع بين المسيحية والاسلام,داعش نتاج طبيعي للهدرالهائل الذي حصل خمسينيات وستينيات القرن الماضي ,لمعظم جهود المفكرين والمثقفين والادباء والفنانين,التي اصطدمت بجدار المحرمات الاسلامية المصطنعة او المخلوقة,فعادت لتصطدم مرة اخرى بالفكر القومي الثوري ,المؤمن بلغة العنف والقوة والاجتثاث والانقلاب كما يقول عفلق في رسائله للبعث,فلم يجد هؤلاء الا الفكر الماركسي والثقافة الشيوعية المتحررة وسيلة لاحتوائهم وتبويب مواهبهم وافكارهم وطموحاتهم المتصاعدة وتيرتها وسقوفها….

من المذنب في كل هذه الفوضى الاخلاقية والاجتماعية والدينية,

المذنب هو المتطرف الذي يحاول ان يفرض رأيه بقوة على الاخرين,

والمذنب الرئيسي هو الاسلاميين الذي يروجون لثقافة الحرام القاسية ,بقائمة طويلة من المحرمات,واخطر مواد او فقرات التحريم هي تلك التي تعيد صورة سيف خليفة المسلمين المسلط على رقاب المسلمين,كما تفعل داعش اليوم بالمسلمين وغيرهم,فلوعدنا الى مناهج وثقافة داعش ,لوجدنا ان قسما من قوانين الذبح المطبقة بحق الابرياء موجودة في قوائم المحرمات السنية والشيعية(كما يذكر الباحث السعودي حسن فرحان المالكي في اكثر من بحث ان ظاهرة رجم المرأة المتهمة بالزنى وصلت الى الشيعة عن طريق السنة ,والتي وصلت بدروها لهم عن طريق اليهود وليس الرسول محمد ص),اضافة الى ذلك ان الاسلاميين او مراجع ورجال الدين المتصدين للدراسات والفتاوى الاسلامية لايمارسون دورهم كاملا في التصدي لمختلف المسائل الاجتماعية والسياسية (الا ماندر,كتجربة السيد السيستاني في العراق ,وهي تجربة تاريخية مهمة),بضرورة ايجاد المناخات الملائمة لتطبيق مختلف الاحكام الشرعية الواقعية,اي كما يقول السيد محمد حسين فظل الله ان الفتوى التي تخرج من مرجع جالس بالنجف ,تختلف بالضرورة عن الفتوى التي تخرج من مرجع يعيش في لبنان,

اي على المراجع ان يراجعوا جملة من الاحكام الشرعية الاسلامية(مراجعة وليس الالغاء) ,التي وردت في القران الكريم ,وقد طبقت حصرا في عهد الرسول محمد ص(اي على سبيل المثال لا الحصر قطع يد السارق,القتل او الدية,تعدد الزوجات ومسائل او شروط الطلاق,اقامة نظام حكم اسلامي),هناك حاجة فعلية لاعادة دراسة تلك الاحكام ,وفقا لوضعية الدول الاسلامية الحالية البعيدة عن النظام والشريعة الاسلامية,والالتزامات الاجبارية المتعلقة بالعهود والمواثيق والاتفاقات الدولية.

مانود قوله ان الفلسفة العقلية الاوربية اخترقت اعماق التاريخ الاجتماعي(دراسة حضارات وتاريخ الشعوب والامم,والبيئات والجغرافيات والمروروثات الثقافية) والبشري (علاقة العقل بالاديان والاساطير)والمسيحي(الكهنوتي) وفككته عقليا,حتى ازاحت الكنيسة الى خارج اسوار المدنية وحولته الى هياكل عبادة المسنين,ومؤسسات او دولة مغلقة خارجة عن العصر(دولة الفاتيكان),ولهذا تتخوف المؤسسات الاسلامية من ادخال مادة الفلسفة في مناهجها الدينية ,خوفا من تلك التجارب الصعبة,

لكن نعود مرة اخرى لتحيد المفاهيم والاسباب المحيطة بها,ماهي العلاقة الحقيقية بين الشيوعية وداعش,نقول باختصار ان انتشار الشيوعية والالحاد في المدن المقدسة دليل على صراع التناقض الفكري,ولنأخذ مثلا مدينة النجف الاشرف ,وقم ,وبلاد نجد والحجاز مكة,الاولى كانت من اكثر محافظات العراق احتضانا للفكر الشيوعي,وكذلك قم المدينة المكروهة (لقدمها وغلاضة اهلها) في العاصمة طهران وبقية المدن الايرانية,وعندنا تجربة الوهابية في الحجاز,حيث تذكر المصادر ان نسبة الالحاد في تلك الارض المقدسة يعد ظاهرة خطرة ,تفوق نسبتها جميع البلدان الاسلامية,اذن ظاهرة داعش وليدة حقب ثقافية متصحرة لم تهتم بالاخلاقيات الاجتماعية والسياسية بشكل صحيح,

فتحت الاجيال اعينها على الحداثة لتجد ان اغلب المثقفين والفنانين والمعلمين والعاملين هم ممن يحمل الافكار الماركسية الشيوعية ,فيما يقف في الطرف الاخر المؤسسات الاسلامية(الشيعية والسنية),يواجه ظاهرة غريبة تقتحم اسواره العتيقة بقوة(ولعل لتجربة ورحلة الشاعر العربي الراحل الجواهري خير مثال على جملة من التحولات التي عاصرها الشاعر),وبقيت الحركات القومية متربصة في الوسط السياسي ليتاح لها كسب المعركة في نهاية الصراع ,معركة الاستيلاء على الحكم,

هذه الحالة سببت لنا واقعا مظلما في القرن العربي الجديد(دول الربيع العربي الديمقراطي) لاخيار فيه,اما الحركات الاسلامية واما الانهيار,

فجاءت لعبة الهيمنة الرأسمالية العالمية (الامبريالية الصهيونية) ,التي اعادت على ما يبدوا ظاهرة الحرب الباردة الى المنطقة,مندفعة بكل قواها في مسك خيوط اومشروع تقسيم المنطقة والسيطرة على ثرواتها (بين امريكا والاتحاد الاوربي) واسواقها,بزراعة الفتنة الطائفية بين مكونات المجتمع العربي المختلفة,

عن طريق ايجاد حركات اسلامية شيعية تهيأت لها الظروف لاستلام الحكم في العراق,ثم يستنهض الخليج حركات تكفيرية قادمة من واقع ثقافي بدوي قبلي متوحش,فتحدث كارثة الاصطدام الطائفي في المنطقة,فتشيع الفوضى حتى بدأت تسحق كل شيء امامها,

خلاصة ….اخيرا اود ان اقول ان الشيوعية مهدت للحركات التكفيرية على مهل,لان مجرد ظهور الفكر الماركسي والشيوعي في البلدان الاسلامية,تعني ان الحركات الاسلامية القادمة ستزيد من قوائم وفتاوى التحريم والتكفير,وهذا ماتعيشه البلدان العربية جميعا تقريبا,من فراغ ثقافي رهيب,وكاننا دوما بحاجة الى لورنس العرب(اضافة الى الفكر المتطرف الذي انتشر بعد ظاهرة الافغان العرب في المقاتلين في افغانستان),….