تناولنا في المقالين السابقين موضوع داعش الاسباب ثم داعش الجذور حيث تناولت فيها الجذور التي تم اخذ فكرة داعش منها وعملية تخليق ذلك الكائن الزئبقي والان سوف اتناول موضوع كيف ولدت داعش وماهي المنطلقات التي تمت عملية الولادة على اساسها حيث إن معرفة ظروف ولادة هذه الحركة ، وأهم مبادئها ، وصور نشاطها، وواقع انتشارها كل ذلك يمكن من تقويم هذه المشكلة المزمنة المستعصية، ومعالجتها تحت رؤية مثالية واقعية ، بعيداً عن الغلو والجفاء والإفراط والتفريط والانفعالات التي لا تنتج حلاً، ولا يُوصل من جرائها إلى دواء نافع . .
أول ما يجب إبرازه عن هذه الحركة هو ظروف ولادتها حيث اعتادت كافة المصادر التي تناولت داعش بان تكرر نفس البداية من ان داعش قد كانت نتاج اندماج عدد من التنظيمات أبرزها (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين ) وكان يقوده أبو مصعب الزرقاوي، و(مجلس شورى المجاهدين في العراق)، و(جند الصحابة), الا ان هذه الواقعة هي في الحقيقة نتاج ظروف تم تهيئتها منذ عام 1976 مع ازدياد علامات الوهن الذي بدا يظهر على الامبراطورية السوفيتية والتي بدأت منذ تولي ليونيد بريجينيف امانة سر الحزب الشيوعي السوفيتي منتصف الستينات.
ادى تولي شيوخ الحزب الشيوعي السوفيتي لزمام السلطة بعد التخلص من خروتشوف بانقلاب عام 1964 الى ان يدب الوهن في اوصال الدولة السوفيتية وبالرغم من ان بريجينيف قد حاول في البدايه اتباع طريقا وسطيا بين قبضة ستالين الحديدية واسلوب خروتشوف في الحكم الا ان الوهن الذي اصاب الزعيم السوفيتي صحيا بدا ينعكس على صحة الاتحاد السوفيتي ولم يبقى سوى رصاصة النهاية هذا الوهن التقطته العين الخبيرة لواحد من ابرع المنظرين السياسيين وهو زبينغو بريجنسكي .
كان بريجنسكي المتشبع بافكارالفيلسوف البلغاري تزفيتان تودوروف، حول خطاب تعايش الذات مع الآخر؛ والفيلسوف الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، حول الشرط ما بعد الحداثي والتصارع بين الحكايات الصغرى والحكايات الكبرى؛ وأخيراً إلى أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه، حول جماليات الإنهيار الحضاري قد اصدر عام 1970 كتاب بعنوان (أمريكا بين عصرين – أمريكا والعصر التكنوتروني) توقع فيه انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، ثم الانهيار الأمريكي بعد عقدين إلى ثلاثة عقود من ذلك. حاول في طيات ذلك الكتاب الاجابة على سؤال كان يؤرق عقول السياسة الامريكية وهو ما الذي تحتاج إليه أمريكا لاستعادة نشاطها، والانخراط في الديناميكية الجديدة في الشرق الأوسط؟
للاجابة على هذا السؤال ذكر بريجنسكى أنه يسعى من خلال كتابه إلى تقديم خطة استراتيجية لأمريكا لتحقيق الرؤية الجيواستراتيجية المستهدفة لاستمرارها في الريادة الدولية والعالمية؛ فقد سعى من خلال طيات كتابه إلى إجراء تقييم مباشر للتحديات التي تواجه أمريكا ونقاط القوة الفريدة في أمريكا واستغلالها لتقديم مخطط شامل للنجاح والعمل، واستنادًا إلى دورها التاريخي بأن تساعد على تطور الديمقراطية في الغرب؛ وتروج للاستقرار في الشرق بحسب رؤية بريجنسكي . وفي نفس الفترة كان هناك طالبة مجتهدة في جامعة دنفر تدعى كوندليزا رايس سيكون لها اثر كبير في استيلاد داعش حيث كانت لاتخفي تاثرها بهانز مورجنتاو وكتابه (بين سياسات الامم)، والذي يعتبر أحد اعمدة الفلسفة الواقعية في امريكا الذي كان يدعو الى أن السياسة الدولية ككل سياسة هي صراع من أجل القوة، وأن سلوكيات الدول تحركها حوافز الحصول على مزيد من القوة و التسابق لزيادتها باللجوء إلى الوسائل المتاحة ، فعامل القوة بحسب مورجنتاو يحكم العلاقات الدولية منذ القدم، وإن العلاقات الدولية محكومة بعلاقات الصراع من أجل القوة.
عام 1977 تم استدعاء بريجينسكي الى البيت الابيض لتولي منصب مستشار الامن القومي للرئيس جيمي كارتر ورئيس لهيئة كبار المديرين التي يشارك فيها كل كبار المسؤولين في الادارة الامريكية: رؤساء اجهزة الامن والجيش والاستخبارات والاذرع الحكومية. وهي هيئة أسست بعد أزمة الصواريخ في كوبا عندما ولدت الحاجة لتشكيل اطار تفكير من دون الرئيس يتضمن كل الاذرع ويجري نقاشات ومداولات وعصف ذهون من دون الحاجة للخضوع تحت رأي الرئيس ليقوم بمهمتين اساسيتين الاولى ان يكون مسؤولا عن اطلاق رصاصة النهاية على جثة الاتحاد السوفيتي استنادا الى نظرياته التي اطلقها عام 1970 وتجنيب الولايات المتحدة المصير الذي تنباء به . فور تسلمه مهام منصبه توصل الى ان التعجيل في نهاية القطب السوفيتي يحتاج الى توريطه في فيتنام سوفيتيه لذلك بدأ البحث عن افضل مكان لذلك الا ان ماكان يعيق اطلاق مثل هذه العملية هو ماتوصل اليه من ان تشظي الامبراطورية السوفيتية سيتبعه حتما ظهور التنين الصيني وقد صاغ توقعاته هذه في كتابيه (رقعة شطرنج) و(خطة لعب) حيث توصل الى ان افضل وسيلة لمواجهة هذه الإمبراطورية تطويقها بحزام إسلامي اخضر يستدعي شكلا من الانبعاث العثماني القادر على التمدد في آسيا وإفريقيا يبدأ من الفليبين
واندونسيا وفيتنام من جنوب الصين وجنوبها الشرقي، مروراً ببعض الدول الاخرى التي تقع ناحية الجنوب الغربي لها، الى بعض الدول التي تتموضع على حدود روسيا جنوباً، وصولا الى ايران لجهة الخليج، لتمر عبر دول المشرق العربي، صعوداً الى القوقاز وحدود روسيا الغربية من جديد حيث أعاد الاعتبار لنظرية قلب العالم (اورو- آسيا) وتحدث عن أهمية المجال الحيوي لهذا القلب ويتضمن أفغانستان و«الشرق الأوسط» وغيره وتوقف عند تركيا وإيران والعراق وسورية ومصر الأولى كشريك والبقية كعدو ينبغي تفكيكه وإعادة تركيبه فالصين تحدها 14 دولة متعددة اغلبها تحتوي على نسبة سكانية اسلامية (الجنوب تحديداً)، ناهيك عن وجود الاقلية المسلمة الايغورية في اقيلم تشينجيانغ (والايغوريون تربطهم اصول تاريخية مع تركيا ولها تأثير سياسي عليهم) والمتصل بوادي فرغانة الذي يعتبر “الخزان الرئيسي للحركات الإسلامية الراديكالية، التي تتطلع لإقامة دولة إسلامية في المنطقة”، ويتشكل معظم سكانه من “المحافظين دينياً”. فكما يمكن خلق ازمة عبر “الاسلام السياسي التكفيري” في الدول الحدودية، يمكن افتعالها داخل الصين ذاتها. في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”، يقول بريجنسكي عن المنطقة التي يشملها “الحزام” بأنها شاسعة جداً، وهي التي (تمزقها الاحقاد المتأججة والتي يحيط بها جيران منافسون اقوياء، مرشحة لان تتحول الى ساحة معركة كبرى للحروب فيما بين الدول القومية، وعلى شكل ارجح، للعنف العرقي والديني طويل الامد). لذلك فقد ارتكزت على مبدا السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط التى تلعب حجر الزاوية فى هذا المشروع كونها توفر التمويل الضروري للمشروع بالاضافة الى وقوع المنطقة على تقاطع الطرق فى العالم القديم مما يتيح لأمريكا تهديد الصين منافسها الأبرز الآن مستقبلا، وثالثها ضعف بلدان المنطقة مما يُسهل السيطرة عليها،الامر الذي يحقق الهدف النهائي في احتواء الصين بالدرجة الأولى ثم روسيا التي ستخلف الاتحاد السوفيتي بالدرجة الثانية ثم الهند فايران .
بدات الخطة باستدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك عن طريق تسريب معلومات عن مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان وكانت الحصيلة استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية،وفي يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً، كتب بريجنسكي مذكرة للرئيس كارتر قال فيها ما معناه:(الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الاتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به)
لتبدأ بعدها المرحلة الثانية وهي المرحلة القائمة على انشاء البنى التحتية لأفاق الأصولية الإسلامية المتطرفة وتحركاتها، عبر حركة طالبان في مواجهة السوفيات في أفغانستان وقبل نهاية الحرب الباردة. على اعتبار ان تلك القوى الاصولية سيكون بإمكانها بما لديها من دعم جماهيري قاعدته الإسلام أن تشكل بدائل حقيقية للنظم الاستبدادية القائمة في الشرق الأوسط، من جهة، وأن تكبح جماح حركات اليسار المناصرة للاتحاد السوفييتي ــ قبل انحلال عقده ــ وان تكون اساس لخلق حزاما ناريا امام تطلعات الصين في الزعامة الدولية . كانت الخطة الاساسية تقوم على ثلاث محاور تلعب فيها واشنطن دور الموجه والمخطط على حين تقوم بنوك الخليج بتمويل العمل بعد أن تكون «ثقافة الجهاد» قد استشرت في أرجاء العالم الإسلامي حيث ستتولى المهمة أساطيل الإعلام العربية والغربية على حد سواء. وعلى هذا الاساس تم رسم مشروع “العرب الأفغان الجهاديين” والذي ولدت من رحمه منظمة القاعدة استوحت افكارها وقوالبها من الأيديولوجيات الفكرية المتجذّرة عميقاً في التاريخ الإسلامي، لشخصيات أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم القائمة على تكفير المخالف حتى وان اشهر اسلامه .
كان التحدي الثاني يعتمد على ايجاد التمويل المناسب وهنا يظهر دور النفط الخليجي من خلال دفع تلك القوة الاقتصادية الى محاولة بناء خط دفاع ضد المد الشيوعي واليساري خلال السبعينات والثمانينات من خلال منظمتي رابطة العالم الاسلامي ومنظمة المؤتمر الاسلامي ونتيجة لعدم توفر العنصر البشري في دول الخليج القادر على بناء فكر عقائدي مقبول في الاوساط الاسلامية ادى ذلك الى الاعتماد على استقطاب عناصر وأعضاء من جماعة الأخوان المسلمين من مصر وبلاد الشام وتركيا المتشبعين بافكار وايديولوجيات سيد قطب وقد شهد عقد السبعينيات والثمانينيات انتشار واسع لكتب سيد قطب وحسن البنا والمودودي بفضل الدعم المالي من الخليج العربي . وللمصادفة التاريخية فقد حصل التدخل السوفيتي بعد ثلاثة اسابيع من انتهاء حادثة جهيمان في الحرم المكي مما عجل في اندفاع دول الخليج وخصوصا السعودية الى تشجيع الشباب المتاثر بافكار المتطرفة على الالتحاق بالمجاهدين الافغان العرب .
كانت البداية بظهور كتاب سيد إمام الشريف المصري الجنسية والذي يلقب باسم عبد القادر بن عبد العزيز واسمه الحركي دكتور فضل المعنون باسم ( العمدة في إعداد العدة ) والذي يعتبراول مرجع تم توزيعه في مخيمات التدريب ثم دعم عبد الله عزام احد الاساتذه في جامعة الملك عبد العزيز السعودية لتأسيس مركز على الحدود الباكستانية الافغانية عام 1984 باسم مكتب خدمات المجاهدين لتسهيل انتقال الشباب العربي الى داخل افغانستان تحت شعارالجهاد ضد الكفرة الشيوعيين وقامت الجماعة الاسلامية في السعودية بتمويل من مجموعة بن لادن رحلات الى باكستان كان من ضمنها الشاب اسامة بن لادن الابن السابع عشر لمحمد بن لادن وتم انشاء معسكرات ضخمة في جبال تورا بورا بتمويل من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA بعلم من الحكومة الأمريكية قدرت بثلاثة مليار دولار وفي عام 1984م ظهر أول نموذج لعمل مؤسسي لجهاد العرب في أفغانستان وهو بيت الأنصار في بيشاور. واعتبر بيت
الأنصار محطة أولى واستقبال مؤقت للقادمين العرب للجهاد في أفغانستان قبل توجههم للتدريب ومن ثم للمساهمة في الجهاد. كما وجد المشاركون في هذا الجهاد تسهيلات غير مسبوقة من كل من باكستان والسعودية، ابتداء من التذاكر المجانية أو المخفضة، إلى الوجود في باكستان دون إقامة قانونية أو بتسهيلات، إلى عبور الحدود من وإلى أفغانستان بمختلف الأسلحة ودون أي قيود
وفي عام 1986 تم انشاء ستة معسكرات لتدريب وتجنيد الشباب الحالم بمغامرات الجهاد والشهادة في سبيل الدين وفي عام 1988 تم انشاء قاعدة معلومات باسم سجل القاعدة تشمل تفاصيل كاملة عن حركة المجاهدين العرب قدوماً وذهاباً والتحاقاً بالجبهات. وأصبحت السجلات مثل الإدارة المستقلة ومن هنا جاءت تسمية سجل القاعدة على أساس أن القاعدة تتضمن كل التركيبة المؤلفة من بيت الأنصار – أول محطة استقبال مؤقت – للقادمين إلى الجهاد قبل توجههم للتدريب ومن ثم المساهمة في الجهاد ومعسكرات التدريب والجبهات. واستمر استعمال كلمة القاعدة من قبل المجموعة التي استمر ارتباطها بأسامة بن لادن.
مع انسحاب القوات السوفيتيه وانحلال الاتحاد السوفيتي بداية عقد التسعينات ظهر انقلاب في السياسة في واشنطن بدأ الاعداد له منذ زمن طويل، تقوم به جماعة صغيرة من المحافظين الجدد، معظمهم من اتباع الفيلسوف الالماني الاصل ليو شتراوس (1899 – 1973) . والتي جائت بمشروع العالم أحادي القطب، المستوحى من أفكار شتراوس التي طرحها في كتابه “حول الاستبداد”، حيث اعترف شتراوس بحق القويّ التسلّط على الضعفاء؛ لكنه يرفض إساءة استخدام السلطة، إذ ينبغي على الحاكم أن يقدم للشعب ما يتناسب مع قابلياته وحاجاته التي لا تتشكل من الحرية أو السعادة أو الملكية الخاصة؛ بل من خلال تحويل الجمهور الى قطيع. من خلال التفكير في بناء القرن الحادي والعشرين على أساس السيادة الأميركية على العالم، ومنع القوى الأخرى من السير في طريق النمو و التطوّر الذي سيؤدي ولو بعد حين الى منافسة نفوذ أميركا ومصالحها بشكل جدّي وحاسم. من خلال الاعتقاد بأن القوة الأمريكية عملت في السابق، ويجب أن تعمل في المستقبل لأجل أهداف أخلاقية على المسرح الدولي، وهذا يعني اضطلاعها بالمسؤولية الأمنية، والريادة في تحديد خيارات السلم والحرب، وكذلك انفرادها بالقيادة، مما يقود إلى تحدي قوى الممانعة التي تريد تقليص الدور الأمريكي عالمياً.والاعتقاد بأن خطط التنمية الاقتصادية، والإصلاح الاجتماعي في دول العالم الثالث غير مقدر لها النجاح بدون تغيير في بينة الأنظمة السياسية، وعليه فإن الحلول الأمريكية الموجهة لا بد وأن تعتني بالظواهر وليس بجذور المشكلات مثل الفقر والنزاعات العرقية، لأن أمريكا لن تكون قادرة على حل جذور هذه المشكلات، ولهذا ينبغي أن يكون التركيز على حلول عملية وقصيرة المدى للمحافظة على ديناميكية التدخل الأمريكي في بؤر التوتر حول العالم.والاعتقاد بأن مؤسسات النظام الدولي وفق هيئتها الحالية هي مؤسسات عاجزة عن تحقيق الأمن والعدالة بمقاييس المصلحة الأمريكية. ولهذا فهناك عزوف عن الاعتماد على المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، والتأكيد على قدرة الولايات المتحدة على إقامة تحالفات، واتفاقات جانبية مركزة لحل مشكلات أمنية وقانونية كل على حدة.
انطلاقا من تلك المعتقدات تبنى المحافظون الجدد (وثيقة برنارد هنري لويس ) المستشرق بريطاني والمؤرخ المختص في الدراسات الشرقية الإفريقية بلندن ومنظرسياسة التدخل الأمريكية في المنطقة العربية أثناء إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش التي وضعها سنة 1983. الذي دعى من خلال كتبه: “حرب مدنسة و إرهاب غير مقدس” “أزمة الإسلام” “مستقبل الشرق الأوسط” “العرب في التاريخ ” “الحداثة في الشرق الأوسط الجديد”… الخ لتفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية و مذهبية استنادا الى طبيعة التركيبة القبلية و العشائرية للدول العربية. هذا التحول ادى الى التغيير في طريقة استخدام الحركات التي سعى بريجنسكي ومدرستة التي تسمى الواقعية السياسية الى انشائها مما استدعى تغيير الوجوه القديمة لقطع الصلة بين الجيل القديم والجديد فتم اغتيال عبد الله عزام بسيارته في الطريق من بيته في بيشاور إلى مركز الخدمات، حيث وضعت ثلاث قنابل كان الهدف منها بالتأكيد ألا يفلت عبد الله عزام وقتل معه أبناؤه الثلاثة في يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989.
ادت خسارة جورج بوش الاب للانتخابات لمصلحة بيل كلينتون الى تعطيل مخططات المحافظين الجدد بصعود منظري الليبرالية الجديدة ويطلق عليها أحياناً «الويلسونية»، وابرزهم بيل كلينتون بالاضافة الى مادلين أولبرايت وجوزيف ناي، وجون لويس غاديس وهي أقرب إلى نموذج تبشيري للقيم الليبرالية الأمريكية، وهناك إيمان لدى أتباع هذه المدرس بأهمية المؤسسات الدولية، وتشجيع القانون الدولي، وقد سادت أطروحات هذه المدرسة حتى نهاية التسعينيات
وفي مطلع 1993 طلبت باكستان من العرب مغادرة أراضيها وقالت إن هذه تعليمات من أميركا وخلفها بعض الدول العربية.فبقي بعضهم في أفغانستان مستقلا أو داعما لأحد طرفي الحرب الأهلية، ومنهم من ذهب للجهاد في البوسنة أو الشيشان، ومنهم من دخل في صدامات في بلاده مثل مصر والجزائر، ومنهم من عاد إلى بلده، خصوصا السعوديين واليمنيين، ومنهم من لجأ سياسيا إلى أوروبا، ومنهم من ذهب للإقامة في السودان واليمن وكانتا لا تلزمان العرب بتأشيرة دخول أو إذن إقامة.
عندما انتهت صلاحية تنظيم القاعدة أميركياً في العام 1989 أخذت تقوم بما يمكن تسميته (عمليات لفت نظر) كالهجوم على المدمرة الأميركية في السواحل اليمنية والهجوم على السفارة الأميركية في نيروبي وقد كشفت أدبيات التنظيم بعد بأن العدو الذي كانت تحاربه في السابق (الاتحاد السوفييتي) ما هو إلا الشيطان الأصغر، على حين إن الحليف السابق (الولايات المتحدة) هو الذي يمثل الشيطان الأكبر الذي تجب مقارعته في كل زمان ومكان.
ادى فوز جورج بوش الابن في انتخابات عام 2001 الى عودة المحافظين الجدد بقوة والذين شرعوا بمجرد عودتهم الى وضع الخطط لتنفيذ استراتيجيتهم بفرض النموذج الامريكي بالقوة وكانت البداية في افغانستان للسيطرة على عقدة المواصلات في اسيا الوسطى لكبح اي طموح للصين وروسيا في تحدي مشروع القرن الامريكي ثم الانتقال الى العراق للسيطرة على منطقة الشرق الاوسط وتحقيق الاهداف التي نادى بها برنارد هنري لويس .
كان اول خطوات تحقيق هذا الهدف قد بدأت قبل بداية الحرب على العراق من خلال الايحاء لصدام حسين بان احتضان الحركات السلفية الجهادية سوف يردع الولايات المتحدة من الهجوم على العراق خشية من انتقام تلك الحركات وخوفا من قيامها باستهداف المصالح الامريكية في العالم كما كانت تهدد قبل لحرب فقام صدام حسين بفتح الابواب امام الالاف من المقاتلين الاجانب والذين ثبت ان هدفهم لم يكن مقاتلة الامريكان بقدر ماكان الاستعداد للتمركز في العراق لاتخاذه قاعده لنشاطاتها في المنطقة بعد سقوط النظام وهو ماحصل فعلا بسقوط صدام حسين واختفائه من الملعب بالاعدام . ولاحقا تم استخدام نفس الخطة لاقناع بشار الاسد لفتح الباب امام تلك المنظمات للتمركز في سوريا واخذت تلك حركات تستخدم الاراضي السورية وامكانيات المخابرات السورية لبناء معسكرات التدريب وتسهيل دخول المقاتلين الاجانب الى العراق تحت شعار مقاتلة الامريكان قبل ان ينقلبوا عليه لتحقيق الاهداف الامريكية في السيطرة على المنطقة .
بعد دخول القوات الامريكية الى بغداد اعتقد المحافظين الجدد بانهم اصبحوا على قاب قوسين او ادنى من تحقيق حلمهم بل ان طالبة جامعة دنفر السمراء كوندليزا رايس والتي اصبحت لسان حال الرئيس الامريكي لوحت بخارطة الشرق الاوسط التي حلم بها برنارد علنا ولكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر حيث استطاع حزب الله ان يفشل مخططات السعودية في السيطرة على لبنان وتحويله الى مخلب قط سعودي في خاصرة الحلف الايراني السوري واضطر السعوديين الى الانسحاب من الملعب اللبناني بعد ان استثمروا مليارات الدولارات في دعم رجل السعودية في لبنان سعد الحريري الذي اثبت انه ليس بكفائة وخبرة والده الراحل رفيق الحريري. كما فشل الامريكان بالاحتفاظ ببقاء مريح في افغانستان وكان من الواضح ان تاثيرهم في العراق بدا يضعف لصالح التاثير الايراني .
في هذه المرحلة تم تجميع بقايا القاعدة من مختلف ارجاء الارض في محاولة للتشبث باخر امل للبقاء في العراق واصبحت تعمل تحت مختلف التسميات منها (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين ) وكان يقوده أبو مصعب الزرقاوي، و(مجلس شورى المجاهدين في العراق)، و(جند الصحابة) و ( جيش الطريقة النقشبندية ) …. الا انها كانت ضعيفة التاثير وكان الملاحظ عليها امرائها كانوا جميعا من غير العراقيين . لذلك وكما تطلّب خلق تنظيم القاعدة، اسماً علماً معروفاً، ينتمي لعائلة كبيرة من الحضارمة كان لها تاريخها الاقتصادي في السعودية، فكانت أسرة بن لادن أحد أكثر الأسر السعودية شهرة وتأثيراً، كان الوضع في العراق ذو الطبيعة الأقرب للمدنية في معظم حالاتها، المبتعد في تاريخه الحديث عن العشائرية والاقتصاد الفردي، كان يتطلب شخصاً من نوع آخر ومن منبت آخر، فكان البغدادي المنسوب إلى العاصمة العريقة مهما اختلف وتنوّع أصله وتشعبت جذوره . كما تم اجراء مسح للاشخاص الموجودين في مراكز الاحتجاز الامريكية لاختيار رجال يكونوا واجهة للتنظيم الجديد وفق معايير محددة اهمها :
1. تاريخ الشخصية منذ ولادته وطرق تربيته ومجموع الخبرات المكتسبة التى تؤثر فى تكوين شخصيته.
2. العوامل الداخلية والمتمثلة فى مجموع الصفات التى يولد فيها الشخص والتى يكون مزوداً بها وهى ذات تأثير على طباعه وسلوكه وعلاقته بالاخرين.
3. المؤثرات الخارجية وتشمل مجموع المثيرات البيئية التى يستقبلها الفرد ويستجيب لها وتؤثر فى تصرفاته.
في هذا الاثناء عاد الى الواجهة الثعلب العجوز بريجنسكي عن طريق تعيينه مستشارا للحملة الانتخابية للسياسي الصاعد في ذلك الحين باراك اوباما ومذكرا بما جاء في كتابه ( الانفلات من العقال ) بان التاريخ لم ينته بعد على طريقة فوكوياما بل انضغط وتكثف على طريقة بسمارك ومعلنا (لقد جرى إعلان إفلاس الأنظمة التوتاليتارية، وهذا أمر مبهج. ولكن دور الدين في تعريف المفاهيم الأخلاقية أخلى مكانه أيضاً لأخلاقيات استهلاكية تتخفى تحت قناع البديل الأخلاقي).
ظهر المال القطري في محاولة للحلول محل المال السعودي ولكن هذه المرة باستهداف النظام السوري مباشرة لقطع حلقة الوصل بين ايران وحزب الله ثم السيطرة على لبنان بعد قطع التمويل والتسليح عن حزب الله وصولا الى بناء امبراطورية تمتد من العراق الى المغرب يكون قرارها محكوما من الدوحة عن طريق استخدام حركة الاخوان المسلمين . الا ان تحرك الجيش المصري بدعم من المال السعودي ادى الى افشال اول تجربة للاخوان المسلمين في الحكم وكسر الحلقة التي حاول اللوبي القطري بنائها ثم جاء صمود نظام الاسد مدعوما من قبل روسيا والصين وايران في مواجهة المعارضة المدعومة من قبل المال القطري والعمق التركي مما دفع اساطين السياسة الدولية الى الرجوع الى نظريات الاحتواء المزدوج بالاستعانة بالحركات التكفيرية .
صدرت شهادة ميلاد داعش الحقيقية بعد الزيارة التي قام بها السيناتور الجمهوري جون ماكين الى ادلب ولقائه بالمعارضة السورية في حزيران 2013 عبر الحدود التركية السورية وكان ممن حضروا ذلك اللقاء أبو بكر البغدادي الذي طرح موضوع رد الفعل الامريكي اذا سيطرت قوى إسلامية على مناطق في سورية أو في العراق . وكانت البداية قيام التنظيم بحملة اطلق عليها “كسر الجدران” شملت عشرات الهجمات على السجون العراقية وادت الى الافراج عن المئات من معتقليه، وخصوصاً من سجني التاجي وأبو غريب . وبهذا تم فتح صندوق باندورا لتنطلق كل الارواح الشريرة لتبث سمومها في جسد المنطقة .