22 نوفمبر، 2024 2:10 م
Search
Close this search box.

داعش .. المخَاض الأخِير للتطرف الديني

داعش .. المخَاض الأخِير للتطرف الديني

يخطئ من يظن أن الفكر الإسلامي ـ وليس الإسلام ـ لا يعاني من أزمة معرفية ويصارع معركة تفصله عن الوشائج والعلائق بتراثه المعرفي الأصيل سواء المتصل بحوادث بعينها وهي ما اتفق على توصيفه بفقه الحالة ، أو التراث المعرفي الذي يحسب كونه أنموذجاً فريداً في وقته . وفي ظل معركة الفكر الإسلامي الراهن تبدو ملامح أخرى لا يمكن إقصاؤها عن تفاصيل هذا الفكر الذي أصبح مستمرئ حالة الاستقرار رهن التصنيف والتبويب والتلميح والتصريح والاستيفاء ومن ثم استلاب القارئ بعيداً عن واقعه واستقطابه صوب التنظير .
وأبرز تلك الملامح التي تعتري معركة الفكر الإسلامي وليس خطابه هو فرض حالة الإقامة الجبرية على الاجتهاد الصائب والمحمود والذي يستهدف صالح الإسلام والمسلمين ، هذه الإقامة التي تجاوزت حدود الاستخدام اللغوي التداولي لتصل بغير اكتراث إلى إصدار فتاوى غير محفزة أو بالأحرى فتاوى من شأنها إحداث فتنة طائفية أو حرب أهلية بين أطياف سياسية قد لا تعي من أمر رشدها شيئاً . واستحالت فتاوى التحريض مرطبات للفكر الإسلامي المعاصر في وقت أصبحت عبارات تجديد الفكر الإسلامي وتطوير الخطاب الديني من الشعارات الباهتة والمكرورة لأنها لا تتصل بواقع مشهود وحقيقة مجتمعية تفيد بفقر الثقافة وضعف القوة المعرفية لدى مجتمعات عربية كثيرة . رغم أن هذه الحالة تتعارض بالكلية مع المنهج الإسلامي في الإصلاح والتجديد ، وتبدو أن عملية استنهاض قوى التجديد بدت خائرة واهنة.
وحالة الفكر الديني المعاصر تشبه بقدر المماثلة والمشاكلة ظاهرة الإنتروبيا ، وهذا المصطلح Entropy يعني مقياس تحديد غموض الموقف، وهو مقياس عفوي أعده الفيزيائي الألماني رودلف كلاوزيوس عام 1856م حينما كان يدرس ظاهرة استحالة انتقال الحرارة من جسم أكثر برودة إلى جسم أكثر سخونة. والإنتروبيا تعني أيضاً التحول إلى الداخل ، أي المنطوي على نفسه أو الموت الداخلي، وعلماء الفيزياء في الغرب ـ طبعاً ـ فسروا قانون الإنتروبيا على أنه حركة عشوائية عبارة عن طاقة مهدرة ومشتتة في أي نظام.
وهذا الشرق الذي كان يوما ما يتباهى بالعلم والمدنية وإعمال قوى العقل المختلفة في الإعمال والتشييد وبناء الأمم أصابه عطب مفاجئ يمكن إرجاعه في المقام الأول غلى النظم التعليمية العربية السائدة التي تهتم وتكترث بالشكل دونما أدنى مراعاة لطبيعة الظروف الآنية أو احتياجات المتعلمين الفعلية ، نلمح هذا بوضوح في سياقات الأنظمة التعليمية ذات الصبغة الدينية في معاهدنا العربية ، حيث إن الطرح المعرفي وإن كان وجوبيا وضروريا للباحث المتخصص إلا أنه لا يعد وظيفيا ولا يتعلق بالحراك المجتمعي الذي يتطلب جهدا وقدرا بعيدا من الاجتهاد . وغياب التنوير لا يمكن فصله عن حالة الشرق المضطرب والذي تجتاحه جماعات دينية متطرفة لا يمكن ربطها وإسلامنا الحنيف ، هذا الغياب جاء بالضرورة وفقا لنظرية المؤامرة القديمة المتربصة بالشرق منذ مطلع القرن التاسع عشر والذي دعمته كافة المؤسسات والمنظمات الماسونية مع دعم جلي من الهيئات الصهيونية التي تؤرقها تطور الشرق ونماؤه .
ومما دعم هذا الجمود في تطوير الاجتهاد الفقهي ونماء التفكير الديني تغلغل التيارات الإسلامية السياسية التي سعت نيل محوري الدين والسياسة في وقت واحد ، فكانت النتائج توظيف الدين لتحقيق مطامح سياسية ومطامع سلطوية ، وإقصاء سياسيا لكافة الأطراف السياسية المغايرة في الأيديولوجيات التابعة لتلك التيارات ، ويكاد يتفق الجميع على أن الشعوب العربية جميعها في حالة ولع بالدين عموما وهي فطرة محمودة لكن تلك التيارات التي وجدت الفرصة سانحة على أرض الشعوب العربية نتيجة التفكك الذي أحدثته الأفكار والمنظمات والهيئات الأجنبية لتقويض الوطن العربي الكبير ـ فلعبت على هذا الولع وهذا التعطش المعرفي صوب الدين وتعاليمه .
وحالة التعطش تلك أوجدتها النظم التعليمية العربية البائدة والباهتة التي أشرت إليها في السطور السابقة ، فبدلا من تدعيم الاحتياجات المعرفية لدى الطلاب وجدنا أنظمة تعليمية عربية لمدة سنوات طويلة تغاير هذه المطالب وتتجه منحى بعيدا عن حراك معرفي ووعي معلوماتي لدى الأبناء هو أحق بالاهتمام ، فكأن المواطن العربي بصفة عامة والطالب العربي على وجه الاختصاص وقع فريسة بين مطرقة الهيئات والحركات الأجنبية الهادفة لتقويض العقل العربي وحراكه ، وسندان تيارات وجماعات تسترت خلف راء الدين وسماحته والدين غريب عنها تماما .
وبدلا من أن تهتم تلك الجماعات في التصدي إلى المؤسسات الماسونية والهيئات الصهيونية وبعض حركات التبشير المعاصرة عن طريق وضع خطط ناجحة وناجعة أيضا لمواجهة هذه التحديات غير المنتهية ، لهجت بشراسة في تقديم أيديولوجيات استثنائية خاصة ترتبط بأشخاص دون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واعتبرت هذه الجماعات أن ثمة أشخاص تمثل المرجعيات الدينية الحصرية للإسلام ، والكارثة أن المواطن العربي ربط إسلامه بأشخاص رغم كون الدين لا يعترف بمنطق الكهنوت ولا يفطن للواسطة البشرية طريقا وسبيلا . واستقرت التيارات الدينية على استخدام شعارات مراوغة تستهدف تقويض الوطن من الداخل عن طريق التشكيك في الحكومات والأنظمة السياسية ، وتنصيب أنفسهم وكلاء لله في الأرض مستغلين في ذلك أمرين ؛ الأول حالة العطش المعرفي الديني لدى الكثير من البسطاء ، والثاني غياب المؤسسات الدينية الرسمية في أداء وظائفها الوجوبية التي تعد فرض عين عليها . وسرعان ما طفقت التيارات الدينية إلى تكوين جمعيات وأحزاب سياسية تحت دعاوى الوازع الديني وضرورة مواجهة مظاهر التحلل الأخلاقي والديني في المجتمعات العربية ، والمدهش حقا وربما يحتاج إلى تفسير هو لماذا سقطت جميعا هذه الحركات بل وواجهت حملات ضارية من الغضب الشعبي ؟ .
الإجابة تبدو بسيطة وسهلة أيضا يمكن تحديدها في عبارة ( احتكار الدين ) ، إن تلك الجماعات والحركات والتي يمكن تحديدها وفقا لخريطة الانتشار الجغرافي التي رصدها الدكتور جمال سند السويدي في كتابه الصادر حديثا 2015 بعنوان “السراب “، في جماعة الإخوان المسلمين ، والتيار السلفي ، والتيار السروري ، والتنظيمات الجهادية بمصر وباكستان وأفغانستان والعراق وأندونيسيا ، فجميع تلك الحركات حاولت وحدها بغير شراكة احتكار واقتناص الحق في توضيح معالم الإسلام وبالقطع من زاوية واحدة ، رغم أن الإسلام نفسه يشير إلى التعددية الدينية التي هي من أبرز ملامحها ، والإسلام وحده الدين الذي أباح التنوع الثقافي وتعدد الروافد الصحيحة والصالحة لكل زمان ومكان دون ربطها بأشخاص أو بعصر أو بطائفة دون غيرها .
لكن الإشكالية التي طرحتها هذه الجماعات هي الطبيعة الاحتكارية للصوت الديني الواحد ،مما يتيح لها حق التصرف في المسلمين ومصائرهم لاسيما المتعلقة بالشأن السياسي مثل الدساتير والرئاسة والملك والانتخابات البرلمانية مرورا بحياة المجتمع . وهذه التيارات وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) ارتأت عدم الاكتراث بأولوية العقل ومكانته في الاستنباط والاستقراء لمقاصد الشريعة ما دامت تلك الجماعات قادرة على تقديم وجبة يسيرة من المبادئ والتعليمات الدينية يمكن الاكتفاء بها.
ولكي تكتمل صورة الشرق المضطرب بوجود داعش وحالات الشره السياسي لدى التنظيمات الدينية نحو اعتلاء السلطة كما حدث في مصر وتونس وبعض الأوقات بالعراق الذي تبدد ، وجنوح مؤقت في الجمهورية السورية ، نجد تخاذلا شديدا من قبل تلك الفصائل والتيارات صوب العدو الحقيقي وهو إسرائيل والأفكار الصهيونية التي ترابط لنا في السر والعلانية ، ورغم توافر كم كبير من المعلومات والمعارف حو حقيقة العدو المرابط للشرق العربي والإسلامي إلا أن الصورة دوما تبدو معكوسة ومغايرة لدى هذه التيارات ، فخطابها السياسي ليس بنفس القوة والضراوة أمام عدو يحيط ويحيك لنا المفاتن والمثالب والمخاطر إذا ما قيس خطابها بشأن الأوضاع السياسية الخارجية ، فعلى سبيل المثال نجد أصواتا كثيرة متشابهة تطل علينا في الصحف والمجلات والفضائيات الفارغة من المضمون والهدف تهاجم أوضاعا عربية وتكيل الاتهامات للأنظمة السياسية بها وهي غافلة تمام الغفلة والنسيان عن كيفية مواجهة الخطر الصهيوني الوشيك .
وتكفي نظرة سريعة إلى أحداث المنطقة العربية لإدراك حالة التشظي السياسي والديني بها وموقف المثقف صوبها وماذا أفاد من إحداثياتها المضطربة وماذا أفاض من حلول لفك شفراتها ، تحديداً مجازر الكيان الصهيوني في غزة و الخلافة المزعومة المنسوبة لتنظيم داعش والموسومة بتنظيم الدولة الإسلامية ، وبعيداً عن ما يحدث في غزة لأن الإنسانية تنهار لحظة بلحظة أمام المشاهد اليومية التي تبث عبر الفضائيات والتي تحتاج إلى عناصر ثلاثة كي تنفك عقدة فلسطين عموما وليست غزة وهدها وهي الإرادة والإخلاص والتعاون الصادق ، وهي كلمات ثلاث تبدو بسيطة نسبياً إلا أن تحقيقها ومثولها على أرض الفعل لا يبدو سهلاً أو ممكناً لكنه لا يعد أيضاً مستحيلاً. ومن الصعب تناول الطرح السياسي للمثقفين العرب إزاء مذابح غزة لاسيما وأن الصمت العربي الرسمي كفيل بمذابح جديدة ، وأن تناول الملف الفلسطيني على موائد الاجتماعات العربية صار طبقاً شهياً لأن الطعام فيه لا ينفد .
أما بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) والذي يسعى لإقامة خلافة إسلامية ممتدة حتى مشارف القارة الأوروبية والتي قدمت أوراق اعتمادها بالعنف وسفك الدماء ونبش قبور الأنبياء والأولياء فإن المثقف العربي لا يمتلك قدرة على استشراف الخطر بصفة عامة ، وعادة ما أتعجب من أمر الذين يصرون على إلصاق أسمائهم بلقب المفكر لاسيما وأنهم تنتابهم فجأة ظهور مثل هذه الحركات والتنظيمات في الوقت الذي كان أمامهم متسع من الزمن يسمح لهم بتجديد خطابهم الثقافي وتهيئة العقل العربي لاستقبال التنوير ، وظل المثقف العربي ينتظر أية إحداثيات جديدة في المشهد السياسي والديني دون أن يبدأ في حركة التثوير المرتقبة والمنتظرة منهم فكانت النتيجة ظهور تيارات مناوئة تستهدف تقويض المنطقة كلها تحت رعاية أمريكية بعدما اقتنعت الإدارة الأمريكية بعدم جدوى التدخل المباشر وخصوصاً المكابدات التي لحقت بالقوات الأمريكية في العراق وكذلك ما تكبدته من خسائر اقتصادية أرهقت ميزانيتها عقب نجاح الثورات العربية تحديداً في مصر وتونس فكان من الأفضل لديهم الالتجاء إلى تدعيم فصائل قصيرة العمر تاريخياً من أجل زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي وتفتيت القوى التي يمكن أن تناهض الكيان الصهيوني ومصالح الإدارة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
ومن يسع لرصد الحالة التي تعترينا من ناحية الفكر والخطاب الديني المعاصر من حيث إنها صورة من صور ظاهرة الإنتروبيا ، من حيث الجمود الفكري الذي يصيب البعض منا، واحترازاً للقول القلة منا فقط، فتراه يقف عند حدود فقه عصر معين ويرفض رفضاً مطلقاً قبول فكرة الاجتهاد، رغم أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود كان سابقاً لعصره، فقد كان رائد مدرسة الاجتهاد الفقهي.
وهذا العقم في استنهاض القوى المعرفية الدينية هو الذي أودى بحياة الكثير من ضباط الشرطة الذين بالقطع وبغير مبالغة يسهرون من أجل رفاهية آخرين لكننا مصرون أن نقف عند فاصلة مبارك التي كرست لثقافة أمنية سقطت فعلا وقت اشتعلال ثورة يناير ، وهذا الفقر المعرفي في الفكر الإسلامي هو الذي أصدر الفتوى بتحريم تهنئة الأقباط بميلاد السيد المسيح الذي جاء ذكره في قرآني الذي لا يقرؤه هؤلاء المتطرفون بوعي أو بدراية كافية ( إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) .
والتكفير والتحريم في هذه الأونة صارا وجهين لعملة واحدة يمكن أن نطلق عليها عملة ( الغلو ) ، ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير هو ” الورطة” ، ولقد توعد رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بهؤلاء الذين يكفرون إخوانهم بقوله : ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). أما الآن فأصبح التكفير أسرع حكم يمكن أن يصدره إنسان على أخيه، وإذا كان التكفير قديماً سلاح خفي يستخدمه بعض المتطرفين في مواجهة خصومهم، فاليوم أصبح أداةً هجومية تستخدم قبل وأثناء وبعد الحوار مع الآخر، هذا إن كان هناك حوار من الأساس.
وإذا سألت أحد رجال الدين المستنيرين عن الغلو في التكفير لذكر لك أن المجازفة بالتكفير شر عظيم وخطر جسيم ، وقد ذاقت الأمم كثيراً من ويلاتها ووبيل عواقبها، وليدرك هؤلاء قول الله تعالى في تحذير عباده من الغلو في التكفير (فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة). والمتأمل لهذا الأمر ـ الغلو في التكفير ـ يرى عواقبه التي تتمثل في استحلال الدم ومنع التوارث وفسخ عقد الزواج وتحريم إقامة الفرائض. ويدهشني كثيراً حينما أقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي يتخذه معظم السلفيون إماماً لهم حينما يقول : فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة ويبين له المحجة وإزالة الشبهة.
وانظر إلى رأي الشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب الحرم المكي سنة 2004م حينما أكد على أنه يجب التفريق بين الفعل والفاعل والإطلاق والتعيين وتنزيل النصوص على الوقائع والأشخاص ، وأن نصوص الوعيد في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والفسق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. حتى بعض أنصار الفكر الوهابي ربما تناسوا قول إمامهم المجدد محمد بن عبد الوهاب إذ يقول : ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم.
واستسهال رمي البعض بالكفر والشرك والخروج عن الملة يذكرني بقصة طريفة، فقد جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن دم البعوضة ، وعن حرمة قتل الذباب، فقال له: ممن أنت؟ قال : من أهل العراق، قال: ها انظروا إلى هذا ، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله.
وأجمع المفكرون أن خطورة الفكر التكفيري تتمثل في إحداث حالة من الانفصام والانقسام والتمييز داخل المجتمع الواحد بين أبنائه، وهم بذلك أعداء للتنمية والتطوير والتجديد، وأعتقد أن المجتمع كفاه ما قد يعانيه من تمييز واستبعاد اجتماعي لبعض أفراده. هذا ولا بد من منهج واضح ومحدد الملامح لمواجهة هذا الفكر، وإحداث مناعة حقيقية لدى أفراد المجتمع ضد كل ما يسمعونه من صيحات تكفيرية، ومراجعة بعض كتب التراث التي تغذي الفكر التكفيري وتنقيتها.
وأبرز العلامات التي تلازم أزمة الفكر الإسلامي الراهنة محاربة التأويل ، والتأويل في حد ذاته لم يعد حقاً يطلبه الإنسان، بل أصبح فريضة يؤديها ليل نهار على كل ما يمارسه من سلوكيات وقيم وأفكار ،هذا إن يفكر من الأساس، وقراءاته هذا إن كان يقرأ في الأصل، وعلى ما يسمعه ويشاهده وأظن أنه لا يفعل ذلك أبداً، أقصد تأويل ما يسمعه. المهم أن التأويل بدلاً من أن يكون حقاً مكتسباً ، صار شهوة موروثة بعلة وحجة أن صحة التأويل مرجعها الإجماع المطلق.
وعلماء الدين الأفاضل اتفقوا على ضرورة التأويل في المواضع التي تثير الشبهات فقط، وهذا يجعل الناظر ( أي الذي يرى الأشياء بنظرة ثاقبة وروية) لقضية التأويل ملتبساً بعض الشئ، فكيف يقضي رجال الدين بشئ ولم يتفقوا وتجتمع آراؤهم عليه اجتماعاً وإجماعاً مطلقاً.وهذا يذكرني بما صنعه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” حينما كفر الفارابي وابن سينا لأنهما خرقا الإجماع في التأويل، رغم كونهما من أهل الإجماع أي أن رأي الغزالي فيهما لا يعتد به شرعاً، وهما (أي الفارابي وابن سينا) أكدا على توجه التربية إلى الاهتمام بالإنسان من جميع جوانبه، وأبعاده الروحية والعقلية والجسمية وغرس الفضائل والعادات السليمة.
إذن قضية التأويل لم تكن حديثة العهد بواقعنا العربي الراهن، بل هي ضاربة في جذورنا الثقافية وكم من مفكر صارع وصرع من أجل إثبات هذا الحق للمواطن العربي قبل أن يصبح اليوم مشاعاً. وإذا راهنت نفسك بسؤال أحد الأفاضل الذين امتلكوا وحدهم حق التأويل عن شروط التأويل، وشروط القائم بالتأويل ستكسب رهانك لأنه سيسرد لك عبارات عامة عن القراءة والاطلاع والثقافة وامتلاك ناصية اللغة، ولو أن أحداً من هؤلاء بذل جهداً بسيطاً أقل مما يبذله في إعداد ما يقوله إما للصحف أو للفضائيات الفراغية لما وصل بنا الحال وبشبابنا إلى حالة الفكاك المستديمة تلك التي نعانيها منذ أمد.
ولو أنه خرج قليلاً من عباءات الضيق والجمود الفكري التي يعاني بعضهم منه وقرأ كتاباً مهماً للقاضي ابن رشد وهو “مناهج الأدلة في عقائد الملة” لاستطاع أن يعبر بعقله أولاً ثم بعقول أبنائنا وشبابنا إلى المستقبل، وإلى خلق جيل أكثر تفكيراً ووعياً من سابقيه.فلقد حدد القاضي الفقيه ابن رشد شروطاً للقائم بالتأويل أبرزها أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني، أي الذي يبني على مقدمات يقينية، وليست فقط أن تكون مشهورة بين الناس.وفرغ ابن رشد من حديثه إلى أن الشريعة الإسلامية تؤيد التأويل وتحث عليه ، بحجة أن النظر في الموجودات المصنوعة تدل على صانعها.
ونرى من العلماء الأجلاء كالرازي والآمدي وابن الحاجب وأبي الحسين البصري أنهم أكدوا على أن الأمة إذا اختلفت في تأويل آية كانوا على قولين، وأجازوا لم بعدهم إحداث قول ثالث، هذا بخلاف ما إذا اتفقوا في الأحكام على قولين فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وهكذا كانت سماحتهم ووعيهم الديدني بالتأويل وقبول الرأي الآخر ما لم يكن مخالفاً للشرع.
وخلاصة القول والرأي في هذا أن التأويل والحمد لله لم يعد حقاً يطالب به بنو البشر على السواء، لأنه بالرغم من أنه أصبح مشاعاً، إلا أن فئة من العلماء أصحاب العقول الراجحة الجانحة اغتصبوا هذا الحق لهم وحدهم، وتركونا منفردين على حالات ؛إما نخاف على هيبتنا واحترامنا الثقافي والفكري لأنفسنا فالتزمنا الصمت، وإما أننا أكبر من كل هذا الذي يقولونه ويبثونه بثاً فيصير هباءً منثوراً، أو نقبله كما تورد الإبل نحو الماء.
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية ( م ) .
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا .

أحدث المقالات