أنهيت دراستي الجامعية في كلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء وتخرجت منها حاملا لشهادتي ليسانس قانون وبكالوريوس شريعة اسلامية ولم تزل ذاكرتي تسعفني بمواقف لاتنسى طوال سنوات الدراسة الأربع منها استاذ مادة التشريع الجنائي الاسلامي “السلفي المثير للجدل” والمعروف بأفكاره المتشددة والتي وصلت لحد اطلاقه تسمية كلية “الشريعة والطاغوت” (اشارة الى القانون الوضعي) !! على الكلية التي كان يعتبر من ضمن كادرها التدريسي ناهيك عن تكفيره لمصطلحات الدستور ، الانتخابات ، البرلمان بحجة كفاية القرأن الدستور الألهي المنزل ولم أنسى يوما عندما تمكنت من اثارة عصبيته بعد سؤالي اياه عن حتمية كفر أعضاء مجلس النواب اليمني كنتيجة لما يعتقد فرد علي بغضب (أنا لست تكفيريا) خوفا على مايبدو من تسجيلات مندوبي جهاز الأمن السياسي من الطلبة ! بطبيعة الحال كان الرجل شاذا بافكاره تلك وسط أساتذة الكلية ومعيديها لكن مجرد وجوده كان دليلا على الثغرات التي تمكن الفكر المتطرف النفوذ من خلالها عبر الجامعات والمعاهد الدينية الحكومية لبث سمومه وسط جموع الطلبة وقطعا لا أستطيع التكهن بردة فعله لو علم بانتمائي ل (الرافضة) علما انه كان يعلم بعراقيتي فقط طوال العام الجامعي !! تذكرت هذه القصة بينما كنت ألحظ تداول نشطاء موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) مؤخرا لمقطع فيديو لرجل دين شيعي يتحدث فيه عن حتمية قتل الأسير الكافر وأحكام الجزية وأنواع الكفار ودرجاتهم … الخ وقد تعرض السيد المذكور لانتقاد عنيف من رواد فيسبوك والنشطاء المدنيين بحجة ترويجه لأفكار داعشية !! والحقيقة ان مولانا ليس داعشيا ولم يروج لافكار التنظيم بقدر نقله بصورة أمينة لما تحويه كتب الفقه الشيعي المعتبرة والتي لا تختلف كثيرا عن نظيرتها السنية بهذا الخصوص فأحكام الجزية والكفر ومعاملة الأسرى تكاد تكون مماثلة بين الجانبين أما الحدود الشرعية فان غالبيتها مذكورة نصا بالقرأن الكريم فيما تكفلت الأحاديث النبوية المتفق عليها بيان الباقي منها فهي ليست كما يتوهم البعض من وحي خيالات ابن تيمية أو من اختراعات محمد بن عبد الوهاب !!
لذا لايبدو غريبا ان قلنا وأكدنا بان داعش تمثل أحدى (لايمكن انكار التسامح الديني الذي تمتع به اليهود والمسيحيين في مراحل مختلفة من التاريخ الاسلامي) صور الاسلام شاء من شاء وأبى من أبى وان كل ما أقدمت عليه لغاية اليوم من جرائم له سند شرعي مقبول ودليل فقهي معتبر وان انجراف السنة خلف الهوس القومي منذ مطلع القرن الماضي هو ما غض بصرهم عن هذه الحقيقة فيما كان اطلاع الشيعي على كتاب (مفاتيح الجنان) بصورة قد تفوق القرأن أحيانا ! وانقياده الأعمى خلف رجال الدين كفيلا بعدم ادراكه لحقيقة ماتحتويه كتب مذهبه الفقهية خاصة مع تركيز رجال الدين الشيعة في محاضراتهم ودروسهم وكتبهم على ابراز مظلومية أهل البيت وقصص اغتصاب الخلافة وفدك وكسر الضلع في الوقت الذي تم فيه تغييب باقي الأحكام الشرعية وبقيت حصرا على المطلعين فقط .
ان المخالفة الوحيدة التي أرتكبها داعش تمثلت بتوسعه في تكفير المسلمين ومبالغته بتطبيق الحدود مهملا النص الشرعي الضابط لهذا الأمر والمتمثل بالحديث النبوي القائل ( ادرؤوا الحدود بالشبهات) والذي يكفل تطبيقه الغاء تنفيذ أكثر من 95% من الحدود لذا يبدو ان جل مايمكن وصف مقاتلي التنظيم به من الناحية الشرعية هي (المكفرة) و (الغلاة) فقط ! أما تكفير البعض لهم فهو لأسباب سياسية ودوافع طائفية بحتة ومن هنا يمكن فهم عدم تكفير مرجعية الأزهر للتنظيم لا بسبب تواطئها مع الارهاب كما زعم غير المطلعين بل لتيقن الشيخ الأكبر بشرعية مايقوم به مقاتلي التنظيم بشكل أو بأخر !
كمسلم دارس لعلوم الشريعة الاسلامية بمختلف مذاهبها أستطيع أن أقول وبلا خجل بأن أحكام الحدود والسبي والجزية لم تعد تناسب عصرنا الحالي وقبل ذلك يجب على المخلصين من رجال الدين تبيان حقيقة نزول بعض الأيات وورود بعض الأحاديث المتعلقة بها في لحظات تاريخية معينة وحوادث محددة وان تعميمها زمنيا يخالف قاعدة شرعية معروفة تقدم دفع الضرر (من جراء تطبيقها) على جلب المصلحة كما ان الايمان بدولة القانون والمؤسسات والمواطنة والسعي لتحقيقها سيفضي حتما لتحقيق مقاصد الشريعة الكلية الخمس والمتمثلة بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهو مايمكن عده مدخلا شرعيا لعملية الاصلاح الديني والذي يبدو انه لايزال بعيدا عن تفكير مؤسساتنا الدينية ومخيلات مراجعنا وشيوخنا الأفاضل لمحو هذا التراث السلبي والذي يتضح ان كشفه للعامة هو الايجابية الوحيدة التي أقدم عليها رجال “الخليفة” !! ختاما ينبغي التنويه الى بقاء شعار “الاسلام دين ودولة” نظريا الى حد كبير بعدما عجز مروجيه أنفسهم عن تطبيقه وتقديم نموذج اسلامي مشرف ومعاصر من الناحية العملية فيما تكمن فاعلية مبدأ “صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان” بمقدار ماتقدمه هذه الأمة للانسانية من علوم ومعارف وأداب لا ما تنتجه من تكفير وطائفية وما تصدره من ارهاب وقتل وهو ما أنطبق عليها في عصرها الذهبي عندما قدمت شخصيات مثل ابن سينا وابن رشد والكندي والرازي والفارابي والحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والأدريسي وابن خلدون وابن ماجد وغيرهم.