22 ديسمبر، 2024 11:57 م

داعش الإسلامية وداعش العلمانية حجرا رحى والطحين واحد

داعش الإسلامية وداعش العلمانية حجرا رحى والطحين واحد

يقترن مصطلح التطرف والتشدد في أيامنا بالمنتسبين للحركات الإسلامية الراديكالية أو الإسلام السياسي كما يحلو للبعض تسميته وعلى رأسهم تنظيم داعش والقاعدة بأشكالها المختلفة والتيار السلفي الجهادي بشكل عام. ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذا النوع من التطرف الغني عن التعريف ولا الدفاع عنه، بل على العكس من ذلك فإننا نعترف بوجوده وخطره على الأمة قبل غيرها ونؤمن بحتمية ووجوب مواجهته ومقاومته بشتى السبل وعلى كافة الاصعدة.
ولكن في نفس الوقت يغفل الكثيرون عن وجود نوع ثان من التطرف لا يقل شراسة في عداوته وضرره على الأمة والمجتمع ومعتمداً في وجوده على النوع الأول، بل ويجمعهما قواسم مشتركة ويمثل هذا النوع من التطرف داعش العلمانية أو المتعلمنين اللاعقلانيين والتي تنادي بتطبيق العلمانية ومبادئها لا اقتناعا بها بقدر ما هو عداء للدين وأهله محاولة استنساخ التجربة الغربية وإسقاطها على الشرق دون مراعاة للفوارق الثقافية واختلاف البنية العقلية والاجتماعية للشعوب الشرقية متجاهلين السياق التاريخي الذي أدى لانبثاق الفكر العلماني في أوربا، ودون دراسة حقيقية لجوهر الإسلام وما يميزه عن باقي العقائد الأخرى والذي نجح أتباعه في بادئ أمرهم بتأسيس حضارة جمعت بين الدين والدنيا في معادلة واحدة ولقرون عديدة.
إن هذه الفئة أي داعش العلمانية تسعى لفصل الدين عن الحياة لا عن الدولة فقط، وتريد سلخ المجتمعات الإسلامية عن تاريخها وثقافتها وتغيير مفاهيمها ولو بالقوة ضاربة بعرض الحائط إرادة الشعوب واختيارها من خلال دعمها لحكومات انقلابية وأنظمة دكتاتورية وعسكرية متجاوزة صناديق الاقتراع وتزوير نتائجها، فتبرر بذلك الظلم وتشرعن الاستبداد مادام في خدمة أهدافها المعادية لعقيدة الأمة وثقافتها.
وبدراسة طبيعة العلاقة بين كلا النوعين من التطرف (المتعلمنون والمتأسلمون) واستقراء الحوادث التي عصفت بالأمة والمنطقة خلال السنوات الأخير، نجد بأنهما وجهين لعملة واحدة وهي التطرف واللاعقلانية والسعي للاستيلاء على السلطة تحت ستار الدين ونقيضه بقصد التسلط على الآخر والقضاء عليه وإن أدى ذلك لهلاك العباد والبلاد، مما يوحي بوحدة الهدف واختلاف الأساليب التي تؤدي في حقيقتها إلى وجود علاقة تعايش وروابط مشتركة وتوافق غير معلن في الهدف والغاية بين الطرفين!!

داعش العلمانية وداعش الإسلامية .. التقاطعات والقواسم المشتركة:
رغم التضاد التام والمعلن بين التيارين في الأفكار المتبناة إلا أنهم يجيدون اجتزاء النصوص والمفاهيم وتحويرها وتطويعها ولي أعناقها بما يوافق هواهم ويخدم مصالحهم ليكونوا بذلك كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فكما أن المتطرفين الاسلاميين يستشهدون ببعض الآيات والأحاديث لتبرير العنف الذي يمارسونه وشرعنة وصايتهم العامة على الناس وتكفيرهم وإقصائهم للآخر فإنهم يتجاهلون تماماً جميع الآيات والأحاديث وآراء العلماء والمفسرين التي تبين مقاصد الإسلام في العدالة والرحمة الإنسانية وتضمن حرية الفكر والمعتقد للناس وتشدد على كرامة الانسان وحرمة دمه وماله. فإننا نرى على الضفة الأخرى أن بعض العلمانيين وخاصة العرب منهم يركز على الشق الاول من العلمانية المعني في فصل الدين عن الدولة والسياسية ناهيك عن دعوة بعضهم لفصله عن الثقافة والحياة والمجتمع ايضاً، متناسين شقَّها الثاني المعني في احترام الاديان وصون حرية المعتقد وممارسة الطقوس الدينية والعبادة لجميع المواطنين والوقوف من جميع الطوائْف والمذاهب على مسافة واحدة دون استهداف لأحدهما على حساب الآخر.
إن كثرة الجدل والنقاش حول المتشابهات من الكتاب والسنة ومصادر الشريعة وما ليس معلوماً من الدين بالضرورة ولا مجمعاً عليه من علماء الأمة مع تجاهل المحكمات والثابت من العقيدة وعدم الانطلاق منها في فهم الأحكام وعدم التطرق إلى أحكام وفتاوى التيسير والتبشير والتركيز على ما يجيء بالتعسير والتنفير !؟ هذا إن فرضنا صحته، هي من الصفات التي يشترك فيها متشددو الإسلاميين والعلمانيين ومن الغريب إجماع كليهما على صحة إسناد ونقل ما ينقلونه من كتب التراث على أنه الدين بعينه ظناً من الأول انه يحامي ويدافع عن الدين .. والثاني بهدف إدانة الدين نفسه، فإذا شككت في صحة قولهم ونقلهم تشكيكا عقليا منطقيا صرت مميعا عند الأول ومدعيا مراوغاً عند الآخر.
هذا عدا ذلك عن وضع الفروع وتفرعاتها من القضايا التي يعيشها العالم العربي على طاولة النقاش وكان الأولى الالتفات إلى المشكلات الأساسية وأصلها وسبب ذلك أنهم يستشهدون بمخرجات الأزمات دون الرجوع لأسبابها ومسبباتها.
صفة أخرى يشترك بها الفريقان بها وهي العداء والتطرف الحدي بلا توسط والميل كل الميل في الخصومة دون أي مراعاة لمصلحة الامة والشعب وتقدير للظرف الراهن وما تتطلب المرحلة من فقه الأولويات، فلا بأس بإقامة دولة اسلامية أوعلمانية حتى وان كانت متخلفة عن ركب الحضارة بكل مفاهيمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، غارقة في ديونها، ولا تمتلك أدنى سيادة على اراضيها, دكتاتورية يسودها الظلم ويسيطر القهر على شعبها الذي يقضي حياته جاهداً في البحث عن لقمة العيش، فالمهم من الدولة عند هؤلاء اسمها وشكلها وفقط!!. وفي الوقت الذي يسود فيه خطاب الكراهية والتحريض الطائفي عند متطرفي الأكثرية ضد الأقليات، تظلم وتغتصب حقوق الاكثرية بحجة حماية حقوق الاقليات وضمان علمنة الدولة ومؤسساتها وكأنه أصبح لزاماً وقدراً لهذه الأمة أن تكون الأقلية على رأس الدولة أو متنفدة فيها لتكون علمانية، والعكس صحيح!!.

أما بالنسبة للمرأة وحقوقها فقد حصر الطرفان صراعهما في المنطقة الواقعة بين السرة والركبة وكان الأولى بهم النظر للقلب ودفء العاطفة والعقل وجمال الفكرة، فمظهر المرأة عندهم هو المعيار الأساس في نيلها لحقوقها وحريتها ومقياساً لكرامتها وشرفها. فبمقدار ما تظهر المرأة من جسدها وتبيحه للآخر بمقدار ما تناله من الحقوق وتوسم بالحرية بمفهوم العلمانية المتعصبة، بينما يشترط الطرف الآخر من منتسبي الفقه الصحراوي المستحدث إحاطة المرأة وتطويقها من رأسها إلى أخمص قدميها بالسواد جاعلين من غير الواجب في الشريعة (الخمار مثلاً) فرضاً وواجباً تصبح المرأة في حال مخالفته في عداد الفسقة ومرتكبي الرذيلة أو على الأقل غير ملتزمة.

تنعدم الثقة عند كلا الطرفين اتجاه الشعب ويقيمون رأي العامة بنظرة فوقية متعالية معتبرين أنفسهم نخبة المجتمع محتكرين لصحة الفهم ورجحان العقل مما يسهل عليهم شرعنة وتطبيق إيدلوجياتهم بالقوة وحمل الشعوب على قبولها وتقبلها كرها. فدائماً ما يكرر متطرفو العلمانية قولهم بانقياد الشعب وتأثره بالعاطفة الدينية دون تحكيم العقل مما يسهل سوقهم إلى التخلف والرجعية كما تساق القطعان!! فيطعنون بالمبدأ الذي ينادون به وهو “حكم الشعب” وهو السائد في العالم الغربي الديمقراطي العلماني الذي استمدوا منه فكرهم ونظرياتهم السياسية.. وحكم الشعب هو ما يرفضه التيار الإسلامي المتشدد بدوره على اعتبار انه يناقض “حكم الله” فيعللون بذلك رفضهم للديمقراطية وآلياتها مفترضين اختيار الشعب لما يناقض عقيدته وللأسوأ بنظرهم وهذا مالم يحدث في أي انتخابات ديمقراطية نزيهة في العالم الإسلامي أو العربي، وهذا إنما يدل على سوء طوية اتجاه الشعب.

داعش العلمانية وداعش الإسلامية … علاقة تقايضية:
تعرف العلاقة التقايضية على أنها تبادل المنفعة بين الكائنات الحية، ومثال هذه العلاقة في مجتمعنا العربي والإسلامي ما نحن بصدده حيث يشكل تطرف كل منهما مبررا لوجود الآخر، فمثلا تستغل المكنة الدعائية والإعلامية للعلمانية المتشددة حوادث الإرهاب والتطرف ومظاهره في إخراج صورة نمطية عن عامة المسلمين المحافظين وتوظيفها في خدمة الصراع الدائر بينهما فيعمدون في برامجهم إلى مقابلة إسلاميين متشددين بأشكال وألسنة منفرة للعامة والشعب متجاهلين التيار المعتدل وكوادره وهو الأكثر عددا والأكبر شعبية، والغاية في النهاية تشويه صورة الإسلام بعمومه. ويمكن القول بصيغة أخرى أنهم لا يحبذون الجلوس على طاولة الحوار مع المسلمين الحداثيين المعتدلين وما أكثرهم في الأمة من ذوي المظهر الحضاري، والسعي الدائم لمنعهم من الظهور على شاشات التلفزة والإعلام وتجاهلهم لأن ذلك في حقيقة الأمر لا يخدم قضيتهم ويحرجهم أمام الجمهور الذي قد يجد الأجوبة على كثير من الأسئلة المحقة والتساؤلات الكثيرة التي يطرحونها ويقيمون حججهم ودعاويهم عليها. والصورة معكوسة لدى الطرف الآخر الذي يعتاش في وجوده على تشويه العلمانية ومفاهيمها وحصرها بالغرائز ومعاداة الإسلام والمسلمين.. نعم أولم يقل الزير سالم فيما يروى بعد مقتل جساس “ما قيمة الحياة بدون جساس” وهو عدوه اللدود … لكنه في نفس الوقت كان سببا لاستمرار الحرب والثأر ؟! وهكذا تستفيد من وجود عدوك أحيانا وقد ينبغي أن تحافظ عليه.
وفي هذا الصراع العقيم بين التطرف باختلاف ألوانه وأشكاله يكون المعتدلون والعقلانيون هم الضحية والمتهم والمغيب في نفس الوقت، ويبقى الشعب على هامش القرار ودون أمن واستقرار.