“الآن، اقتربت لحظة العودة إلى روما. لكنّ العراق سيبقى دائماً معي وفي قلبي“
بهذه الكلمات أختتم الحبر الأعظم البابا فرنسيس زيارته الثلاثية الآيام الى العراق ، وجه من خلالها العديد من الرسائل والخطابات والتي أشارت معظمها الى ترسيخ مبادئ السلام وروح المحبة ونبذ العنف والكراهية ومن ثم الدعوة الى التعايش السلمي مابين جميع المكونات الأثنية والقومية المتداخلة ضمن فسيفساء الشعب العراقي، والتي تم ألقائها من تلك الأماكن المميزة ذات الذكريات العاصفة و المريرة ونخص منها العاصمة السومرية أوروك، و محافظة نينوى مع سهلها الذي لم تندمل جراحِه لحد الآن بسبب الأرادات الشوفينية الغاطسة بالأرهاب والتطرف الثيوقراطي من خلال عمليات القتل والترهيب التي صبت جمامها على رقاب العراقيين بكافة تلاوينهم المذهبية، ونخص منها حملات الأبادة التي مورست بحق أبناء الوطن من الأيزيدينوالمسيحيين عام 2014.
ومن بلاد الرافدين أمتزجت رسائل الكرسي الرسولي بعناوين المحبة والألم الغائص بالذكريات الشجينة بعد أن وضع يده على جراح المجازر التي حدثت في سنجار وسهل نينوى، لكنه في المقابل أكد على اِن الِأله الذي جمع الديانات الأبراهيمية في بودقة واحدة هو غفور رحيمومتسامح، و شدد قداستة بالعمل الجٍدي من اجل لملمة جراح العراقيين ونسيان الماضي،ولاسبيل لديهم في التراجع عن القيم الأنسانية السامية والنبيلة المرتكزة على الثوابت الوطنية و رص جميع الصفوف والعمل على أِنقاذ البلد من محنته والعودة به الى حالته الطبيعية.
لاشك بأن الزيارة أحدثت الصدى الواسع في المجال السياسي ،الأعلامي و الشعبي، حيثنجحت اللجنة المنظمة للزيارة في تأدية الواجبات الملقاة عليها في ظل التحديات الكبيرة التي يواجها البلد، لكن في نفس الوقت طغت على أعمالها بعض الشوائب السلبية والتي من خلالها شوهت صورة العراق المدنية، ونقصد بها جزء من تلك اللحظات التي أُستقبل بها البابا فرنسيسفي مطار بغداد الدولي والتي تمثلت في أن يسير قداسته تحت راية السيوف الحجازية الصحراوية الصارخة، حيث المشاهد المذكورة لاتليق ابداً بشخصية روحية مثل قداسته والتي جاءت لتحج بيوت الله في العراق رافعة على كتفها حمامة السلام وبيديها غصن زيتون، والجدير بالذكر أِن هكذا مشهد لايمثل بدوره أِلا أِحد ثقافات الغزو والحروب وهذه الظاهرة مستوردة ولا تمت من بعيد ولا من قريب الى الثقافة المدنية العراقية.
سوف نتكلم وبصورة مسهبة في المستقبل عن المحطات البارزة من زيارة البابا فرنسيس للعراق وخاصة لقائه التاريخي مع سماحة السيد علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العالم.لكن اليوم نود توجيه أقلامنا للأشارة على مدى مصداقية الأطراف السياسية العراقية المتحاورة مع قداسة البابا فرنسيس، حيث أثبتت التجارب والوقائع مدى براعة هذه المنظومة السياسية باللعب والتهاتر والكذب ثم أمتلاكها حالة الرياء وقدرتها على تغيير لونها الفكري بمهارة عالية، وأستخدامها عدد من الأقنعة المتناقضة فكرياً و عملياً لخدمة مآربها ومصالحها الذاتية والحزبية. حيث أمست الطبقة السياسية خلال هذه الفترة، الراعية الحنونة لشعبها وأيدت وبقوة خارطة طريق السلام التي أنشد بها البابا فرنسيس ومعه سماحة السيد علي السيستاني وغيرهم والتي تؤكد بدورها على المحبة،السلام والمساواة مابين الأخوة في الوطن الواحد.
ليس بالغريب بأن تقوم المنظومة نفسها في تغيير قناعها و من هناك تقوم بأرسال رسائل مغايرة ومتضادة مع الوجه الظاهري لها، وتستغل الظرف الموضوعي في اِنشغال الساحة الشعبية العراقية بزيارة البابا فرنسيس للبلد، بحيث تقوم هذه المنظومة بتوجيه أحد سلطاتها والمتمثلةبالبرلمان العراقي بان يباشر في المناقشة والتصويت على أحد اسؤأ القوانين المشرعة في تاريخ العراق الحديث ضمن الجلسة رقم 42 في يوم الأثنين الموافق 8 آذار الجاري، اِلا وهوتمرير التعديل الخاص بقوانين المحكمة الأتحادية العليا، بحيث نستطيع القول بأنهم توفقوا في عمل نسخة مشابهة الى مجلس صيانة الدستور الأيراني، من خلال أضافة اربع خبراء بالفقه الأِسلامي وتقاسمهما طائفياً اِثنان من الطائفة الشيعية والآخرين من الطائفة السنية ( العرب والأكراد حصراً)، ليصبح مجموع أعضاء المحكمة الأتحادية العليا من ثلأثة عشر عضواً بعد ان كانوا تسعة أعضاء. ونود الأشارة هنا الى الجملة المثيرة والتي تقول ( كل قاض فقيه وليس كل فقيه قاضي ).
مرة أخرى يخالف الساسة العراقيين الدستور العراقي، خلال المادة الرابعة عشر منه والتي تبين مايلي ( العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي)، وهذا دليل قاطع على الرادع الخلاقي والعقلية الضيقة التي يتميز بها الطبقة المسيطرة على تقاليد البلد، والتي تحاول توطيد مبدأ المحاصصة الطائفية ودعم التمييز الطائفي على حسابالسكان الأصليين لهذا البلد كالآشوريين المسيحيين واليزيدية والصابئة المندائيين وغيرهم من الديانات الأخرى (البهائية – الزرادشتية – اليهودية – الملحدون ).
و أخيراً نقول بأن عملية تمرير قانون المحكمة الأتحادية العليا في البرلمان العراقي ماهي اِلا عملية اِطلاق رصاصة الرحمة على خارطة طريق السلام البابوية والتي دعا قداسته لها من اجل لملمة جراح العراقيين بكافة تلاوينهم الطائفية والمذهبية.
لقد عاد البابا فرنسيس الى روما ومن هنا عادت حليمة الى عادتها القديمة، حيث عودة مؤشر سيناريو مسلسل التفجيرات و الأعتقالات والضغط على المتظاهرين في ساحات العز والشرف .