الطين صلصال حياتنا . وأعتقد أنه أول اريكة استراح عندها آدم في هبوطه الى الارض ، وأول وسادة غرام غفى عليها بعد أن شعر في الأطمئنان أن قابيل وهابيل قادمان الى الحياة وربما شعر وهو يضع رأسه على هذه الوسادة أنهما سيتشاجران وأن واحد سيقتل أخيه . فيصيبه حزن فقدان أبن فلا ينام على وسادة الطين ، بل على اكتاف زوجته حواء ليستعيد معها خواطر حياة ماضية كانا فيها الاخوين متصالحين قبل اعلان الحرب بينهما.
الخمرة في فتح خائها تصير خمرة للسكر والعربدة أو الرغبة المفضوحة في انتاج قصيدة ونسيان جوع الحياة ، وهي صنيعة عصر عنب أو التفاح أو التمر ، وربما هي من بعض المكتشفات الأولى لتكون غذاء روحياً للبشر ، وربما هي في العصور الأولى من بعض مستلزمات طقوس المعابد والتقرب الى الآلهة ، وطالما كنا نرى في الواح الطين والحجر والمسلات وحاكايات الاساطير أنَ الالهة والملوك كانوا يجلسون على عروشهم في اليد صولجان وفي اليد الاخرى كأس خمر.
أما الخُمرة برفع حرف الخاء فعرفتُها مع الخبز والطين ، فكليهما لاينضجان إلا من خلال تخميرهما ، ولكن الخبز لا ينضج إلا بوجود فرن الطين ( التنور ) فيما لايحتاج الطين ليخمُرَ إلا أن يضاف اليه التبن ويبقى ليلة واحدة .
مع الطين وخُمرتهْ ، سكرت الذكريات في أيام طفولتنا ، عندما لايجد الفقراء غير الطين والتبن مادة تصنع مكان الايواء من الشمس والمطر وممارسة الغرام ، عندما كانت غرفة الطين هي صالة العرش بالنسبة لي عندما كنت محشورا فيها مع اخوي كما كان ، للنوم والمذاكرة وانتظار جدتي لتزورني آخر الليل وتحمل حكايتها المشبعة بالأساطير والاحلام ونظرات شهية من حوريات بيض تقول جدتي عنهن : أنهن وحدهن كفيلات بتحقيق أحلامنا حين نكبر ونصير رجالا في مفارق الطرق فكانت تقول لاخي الاكبر :ستصير دمعة ، وحقا فقد تحول الى دمعةٍ حين دهسته عجلة جار لنا وهو في الصف السادس الابتدائي ومات .
وقالت لأخي الاوسط : أنت ستكون عامل طين وتموت في عمر الخمسين .وفعلا انتهت حياته وهو عامل في معمل طابوق ، وتوفي وقد خلف نصف درزينة أطفال . أما أنا فقد كانت تقول عني : أنكَ ستلبس أجنحة السنونو وستذهب ابعد من مقام سيد خضير أبو ( حيايه ) والسيد هو مرقد لعلوي جليل يقع في اطراف الناصرية من جهة البصرة.
والأن وأنا بعيد عن قبة السيد الهاشمي بالآف الاميال أتذكر وجه جدتي في شوارع السُحب الماطرة فوق رأسي الآن ، فأمشي في تفاصيل عينيها ابحث عن عمر تحول فيها البرتقال الى دموع ، وثمر البطيخ الى قناني عطر فرنسية ، وربما حاجبيها تقوسا اكثر من هلال العيد فأنكسر ظهرها وجلست في غرفة الطين بدون نديم ولتموت وحدها . والذي شيعها فقط ابي وأنا وأخي ونحن نستعيد صدى نبؤاتها الكهنوية فأسعد لانها ذهبت بي أبعد من مهنة اخي .
هذا البُعد الروحي مكنني لأكون كاتبا وقاصا وشاعرا أسكن كل اتجاهات الرمش الى جهة الطين فيها خمرة الليل وحمرة القبلة ورائحة الهيل ، فتسكنني المحطات عبر النافذة ، لتأخذني الى حاضنة تلك الموهبة التي نشأت بين قصص مكتبة المدرسة والمكتبات الجيران وبفعل النظرات السحرية في وجوه ممثلات السينما المطبوعة على اغلفة المجلات .
وفي نهاية مسافة النظر من ضفاف الراين الى ضفاف الفرات .
جدتي تجدد ضحكتها السومرية حتى عندما صار جسدها رميماً وعظاماً.
والآن عليَّ أنا المتوارث من الغبار وظلال النخيل أن أصعد طيبقات سلم الزقورة لأرى من الأعلى قبر جدتي أن كان لم يزل له شاهدة على التراب ولم تسحقه الدبابات وتحوله مع قبور أخرى الى شوارع للمشاة .
أتوسل اليها بنظرة جنوبية حاسرة الدمعة والبوح والنحيب ، وأتمنى أن أسمع منها نبؤة أخرى فيما يخصني ، فيأتي صدى موجة نهر وموسيقى مطر ورشفة عطر : أبق في مكانكّ ، فأي كانت دورة الأرض فبوصتها الأخيرة قبر.!