23 ديسمبر، 2024 4:19 م

خيبات مضت واخرى على الطريق

خيبات مضت واخرى على الطريق

الوضع العربي كما هو قائم لا يمكن ان يؤدي الى ايجابية واحدة، وهو على العكس يحمل قابلية عجيبة لاستيعاب المزيد من الهزات والسلبيات. فعندما تختلط الرؤية، تضيع المقاييس وتتعدد المفارق والطرق، وتذوب الابعاد وتغيب المبادئ، ويصير من الصعب التمييز بين الرديء والجيد، والابيض والاسود، وخاصة اذا كان الامر يتصل بقضايا معقدة ومتشابكة مثل قضية الاحتلال الامريكي للعراق، وحكوماته المتعاقبة… وسياسة الابادة الواطئة الشدة المفروضة علينا نحن شعب العراق تحت مسميات انسانية عديدة…؟!
ومما يزيد الوضع سوءاً، ان بعض العرب للأسف لم يتفقوا على رأي موحد تجاه قضايا يقولون انهم معنيون بها ولا يمكن ان يفارقوها او تفارقهم، لانهم كما يقولون: شغلهم الشاغل ومصدر همومهم وسبيلهم للديمومة والبقاء.
ولكن العلامات والظواهر كلها تدلل على العكس، فهم لم يستطيعوا ان يتخذوا موقفاً موحداً تجاه أية قضية مصيرية وتجاه الذين يناصبون هذه الامة ومجتمعاتها العداوة والكراهية. فالانقسام هو شعار المرحلة، والخروج على الاجماع وعدم الانسجام، كل ذلك يوشك ان يتحول الى سياسة ونهج واسلوب عمل. اما التضامن والعمل الجماعي والجهد المشترك، فتلك طروحات لم يعد لها وجود امام الادعاء باستقلالية المواقف والاراء والعلاقات. والمسؤولية برمتها تقع على العرب انفسهم، فاوضاعهم ومواقفهم تعطي انطباعاً واضحاً عن انهم فعلاً عاجزون عن فعل اي شيء من اجل انفسهم. وهناك ممارسات واوضاع خاطئة لا تزال تتنامى، يتعين تصحيحها والانتباه اليها وحسمها في لحظاتها الاولى بقوة الموقف العربي الجماعي- ان وجد فعلاً- ولكنه عملياً لم يتقدم خطوة واحدة على الرغم من انه بات في حكم المؤكد مبدئياً ان التضامن العربي هو الخيار الصائب الذي يكفل الامة العربية سعيها الدؤوب نحو افاق ابرام ميثاقها القومي الذي يجمع شتات الشعب العربي ويحقق قسطاً من طموحاته المستقبلية.
من هذا المنطلق تبدو كثافة القضايا التي تنتظر حظها من التسوية العادلة وابعاد شبح الخلافات المدمرة عن كياننا العربي واجباً ضرورياً يتعين على السياسات العربية الاعتراف والسعي وراء استئصال جذور الخلافات العربية- العربية من ارضية واقعنا المعاش.
والملاحظ علينا نحن العرب، اننا ننطلق دائماً – نسبياً- من الحدث الاخير نتنادى للتضامن والتعاضد او الوحدة، متناسين كل الاحداث التاريخية الكبرى التي كانت تشغلنا منذ عهد قريب او بعيد. وعلى هذا المنوال تتراكم القضايا المعلقة وتتحول الى قضايا شائكة وتعجيزية لا يستطيع اي قطر عربي بمفرده ان يوفر لها حلاً نهائياً.
فقد توارثنا على سبيل المثال لا الحصر، منذ خمسينات القرن الماضي القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية العربية الاولى، وأرقنا لاجلها الدماء والدموع والحبر… ما كان كافياً لحلها. الا ان دعاءنا ودموعنا وصبرنا لم تهرق في مجرى واحد ولم توظف في قوة موحدة وبالتالي لم تؤد لشيء آخر سوى تأجيل حل القضية الفلسطينية بينما عدد اخواننا الفلسطينيين تكاثر وتجاوز الخمسة ملايين نسمة التي لم تظل هائمة على وجهها نتيجة حرمانها من وطنها فحسب بل حرمانها من ملاذ عربي موحد تستقوى به ليوم  الفرج.
ولكن حدث ما هو غير طبيعي، فقد تمكن الضيق والتضييق من هذه القضية القومية التي طالما وصفت بانها مقدسة، فهل تقديس القضايا القومية- ان لم نشر الى التآمر الدائم عليها – باضاعتها وتجاهلها؟
– ولكن ماذا نفعل بقضايانا المتراكمة الاخرى؟ جنوب السودان، الصحراء الغربية، كل الاشكالات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، الاحتلال الامريكي للعراق ومخلفاته التقسيمية… وغيرها من الجراح النازفة والبؤر الملتهبة، تأكل الامكانات والطاقات، وتهدد  اقطاراً عربية اخرى للالتهاب والانقسام.
مما لا شك فيه، ان الواجب القومي يقتضي التضامن العربي العام والفعال مع كل حدث قومي جلل، كون الامة العربية واحدة في همومها ومآسيها ومسؤولياته، ولكن المطلوب دائما وابداً هو التضامن العربي الكامل حول القضايا كافة. والمرفوض هو ان تكون كل قضية عربية مزمنة او طارئة موضوع انقسام واختلاف ولا تضامن او تضامن البعض ومناوءة البعض الآخر. المرفوض هو التهرب من المسؤولية القومية والتفرد بالمواقف والتحزب او التحيز لهذا القطر الغربي على حساب آخر، والتمسك بقضية ما في مواجهة قضايا اخرى، ومع ذلك نلاحظ هذا التمسك العجيب بآخر الاحداث والنواح الاعلامي الملازم لها وترك كل القضايا السابقة التي عولجت في حينها واستأثرت بما تستحق من تضامن شامل ومن مواقف صارمة جانباً لما كانت الاحداث الاخيرة ممكنة الحدوث بالشكل التراجيدي عينه.
ان بعضنا للأسف يعاقب ذاته ويشجع الآخر على معاقبته، بفتح البوابة كمنفذ للانقسام والاختلاف والتحارب. ان مثل هؤلاء مصابون بعدم حب الذات القومية ويعانون من التنكر البغيض لذواتهم القومية القابلة للتآلف والانصهار، وبسلوكهم مسلك اللاتضامن انما يعاقبون ذاتهم القومية ويوجهون شعبهم في معرض دفاعهم عن وجودهم القطري نحو الموت الاختياري/ الانتحار السياسي بدلاً من توجيههم نحو الدفاع عن وجودهم الكلي ونحو الفعالية القومية.
آما ان لهذه المعاقبة الذاتية ان تتوقف؟
انها في الواقع ترتدي طابع تصارع نفر من الحكام العرب المفروضين على شعوبهم، والامة كلها بالنتيجة تدفع الثمن. ولا ندرك تماما ما الذي يحول دون تعاون هذا النفر من الحكام بدلاً من تعاديهم. فاذا كان حرصهم على سلطانهم هو الذي يدفعهم للتعاون والتحارب، واذا كان خوفهم على كراسيهم هو الذي يجعلهم يخافون من اشقائهم الخلص، فان تضامنهم هو الذي يفترض به ان يحمي سلطانهم ويقوي سلطان الامة التي تتهددها الاخطار من كل جهة وبالتالي تتهدد هذا النفر من الحكام وشعوب اقطارهم الواحد تلو الاخر.
آخر الاحداث- كما ذكرنا آنفاً- هو الذي يوقظنا ويثير فينا الشهامة والنخوة والفكرة القومية، وما ان يترسخ الواقع المؤلم الجديد، يجري تناسيه واهماله واضافته الى الاحداث الاخرى الجسام المستديمة والمقيمة في تاريخنا الحي.
هكذ نتضامن مع بعضنا ولا نتضامن، فنتنادى ولا نتلاقى، وتظل الجامعة العربية معطلة والقمة الحقيقية الفاعلة مشروعاً مؤجلاً، ربما حتى لا يبقى قطر عربي واحد خارج هذه الحرب المتفاقمة.
والواقع، ان ارضنا العربية تحولت منذ غزو نابليون الى ساحات حروب ومنازعات اخوانية وعدوانية، لا يتسع المجال لذكرها… ولا نظنها غائبة عن الاذهان، انها بمثابة عقاب للعرب عن امكان توحدهم وتضامنهم في موقف قومي مشترك، ولكن سيظل العرب مستسلمين لهذا العقاب؟ واذا كان لا بد للعرب من مواجهة الكوارث، الازمات، الحروب، الاحتلالات… هذه، فلماذا لا يواجهونها معاً قبل ان تستنزف اقطارهم وتدمر استقلالهم ومنجزاتهم ما بعد الاستقلال؟ ان السبب هو مرض اللاتضامن، مرض اللامسؤولية القومية؟
المفروض ان التضامن العربي لا يتجزأ، والتناحرات العربية باشكالها المتعددة تستحق وقفة مشتركة وتستوجب انهاء التنازع الثانوي والرأسي بين بعض الحكام العرب الذين يضعون كل الحق الى جانبهم ويضعون كل الباطل على كاهل اخوانهم الاخرين.
اما سياسة اللاتضامن التي يعاقب بها بعض الحكام العرب انفسهم وشعوبهم، فانما توفر افضل الظروف والفرص لكي يعتدي كل راغب في الاعتداء على هذه الامة الكبيرة في حجمها التاريخي والصغيرة في مواقفها السياسية.
المطلوب الآن، هو جعل السياسات العربية تترفع وتكبر بحيث تقترب من حجم الامة وقضاياها، لا تصغر هذه الامة بعدم التضامن ولا بأنتهاج سياسات صغيرة ترمي الى ارضاء الحاكم وظلم المحكوم، وترك امريكا واسرائيل يعتدون فلا يواجهون سوى مقاومة محدودة عربياً، بينما العرب الآخرون ينتظرون دورهم في حروب عدوانية قادمة محتملة.
وبقدر ما تبدو الحلول العربية مستبعدة حالياً بسبب هذا الجمود السياسي المستحكم ببعض حكامنا، وبسبب هذا الاصرار على اللاتضامن في اصعب محن الامة، فان العدوانات ستتوالى على امتنا الى ان ينهض الشعب العربي بواجب ألزام هذا البعض من الحكام بحقوقه في التضامن والتآلف والتفاهم على سياسة عربية كبيرة تليق بأمة تكبر شعبها وتنمو مجتمعها.
[email protected]