23 ديسمبر، 2024 2:10 م

استحضر رفشه وأدوات الحفر للموتى ثم اختار زاوية بعيدة في أقصى الروح لا يصلها الضوء ولا تمر بها الرياح في مواسم العشق ويغمرها النسيان وحفر بها رمسا كبيرا استغرق أياما في حفره وجلس للراحة قبل الشروع بمراسم الدفن وألقى نظرة طويلة على الجسد المسجى في يباب الروح بعدها انحدرت دمعتان كانت الأولى حزنا والأخرى فرحا بالخلاص .
. انتصف الليل وهو جالسا على دكة انتظاره مدورا اسطوانة فيروز ( أنا عندي حنين ما بعرف لمين ) عشرات المرات محرقا ما تيسر له من لفافات التبغ متجولا بين مقابر الذكريات قارئا بدقة لكل الشواهد الموضوعة عند رؤوس الموتى مدققا بالتواريخ التي كتبت على كل شاهدة محصيا الايام والليالي التي قضاها الراقد هنا في ربوع هذه الروح الفانية المتغيرة بأهلها من حب إلى بغض ومن إقامة إلى رحيل مرة بوداع ومرات بلا أمنيات متوقفا هنا .. ضاحكا هناك .. باكيا عند قبر لم يجف ترابه بعد .
. كانت من أجمل الليالي سحرا وبهاء وروعة ورونقا تألقت  المحتفى بها حتى بدت كنجمات السينما رقة وجمالا وخفة ظل وفرح يفيض من محياها وكان فرحا بها وسعيدا بوجودها حد الجنون والانعتاق , صدحت لليلتها الأغاني وتراقصت الشموع وانثالت الأمنيات وتزاحمت الأحلام وكان يتمنى أن يشعل عمره شمعة تضيء ليلتها وتدخل السرور على قلبها .
. كان جذلا فرحا بما قدم لحبيبته في ليلتها وتمنى أن  يقدم لها كل ما يسعدها وبعد انقضاء ساعات الصباح الأولى التي اعتادت أن تنامها كما تعود هو أراد أن يكون أول من يتصل بها ويرمي عليها تحية الصباح في يوم جديد لكنها لم ترد فظن أنها لازالت نائمة خصوصا وان سهر ليلة أمس استطال كثيرا فقرر عدم إزعاجها وقادته قدماه إلى نفس المكان الذي امضيا به ليلة البارحة فدخل لتناول فطوره مستذكرا الماضي القريب معها ولما استقر خلف طاولته هاله أن يراها تجالس شخصا آخر وهي بأبهى حلة  ويمسك بيدها هامسا بإذنها وتبتسم له بمرح .
. طلب لنفسه قهوة مرة بدلا من الفطور وأشعل سيجارته الأولى واخذ يرتب أفكاره بهدوء وتمنى أن لا تكون هي ثم تفرس بوجه جليسها فعرف انه صديق قديم طافت به الدنيا وطاف بها وانقطعت أخباره وانشغل بقهوته بعد برهة سمع وقع أقدام وصوت رجل يلقي عليه السلام فنهض متفاجئا به وهو يعانقه ويسأله عن أحواله ثم يطلب منه الذهاب معه الى طاولته ليعرفه على حبيبته التي تحتفل بعودته .
. كفكف دمعة الحزن وتمهل كثيرا في ترك دمعة الفرح تنساب على خده راسمة مسارا جديدا لأيام قادمة من غير حب او خيانة ثم اطفأ سيجارته وداس عقبها بقسوة حتى اختلطت بالمكان واختفت معالمها وسار بخطوات احتفالية كتلك التي سار بها صديقه إليه في المطعم ووقف قبالة الجسد المسجى من دون حزن أو خشوع او رهبة من الموت أو لوعة لفراق وخاطبه بهدوء .. الحب سمو والخيانة خسة ومن يدمن الخيانة لا يعرف الحب .. ليغفر لك الرب ويمنحني القدرة على النسيان ثم حمل الجسد وانزله في اللحد بتواضع  زاهد وأغلق عليه باب لا يستطيع غيره فتحه ثم كتب على شاهدته .. للخيانة قبر واحد .