في منتصف الستينات عرض تلفزيون بغداد مسلسلا تلفزيونيا مصريا بعنوان خيال المآتة وهو من اخراج نور الدمرداش وبطولة سميحة أيوب وحسين رياض وعبد الله غيث . كان عمري انذاك حوالي عشر سنوات و مصطلح خيال المآتة كان في حينها غريبا على الأذن العراقية ولم أعرف معناه بالضبط . في احدى الحلقات وأثناء تصاعد الحدث الدرامي للمسلسل ألححت على اخوتي الأكبر مني الذين كانوا يشاهدون تلك الحلقة بشغف وانصات ان يشرحوا لي معنى مصطلح خيال المآتة فأجابوني بصوت واحد ” انچب هسة .. بعدين” . فأضطررت صاغرا ان التزم الصمت خشية حدوث مالا يحمد عقباه . وقد علمت بعد سنين طويلة ان مصطلح “انچب” العراقي مشتق من اللغة الهندية حيث يقال بالهندي “چُپ كارو” اي اسكت او أقفل فمك .
وبعد انتهاء تلك الحلقة أجابني اخي الأكبر باقتضاب ان خيال المآتة تعني خراعة خضرة . ولكوني قد نشأت في بغداد طيلة حياتي لم افهم مباشرة معنى خراعة خضرة الى ان شرح لي ان خراعة الخضرة تعني ان تقوم بغرز خشبتين متعامدتين في الحقل الزراعي ثم تلبسها بعض الملابس البالية وربما قبعة لكي توحي بمنظر رجل يقف في الحقل كي تتوهم الطيور ان هناك إنسان قريب وقد يصيبها بأذى اذا حاولت التهام الحبوب او نقر الخضروات فتبتعد عن الحقل .
يعتقد المختصون بسيكولوجية الطيور ان الطيور ذكية جداً فتبتعد عن الخطر المحتمل و لكنها تتآلف جداً مع البشر الذي يطعمها ولا يؤذيها وقد حدث ذلك لي قبل أسبوعين حيث اطعمت عشرات الطيور من يدي في ساحة سان ماركوس في فينيسيا الى ان شبعت هذه الطيور و(تريعت) ،، في حين ان الطيور في العراق تطير مبتعدة عن البشر لكثرة ما ضربوها (بالمصيادة) وبنادق الصچم تلذذا في إيذائها ليس الا . لذا فإن أسوأ وأفشل خراعة خضرة ستقوم بواجبها خير قيام في العراق .
قبل ان انهي مقالي هذا راجعت عمنا الگوگل لأرى ان كان احد قد كتب مؤخراً عن الخراعة خضرة كي لا اتهم بسرقة أفكار الاخرين على اقل تقدير . أصبت بالدهشة من عدد المقالات التي كتبها عراقيون عن خراعة الخضرة . فأحد الكتاب ذكر ان الرئاسات الثلاثة في العراق خراعة خضرة امام المليشيات،، والآخر كتب ان الادعاء العام في العراق خراعة خضرة ، وهناك تصريح لأسامة النجيفي يتهم فيه وزير الدفاع العبيدي بانه خراعة خضرة . هل نعيش نحن إذن حقبة الخراعة خضرة وما زلنا نجهل ذلك .. يا لبؤسنا إذن… وانا بدوري أقول ان رئيس الوزراء الذي لا يستغل تفويض المرجعية للقضاء على الفساد وإعادة الأمور الى نصابها ولا يفعل ذلك فهو لا يصلح إذن لإدارة مقهى شعبي ولا يصلح حتى كخراعة خضرة … لان الطيور الكاسرة العراقية من مليشيات ولصوص وفاسدين ستدرك بغريزتها انه لا يمتلك إرادة الفعل الجبار الذي يقلب مائدة اللئام ويجعل عاليها سافلها .
ان العراق الان يعاني طبيا من موت سريري غير معلن . بعض اجزاء الجسم العراقي فيه شيء من الحياة ولكن لا ترابط بين هذه الأجزاء ولا ناظم لها . قامت احدى المليشيات قبل ايام باختطاف عمال أتراك وعندما هب الجيش لإنقاذ الرهائن قامت تلك الميليشيا بقتل وأسر أفراد من ذلك الجيش الذي انهزم قبل بضعة أشهر امام شرذمة من مجرمي داعش وسلمهم على طبق من ذهب الموصل الحدباء . ولو تقاتل هذا الجيش مع المطيرچية في سوق الغزل فسوف يخسر النزال حتما . المرجع الشيعي الأعلى اية الله علي السيستاني يطالب الان تلك الميليشيا بالإفراج عن الأتراك المختطفين وليس هناك من يسمع او يلبي طلب المرجعية . شاهدت قبل يومين متظاهرين ساخطين يرمون دمية مكتوب عليها اسم ممثل المرجعية عبد المهدي الكربلائي .. يرمونها بالنعال والحجارة وكأنه الشيطان الرجيم .
اننا نسير على خطى أمراء الحرب في أفغانستان . ان زعماء المليشيات في العراق سوف تدغدغهم نشوة السلطة المطلقة ولا استغرب ان أعلنوا العصيان حتى على أسيادهم مختار العصر و سيده وولي نعمته خامنئي بعد فترة . لن أدهش ان فكر احدهم الان بزراعة نبتة الخشخاش ليبدأوا بتصدير الأفيون كما يفعلون في أفغانستان لان العراق الان خان جغان وليست هناك سلطة مركزية او حتى طرفية تمنعهم عن ذلك .
سنبكي حينها على العراق الكونفدرالي باقاليمه الثلاثة الذي لن نتمكن من جعله يرى النور لان العراق سيقسم حينها بعدد الميليشيات التي تنتشر فيه الان …. يا ستار يارب .
للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة على البريد الالكتروني
[email protected]