18 ديسمبر، 2024 8:39 م

خواطر و تأمّلات في كتاب : حصاد الغياب … اليد الصغيرة لا تكذب

خواطر و تأمّلات في كتاب : حصاد الغياب … اليد الصغيرة لا تكذب

«إنّ الأدب كان ولا يزال وسيظلّ صديقاً للمتألّمين عبر الزمن»

هكذا قال فيكتور هيجو المدافع الصادق والشرس عن الفقراء و المقموعين و صاحب “البؤساء”، أشهر رواية فرنسية وإحدى روائع الأدب العالمي. وهو ما يعني أنّ الإبداع عموما إنّما هو وليد المعاناة، لا بل “هو معاناة أو لا يكون”، كما يرى محمود المسعدي في مقولته الشهيرة التي تنهل من رافدها الأساس وهو الفلسفة الوجوديّة. و يبقى السجن –بالتأكيد- مثالا صارخا للمعاناة الوجوديّة بحيث تكون الكتابة من داخله لا تعتبر فقط كتصوير لإيقاع حياة السجين ووصفا دقيقا ليومياته الضنكة أوكتجسيد لصراع رهيب بين الموجود والمنشود، بل وكذلك كشكل من أشكال ممارسة الحريّة رغم الأغلال والأصفاد ورغم الاسلاك الشائكة والأسوار العالية التي تحجب الشمس كرمز بارز للحرية. لأنّ الكاتب السجين يختلف عن البلبل ، بطل الحريّة ، الذي ما إن يُودع قفصا إلا و يموت فيه غمّا وكمدا. ولأنّ هذا الكاتب/السجين يظلّ ثابت الجنان، بل ويظلّ عنيدا يميل إلى التحدّي، لأنّه من طينة زيزيف يؤمن تماما بمقولة : «لأستسهلنَّ الصّعبَ أو أدركَ المُنى … فما انقادتِ الآمالُ إلّا لصابرِ». بمثل إيمانه بما قاله شاعر تونس الخالد أبوالقاسم الشابّي في قصيدة إرادة الحياة :
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
ثمّ إنّ إيمان السجين بالله يجعله موقنا كما قال ابن تيمية بأنّ «المحبوس من حُبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه »وليس من سجن في سبيل قضيّة عادلة. ولهذا فهو يردّد مع من قال : «أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة». وكاتبنا يعي جيّدا، بل ويؤمن أنّ الليل مهما طال فلا بُـدّ أنْ يَنْجَلِــي وَأنّ القَيْدِ مهما اشتدّ فلا بُدَّ أَنْ يَـنْكَسِـر، ويؤمن بصدقيّة مقولة ” الحبس كذّاب …والحيّ يروّح”، هذا المثل الشعبي التونسي الذي اتّخذه فتحي بن الحاج يحي عنوانا لكتاب له من جنس أدب السجون يتحدّث عن اليسار في الزمن البورقيبي. يستتبع ذلك أنّ الكاتب/السجين في نهاية الأمر، يعي تماما لا بل و يؤمن إيمانا قاطعا وقويّا لا يتزعزع أنّ جولة الباطل ساعة وجولة الحقّ إلى قيام الساعة. بما يعني أنّه (أي الكاتب/السجين) منتصر على “السلطان” لا محالة. ومن مفاعيل ذلك أنّ السجين المثقف، صديق القلم، الذي يريد أن يكون صادحاً بالحقّ، ناطقاً بالصدق، لا يمكن أن تمنعه أيّة قوّة من تسجيل ما يتعرّض له من إهانات و معاناة يوميّة أو كتابة مذكّرات و رسائل- في إبّانها- إلى أهله وأحبّته ورفاقه المناضلين. ذلك عين ما فعله صاحب الكتاب الذي سنعرض له. وذلك ما أكّده فيكتور هيجو في هذا السياق حيث قال «أقوى شيء في الكون كلّه، أقوى من الجيوش وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره، هي فكرة آن أوان خروجها…. » بهذا المعنى تكون الكتابة في السجن، هي” فعل اخراج الذات من ذاتها…واستدعائها كلما كان ذلك ضروريا و ممكنا ” كما قال المهدي المبروك وزير الثقافة الأسبق.
ضمن سياق هذه الرؤية، جاء كتاب “حصاد الغياب ….اليد الصغيرة لا تكذب” لعبد الحميد الجلاصي، القيادي الكبير في حركة النهضة التونسية. وهو المناضل الذي حكم عليه، في الأصل، بالسجن مدى الحياة وقضى، في الواقع، 17 سنة من عمره في ظلمات السراديب وغياهب السجون التونسيّة متنقّلا بينها من الشّمال إلى الجنوب، في رحلات لا تنتهي إلّا لتعود من جديد. إذ كانت تونس قبل الثورة شبيهة بسجن ممتد الاطراف “تتعدّد أسماؤه ” كما قال المهدي المبروك في تقديمه للكتاب، حتّى أنّ الكاتب عندما خرج من السجن، قبل الثورة، كان حاله كمن خرج من سجن ضيّق ومغلق الى سجن أرحب ومفتوح حيث عيون التجسّس لنظام بن على البوليسي مبثوثة في كلّ مكان وتحرّكات المواطن محسوبة بدقّة فما بالك بتحرّكات من كانت له نشاطات سياسيّة علنيّة أو خفيّة. و قد كان الكاتب خلال هذه الرحلات المكوكيّة وهذا “الطواف” بين السجون في صراع ليس من أجل البقاء، بل من أجل ألتوق إلى العيش في حريّة في وطن ديمقراطي يتّسع لجميع أبنائه، مهما اختلفت توجّهاتهم وتضاربت آراؤهم، مكرّسا بذلك فضيلة الثبات على المبادئ التي يؤمن بها خدمة للدّين والوطن، ومجسّدا إلى حدّ ما، قول أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عايش مرارة النفي ومعاناته التي تقارب بل وتكاد تبلغ مرارة ومعاناة ووحشة السجن. ولكن تبقي تجربة السجن هي الأكثر قساوة:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي

إنّي لا أزعم أنّ جهة النظر إلى مضمون الكتاب وكذا منهج الرؤية المتبعة في قراءته تستجيبان لشروط القراءة النقديّة التحليليّة، بما هي فهم لما وراء النصّ وما خلف الكلام، لأنّ مقاربتي في هذه القراءة هي أقرب إلى تسجيل خواطر وتأمّلات حول الكتاب منها إلى تحليل المضمون و تحليل الأسلوب أو اللّغة داخل النصّ ونقده منهجيا، لأنّ ذلك ليس ممّا هدفت إليه من هذه السطور. لا سيّما وأنّ النصّ بدا لي مكشوفا أو “شفّافا” كما يقول المفكر البنيوي لوسيان قولدمان (LucienGoldmann).
يقع الكتاب الصادر سنة 2016 عن دار مكتبة تونس في 320 صفحة من القطع المتوسّط، ويجمع في ذات الوقت بين أدب السجون والتراسل السجني، بالأساس، وأدب الرحلة، أحيانا قليلة. وهو الجزء الأول من مجموعة كتب يعتزم المؤلف إصدارها تباعا. وقد صدر له في هذا الإطار، منذ أسابيع قليلة، كتاب ثان بعنوان “الشهداء يكتبون الدستور” يوثّق لا فقط لفترة السجن التي قضاها الكاتب بتونس العاصمة قادما إليها من سجن قفصة بل وكذلك لما بعد هذه الفترة. للإشارة فإنّ الكتب جميعها لها عنوان جامع هو حصاد الغياب وعناوين أخرى فرعية. وهي كلّها تؤرّخ لمحطّات مهمّة في حياة المؤلّف، من مثل الإعتقالات والمحاكمات وقضاء المحكوميات والتنقّل بين السجون أثناء النشاط السياسي السرّي كما العلني . وهي (أي الكتب) تمسح فترات مختلفة من نضالاته زمن الرئيسيين التونسيين المخلوعين، بورقيبة وبن علي، أي زمن ما قبل ثورة 14 جانفي2011، بما في ذلك فترة ما بعد خروج الكاتب من السجن. كما تمسح فترة ما بعد الثورة وانخراطه في العمل السياسي والحزبي غير السرّي بما بوّأه مكانا بارزا في صفوف قيادات حركة النهضة.
وباعتبار أنّ عالم النصّ عموما- أيّا كان جنسه- يمكن أن نفهم أغواره إنطلاقا من عنوان الكتاب لأنّه بالتأكيد أحد مفاتيح فهم هذا النصّ. فإنّه قد يكون من المفيد الإشارة إلى أنّ عنوان المؤلف المشتمل كما أسلفنا على جزأين هما : العنوان الرئيس ” حصاد الغياب ” ، ثم العنوان الفرعي ” اليد الصغيرة.. لا تكذب “يعطيه بعدا إستعاريّا لا يخلو من قصديّة واضحة في علاقة لا بالحصاد وبالغياب فحسب، بل وبالصدق في آن معا. ومعلوم أنّ الحصاد في الأصل إنّما هو جني المحاصيل، التي هي في صورة الحال، ما جمعه الكاتب من كتابات خطّها في فترة سجنه / غيابه وأفلتت من عيون السجّانين وأعوانهم الجواسيس أو وردته في ذات الفترة. أمّا ” اليد الصغيرة.. لا تكذب” فهي اليد النحيفة التي كانت تودّعه وتشحنه بالأمل، إنّها يد الزوجة الشابّة آنذاك. فهي المخلصة والمناضلة التي قاسمت الكاتب جزءًا من معاناته بصبر وجلد، وذكرها في العنوان، قد يكون ضربا من ضروب الاعتراف لها بالجميل الذي شمله زمن الغياب. فاختيار العنوان إذن غير إعتباطي، وقد يكون من المحدّدات الدالّة على التماسك النصّي للكتاب وحسن إنتقاء الألفاظ و كذا التعابير.. فيما لو طبّقنا عليه قواعد علم المعاني، (السِّيمَنطِيقَا) /علم الدلالة. وهو أمر مفارق إذا ما علما أنّ الكاتب رجل علم ضرورة أنّه مهندس مختصّ في الكيمياء. ورغم أنّي أكاد أماهيه في المهنة، وممارستي لهواية الكتابة قديمة تجاوزت الآن أربعة عقود ونصف، إلّا أنّي أجزم في غير ما مغالاة ، ولا مجاملة أو نفاق، أنّ لغة كتابتي لا ترتقي إلى مستوى لغته، التي هي من قبيل السهل الممتنع، فهي سلسة، تنساب إنسيابا جميلا فتزلف إلى كلّ نفس توّاقة إلى الحريّة، وتلجها دونما استئذان.
يشكّل هذا الكتاب، بمعنى من المعاني، كسرا لحاجز الصمت الذي سعت السلطة السياسية التونسيّة ممثلة في أعلى هرمها، لفرضه على المناضلين الشرفاء و لتكريسه في الواقع على امتداد عقود من الزمن، إن في العهد البورقيبي أو في العهد النوفمبري لزين العابدين بن علي سيّء الذكر، غير المأسوف على عهده ولا على عهد سلفه. والكتاب يضعنا إزاء شهادة حيّة يرويها لنا عبد الحميد الجلاصي ويهديها الى القرّاء، عامّة، لاستنهاض وعيهم بحقيقة وبشاعة ممارسات حكّامهم، واطلاعهم على ما يدور داخل السجون التونسيّة الرهيبة، من أساليب تعذيب وحشيّة خسيسة تؤدّي إلى الموت البطيء ويخجل من فعلها إبليس زعيم الشياطين. كما أنّه يكشف صنوف المعاناة التي عايشها مناضلون خلّص {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ للَّهَ عَلَيْه}ِ، لعلّنا نستخلص منها دروسا وعبرا غابت عنّا، لنستحضرها اليوم وننظر إلى المستقبل بروح وثّابة ومتفائلة. وهو(أي الكتاب) مُهدًى ، الى روح والدي الكاتب والأسرة والأصدقاء والشهداء والحقوقيين والمساجين “الذين لم تتشوّه إنسانيتهم رغم كلّ شئ”. بل إنّه مهدى كذلك حتّى الى الجلادين ذاتهم” الذين أمروا بفعل السوء فامتنعوا أو فعلوا وهم كارهون وعادوا الى أهاليهم يشكون مرارة (الخبزة) ” والى الرّواد الذين سبقوه الى الكتابة في جنس أدب السجون. ولعلّ أبرزهم في تونس المناضل جيلبار نقّاش أحد أهمّ الزعماء التاريخيين لليسار وصاحب كتاب Cristal باللغة الفرنسيّة الذي خطّه على أوراق علب السجائر “الكريستال” المشهورة في عهد سجّانه الرئيس بورقيبة. وقد يكون ذلك تلويحا بأنّ النضال بدل الرضوخ لإرادة الدكتاتورية، واحد لا يتجزأ، وهو محمود في كلّ الأحوال، بصرف النظر عن منطلقاته الإيديولوجيّة.
و اللافت هنا، والذي لا بدّ من الاشارة اليه بالتنويه، هو أنّ الكاتب لم يستثن- في إهداءاته- أحدا تقريبا، سوى الجلّادين ذوي المعاملة السيئة المهينة لكرامة الانسان…الذين يستمتعون بمعاناة المساجين النفسية والجسدية وبإيلامهم وأذيّتهم وإهانتهم. لا بل، و يتلذّذون عذابهم وصراخهم ويستلذّون بإخضاعهم للتعذيب الفظيع، حتى الموت أحيانا، إرضاءً لمرض يعانونه لعلّه الساديّة ( Sadisme) ، بما هي سلوك وحشي وعدواني مهوس بالعنف والإذلال وينمّ عن إحتقار للآخرين. لا بل وينمّ بالأساس عن سوء معدن هؤلاء و سقم نفوسهم، وانحدار أخلاقهم وشلل ضمائرهم التي من المفترض أن تكون حيّة، فيما لو كان الجلّادون أسوياء ويتوفّرون على عواطف إنسانيّة سليمة .
لقد كنت أتوقّع أن يكون الكتاب مجرّد بكائيات على الماضي والحسرة عليه وعلى فترة الشباب الضائع، لكنّي وجدته خلاف ذلك. لا بل وبدا لي كاتبه “مسكونا بالمستقبل” أكثر من وقوفه على أطلال الماضي وتقوقعه فيه بما يعني التكلّس والجمود.
وجاء الكتاب مشتملا على رسائل كثيرة أبلغها الكاتب إمّا إلى أهله أو إلى رفاقه مناضلي حركة النهضة أو بلغت إليه في سجنه من قبل هؤلاء. وقد عرض فيه الكاتب عبد الحميد الجلاصي إلى مسائل عديدة بعضها جوهري وبعضها ثانوي تفصيلي رغم أهمّيته. وسأقتصر على ذكر البعض منها فقط، في هذه القراءة العجلى، دون الخوض في تفاصيلها. ولعلّ من أهمّها، في علاقة بما هو جوهري، لا فقط ما تعلّق بظروف إعتقال الكاتب وإعتقال رئيس الحركة كما إعتقال القيادات بل وكذلك ما تعلّق بسير المحاكمات السياسية طيلة سنوات الجمر، ولا سيّما سنة 1992، حيث أفضت إلى سجن، لا فقط ، قيادات وقواعد حركة النهضة، بل وكذلك سجن حتّى المتعاطفين معها. بما جعل الكاتب يحدّثنا عن التعذيب والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في فترتي الإعتقال و السجن، والإمعان والتفنّن في ممارسته، وانتهاج ما يعرف بالعقاب الجماعي والتنكيل والتشفّي من أفراد عائلة السجين وأقرب الناس إليه، وقهرهم لسنوات و إزعاجهم وتنغيص وتسميم حياتهم قدر الإمكان، عبر السجن أو المراقبة الإدارية أو التشريد أو الحرمان من الشغل ليظلّوا “بين سجين وشريد ومضطهد ومنكّل به”. وقد شمل هذا التمشّي الإجرائي الشيطاني كلّ من زوجة الكاتب ووالديه وإخوته (ذكورا وإناثا، شبابا وأطفالا) وأٌهالي آخرين، ذاقوا العذاب صنوفا وألوانا، لا لشيء سوى لصلة قرابتهم بالكاتب. وهي مقاربة أمنيّة كلاسيكيّة تنتهجها كلّ الدكتاتوريات العربيّة دون استثناء. حيث أنّ المتأمّل في أوضاع عالمنا العربي ليرى – دون عناء- أنّ المشترك الوحيد الذي يجمع اليوم الشعوب العربية المنكوبة بحكّامها، يمكن إختزاله في زعزعة أمنها واضطهادها ووجعها الدائم داخل السجون كما خارجها. ولعلّ ذلك ما يفسّر سعي السلطة الحثيث داخل السجون لا للفصل بين السجناء وأهاليهم فحسب بل وكذلك للفصل بين مساجين الحقّ العام وما يسمّى في تونس بمساجين الصبغة الخاصّة (في علاقة بالنشاط السياسي) ومنع التضامن والتكافل بين النوعين . وهو أمر طبيعي- ياللأسف- وغير مستغرب لا في في تونس فحسب، بل وفي كامل الوطن العربي ، إذا ما علمنا أنّ الجهاز الفاعل الوحيد التابع إلى الجامعة العربيّة، والذي يجتمع بصفة دورية لمزيد إحكام القبضة الأمنية على المواطن العربي -حرّا أو سجينا- إنّما هو مجلس وزراء الداخلية العرب الذي ينضوي تحته- يا للغرابة- قسم المكتب العربي للأمن الفكري الذي لا يعدو أن يكون إلّا جهازا للتضييق على حرية الفكر، لا بل وربما على حريّة الضمير أيضا مثله مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي رغم نبل مقاصد بعثها إلى الوجود، إلّا انّها أنحرفت عن أهدافها وسجّلت تجاوزات خطيرة في حقّ المواطن، أينما وجدت، فغدا نشاطها لا يعدو أن يكون نشاطا بوليسيّا ممقوتا و إبليسياً قذراً ليس إلّا.
وأمّا فيما تعلّق بالمسائل الفرعيّة التي استوقفتني، فإنّي أسجّل بإكبار الموقف الجماعي للمساجين الرّافض للمحاضرات الممجوجة و المشبوهة التي تلقى عليهم من حين إلى آخر والتي يقدّمها مثقّفو السلطة ( اشباه المثقّفين من أدعياء الثقافة) في غياب أي تفاعل معهم مهما كان ضئيلا. وهو أمر غير مستغرب من مناضلين تتناول مسامراتهم داخل السجن، لا فقط القضايا السياسيّة المتداولة آنذاك، بل وكذلك بعض القضايا الفكريّة المهمّة التي تقوّي درجة الوعي لديهم.
ولا يفوتني التذكير -قبل أن أختم- بموقف العائلة الطبيعي والواقعي الذي يجعل الحكم على الكاتب بالسجن مدى الحياة، بما هو إفلات من حكم الإعدام وحبل المشنقة، حدثا سعيدا يغمر الأهل بالفرحة العارمة فيتبادلون التهاني بالمناسبة ويوزّعون المشروبات؟! ولكن أليس هذا الفعل في نهاية الأمر، هو ضرب من ضروب السيرياليّة ( الفواقعيّة) ؟!.
أكتفي بهذا، وأنصح، من يريد أن يستزيد ويفيض في التفاصيل، بالاطلاع على الكتاب وإجالة النظر فيه، فهو على درجة كبيرة من الإفادة والإستفادة، بل ويمكن إعتباره من كتب الإمتاع و المؤانسة كما أرادها أبو حيّان التوحيدي الذي ناله ما ناله هو الآخر من ظلم السلطة بما جعله يحرق كتبه رغم قيمتها الأدبيّة العالية. وهذا أيضا شكل من أشكال المقاومة والإحتجاج السريالي على السلطة وظلمها . أليس كذلك؟!