18 ديسمبر، 2024 9:40 م

خواطر مع سردية شعرية لوئام ملا سلمان

خواطر مع سردية شعرية لوئام ملا سلمان

أمرٌ مبهج أن تحل الشاعرة وئام ملا سلمان في مدونتي! ويكون الأمر أبهج حين ترمي عليّ من دواخلها مكنونات من زمن بيد مضى، فهي ولاشك عندئذ بصدد استعادة لحظة وكأني بها تمسك قطار الزمن بحبل متين وتجره جرّا بقوة خارقة فهي ساحرة وإن من الشعر لسحر!
هي سردية إذن من الشعر تقارب النثر لجزالتها وبساطتها ولجمالها المفعم بأحاسيس إنسانية، وذا شأن السرد في الشعر على الأعم.. وأذكّر أن الشعر الملحمي الذي قوامه السرد رغم بيانه يقترب من النثر في أحايين كثيرة، تشفع له مخيلة تعتمد الخوارق..وفي أدبنا الحكائي السردي وهو نزر شحيح بالقياس الى الشعر، ومثاله “ألف ليلة وليلة” المشفوع والمرفوع بعمل المخيال الجمعي، نجده يهبط إلى اللغة المحكية في كثير من الأحيان ليحلّق طائره عالياً عالياً في أحايين أُخَرْ.!..
هذه مقدمة لسردية وئام الشعرية المطبوعة بسليقة المكان، ويبدو هذا التعبير غريباً ستزول غرابته بسليقة أخرى هي سليقة الذات البوّاحة والنفس اللوّامة التي يستفزها المكان وشيئيات المكان الجامدة والمتحركة على حد سواء في تفاعل مستمر مع النفس والخاطر الشعري!
في بيت يطل على شارع مُشجّر تعبره ببصرك من الشباك لتحطّ في غُويْبة خضراء صيفاً بيضاء “ثلجاء” شتاء.. وفي ركنه المستدير شرفة محفوفة بالزهور التي تعانقت بمختلف أطيافها وأثنياتها وألوانها وأحياناً روائحها، تحطّ الطيور على أشكالها ولغاتها المختلفة فتسمع وترى وتطرَب.. في الشتاء القاسي تزور هذه الطيور بل تلوذ لأن الشرفة غدت خالية من الزهور وأصبحت أوعيتها ومناقِلَ الشي شبه عامرة بما طاب من طعام قوامه الأرز الأصفر ولوز وجوز وكشمش يضاف له مرق من “السبزي” أو “القيمة” والطيور في مهرجان، والسطوة والأنانية تأتي من النوارس.. ووئام ترقب سعيدة لا يعكر مزاجها إلا أن تُسيء الطيور بذُرقها وصخبها للجيران..
تنساب الحافلات جيئة وذهابا جميلة نظيفة خرساء.. لاتترك دخاناً سوى رائحة كحول طيبة تنعش وتشوّق!!
في الصيف وفي ليالي السبت تسمع أصواتاً لشبيبة حظهم من الحب والصخب والضحك وفير .. مرة سمعت صوت كهل يغني: هذا الربيع وقد لاحت بشائرُه ” ده ئه فورن..” أزحت الستار فكان رجلاً وأمرأة تمسكه وتقول له: أرجوك أرجوك أخفض الصوت يا أيريك فالناس نيام! وأيريك في نشوة غناء سويدية ما بعدها نشوة!
***
أحسب أنني قدّمت أو كتبت مُدخلا يتيح الدخول أو اكتشاف أجواء السردية الشعرية لشاعرتنا بل “يميط” لثاماً وربما لحافاً عن كثير من عالمها الشعري والنثري الذي يشكل المكان فيه حيّزاً يكشف ويحتضن دواخل الشاعرة وهمومها الكثيرة ولحظات فرح قليلة من زمان مضى بعيداً وأصبح رماده ذكريات تذروها الرياح:

 

أمطتُ الستارة خلف ظهري

الشارع أمامي ممتدً

من غرفة نومي أراه

يوم يحمل الجمال على منكبيه

بمحاذاة الرصيف تفتحت براعم توليب ملونة

الحافلة تمر بوقتها المحدد كعادتها

تحت مظلة الإنتظار، مشهد قداسوي

مراهقان ينصهران في بوتقة قبلة

حفزا لدي فضول المتابعة

آه عميقة…

بعمرِ عمر لم يـُستثمر

 

انسَ خساراتك أيها العمر

ففي الحياة مشاريع جمال تنتظر

 

لست يا وئام مع ما يشيع هذه الأيام من تخريجات لها دلالتها في لغتها الأصلية وليس في لغتنا من قبيل “ماضوي” و “إسلاموي” و ” عراقوني” وها أنت تأتين ب ” قدسوي” فإذا كان النسب للقدس أو المقدس أو القداس يمكن أن يصبح: قدسي،، مقدسي، قداسي، ولماذ لا يكون ” مقدس” .. على اية حال للشاعر مقاصد أحياناً تكمن في قعر الذات..
ما أجمل المقطع أعلاه! وما أجمل المدد الجمالي المنساب بلا انقطاع:
ففي الحياة مشاريع جمال تنتظر
التوليب في العربية هي أزهار وإن شئت أبصال الخزامى، يُنبتها الناس في الربيع أمام المنازل وفي الشرفات، تاتي الأرانب البرية والغزلان المغرمة بها ليلا لتأكلها ثم تعاود النمو! هولندا أكبر مصّدِر للتوليب في العالم.
البحث عن الجمال في حياتنا يضيع برتابة وقع الحياة .. يمكن أحياناً النظر لمكامن جمال في حياتنا اليومية في تغريدة طائر يبحث عن رفيق موعود.. في زهرات تتمايل سكارى مع النسيم: ما أروع الشاعر الرومانسي صاحب “بغداد ياقلعة الأسود” محمود حسن إسماعيل وهو يرى بنات الريف يعدن من النهر الخالد وقد ملأن جرارا:
يُسبّح الطيرُ أم يغني – ويشرح الحبَّ للخميلِ
أأغضن تلك أم صبايا – شرِبن من خمرة الأصيل!
ألم أقل لكم أن عين الشاعر غير عين الصقر، فللصقر قوة نظره تعادل مرات قوة نظر الإنسان لكنها لا تبصر إلا الطريدة!!!
العصافير تبني أعشاشها بتناسق عفوي

سأشرب الشاي والباب على مصراعه مفتوح

الخبز الأسمر ملفت للذائقة

ولقدحي النيلي رونق وهيبة “المارينز”

الباب لا يكفي

في الحياة نوافذ كثيرة للفرح

سأفتحها كلها في آن واحد

المكان يحتاج إلى تهوية
إذن الشاعرة وئام ملا سلمان مُحقّة في أن هناك توارد خواطر، وأنا لم أقرأ سردية وئام حين كتبت بطاقتي الحمراء وعباراتها الثلاث.. هو بالمفهوم الحديث “التناص”، وكلما قطع الشعر مسيرة أكبر قد يسمح بتناص أكبر .. فكلما مرّ قطيع كبير من الغنم على قنطرة زاد احتمال وقوع حافر على حافر؛ إنها جدلية رياضية التفت إليها الجاحظ حين قال ليست العبرة في الإفكار فهي مبذولة على قارعة الطريق إنما في إنشاء الشعر، ويقصد إدخال الفكرة ضمن سياق النص الشعري. وقد تكرر المعنى على لسان أكثر من شاعر ومنهم المتنبي:

خذ مفتاحك
لو أغلقت من الخارج نافذة واحدة بيدك مقبضها

لن أختنق ،

النوافذ يمررن الضوء والهواء

نوافذ يجئن بفراشة عائمة في موج ريح

نوافذ يأخذن سر أمنية ولغز صمت

نافذة عند حافة السقف ، تسرب سموم الرئتين

نافذة كبيرة يخبرك العابرون بقربها عن ديمومتي

ونافذة ينتظرني عصفور جائع من ورائها

أحاكيه بعيداً عن الفزع

لا تخف

سأطعمك يا صديقي

ونتماهى بسقسقات التأمل معاً.
النافذة قرين للحرية.. بل هي الحرية. أقرأ في أدب السجون وآخر ما قرأت للمعماري الكبير رفعت الجادرجي وتجربته في سجن المخابرات.. يقول أنه كان يتمنى أن تكون هناك نافذة يدخل منها النور والهواء.. فالنافذة هي الحرية وإن ضاق المكان وأُوصِد الباب! المقطع الأخير هو الذروة في هذه السردية .. اغلقوا الباب وخذو المفتاح واتركوا لي هواء ونوراً وفراشات تحوم على النافذة وكأني بها قد سئمت النور الوهّاج والهواء البارد إنها تريد الدفء فهل هناك مفارقة؟!
وئام ملا سلمان شاعرة ثرّة في خاطرها الشعري، واضحة في لغتها الأليفة التي تتجاوز المفردات المعجمية ، هي متألقة ومتمكنة من العمودي، وفي التفعيلة متانة وحسن سبك وقوة نبرة، وفي نثرياتها انسياب في الأفكار وانثيال في الصور مع تنغيم موسيقي عفوي وحس إنساني صادق…
19 آب اغسطس 2017