تحرص ادارة اقليم كردستان على تحقيق اكبر المكاسب الممكنة حتى لو كانت على حساب المحافظات الاخرى او حتى على حساب الوطن. وقد حقق الاقليم النجاح تلو النجاح في هذا المجال من خلال استغلال تداعيات الخصام الشيعي-السني المتعاظم، فالكرد يعون جيدا مدى اهمية مقاعدهم السبعة وخمسين في مجلس النواب لضمان استمرارية بقاء الحكومة المركزية، ومع ان التحالف الوطني يملك ما يكفي من المقاعد النيابية اللازمة لضمان بقاء الحكومة، الا ان الخلافات الشيعية-الشيعية تجعل وحدة هذه الكتلة الضخمة في مهب الريح، خاصة في الاوقات العصيبة.
وكان اختيار ادارة الاقليم لشركة اكسون موبيل الامريكية للتنقيب على النفط في اراضٍ عائدة لمحافظة نينوى، كان ضربة معلم، فالحكومة المركزية لن تعكر مزاج الولايات المتحدة وهي بصدد اتمام المراحل النهائية للانسحاب من العراق، ولا يخفى على احد الترابط الستراتيجي بين السلطة ومراكز القرار من جهة وشركات النفط الكبرى من جهة اخرى في الولايات المتحدة.
أَمام ضربة المعلم الكردية هذه، نشْهَدُ انكفاءا وصمتا موصليا ليسا معهودين، فقد اعترض بعض النواب والمسؤولين الموصليين باعلان اعتراضهم واحتجاجهم على التصرف الكردي المنفرد، من باب اخلاء الذمة ليس الا. وانتهى كل شيء واستمر الحال على ما هو عليه.
ان الردود الموصلية الهزيلة تبعث على الحيرة والاستغراب، فهذا امر لم نعهده لا عند محافظ نينوى ولا رئيس مجلس النواب العراقي اللذان كانا بمنتهى الكرم والافاضة حين اعلن مجلس محافظة صلاح الدين عن نيته تشكيل اقليم خاص به منذ بضعة اسابيع، ولم يمر يوم دون ان نسمع لأحدهما تعليقا او نشاطا مساندا لخيارات محافظة صلاح الدين. ولكن تعاقد اقليم كردستان على حفر ابار نفط داخل حدود نينوى من دون الرجوع لحكومتها المحلية لم يحفز هذين السيدين على الرد بالقوة والوضوح اللازمين على ذلك رغم انه يقع في صلب اختصاصهما، وربما هما بصدد بلورة “موقف مشترك” ليعلنا ردود افعالهما على الملأ، او انهما يريدان استثمار “نصف” الصمت الحكومي على تجاوزات كردستان على حدود نينوى بتأكيد جدوى تأسيس الاقليم السني الذي سيجد له اكثر من حارس وراع في المنطقة التي تعيد رسم خارطتها الجيوبولوتيكية اعتمادا على العامل الطائفي حصراً.
حين أعلن مجلس محافظة صلاح الدين رغبته بتأسيس اقليم خاص بالمحافظة، تولى رئيس الوزراء نوري المالكي بنفسه حملة مضادة واعتبر مشروع الاقليم خطرا كبيرا يهدد الوحدة الوطنية وتعهد باسقاطه والوقوف بوجهه علنا رغم ان مطلب صلاح الدين لا تشوبه مخالفة دستورية او قانونية. ولكن حين ابرم اقليم كردستان عقدا مع شركة نفط اجنبية للتنقيب عن النفط في اراضي الاقليم ونينوى دون الرجوع للحكومة المركزية في تجاوز واضح على المادتين 111و 112 من الدستور اللتان تؤكدان على ان “النفط والغاز هو [= هما] ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم”، وعلى ان “تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً احدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار”، فإنَ رئيس الوزراء لم يرى في ذلك خطرا على الوحدة الوطنية والاستقرار الاقتصاد الوطني الذي يعتمد بشكل شبه كلي على النفط.
ان هكذا مواقف متباينة ازاء قضايا وطنية كبرى تشي عن ازدواج في معايير الحكومة المركزية، الى الحد الذي قد يعزز وجهة النظر التي ترى ان الحكومة تحابي الاقليم [= الاكراد] بالضد من نينوى [= السنيين]. ان محاباة الحكومة المركزية لادارة كردستان، قناعة باتت تترسخ يوما بعد يوم لدى الشيعة ايضا، فالمحافظات الشيعية لم تعد تقبل التغاضي عن حصول اقليم كردستان على حصة الاسد من الواردات السنوية بحجة تعويضه عن مظلوميته في العهد السابق، وكأنّ مظلومية الجنوب العراقي كانت اقل عن تلك التي في شماله. وبات الجنوبيون يتساءلون بصوت عال متى تلتفت الحكومة لمظلوميتهم.
وعلى عكس كل الازمات الداخلية، فإنّ “تحالف العراقية” ترك حل ازمة خوازيق كردستان على عاتق الحكومة المنشغلة بالانسحاب الاميركي. الا ان رئيس الوزراء أوضح ان “العقد فيه مخالفة قانونية وبالتالي هو غير ساري المفعول حتى تعود الشركة الى المفاوضات مع وزارة النفط مع حضور ممثل اقليم كردستان، عندها سيكون من الممكن معالجة المشكلة”، واضاف ان “الشركة على ما اعتقد هي التي جمدت مشروعها في كردستان، ونحن نحاول ان نجد حلا للمشكلة”. ثم افاد المالكي بأنه تم عقد اجتماع مع ممثلي الشركة في واشنطن وأنهم وعدوا بأن يراجعوا قرارهم. علما انّ الشركة تنتج 370 الف برميل يوميا في حقل غرب القرنة، في الجنوب، الذي تبلغ احتياطياته 8,7 مليار برميل بموجب عقد خدمة وليس عقد شراكة كما يفعل الاقليم في تعاقداته. اي ان الحكومة قادرة [الى حد ما] على التأثير على قرار اكسون موبيل، ولكنها عاجزة عن التأثير على ادارة الاقليم الذي يحرص كل الحرص على اظهار اقصى درجات عدم الاكتراث بالحكومة المركزية.
منذ ان تولى نائب رئيس الوزراء السيد حسين الشهرستاني ملف النفط منذ خمس سنوات، وهو يواجه بمفرده الخطوات الانفرادية التي يتخذها الاكراد في القطاع النفطي. وهم يردون عليه بأقسى الردود ويهملون كل مطالباته. واذا اشتدت عليهم الامور، يشنّون حملة اعلامية يهددون فيها الحكومة بالويل والثبور، ثم يبعثون وفدا الى بغداد ليعود منها حاصلا على موافقة الحكومة المركزية على كل ما يريدون. الا ان كل ذلك لم ولن يفك في عضد السيد الشهرستاني الذي لم يَحـِدْ يوما ولم يـُحابي على مصلحة الوطن العليا رغم التسويات التي تجري في الكواليس. وقد انضم اليه اخيرا وزير النفط العراقي السيد عبد الكريم لعيبي الذي دعا الكرد الى ان “يحددوا ما اذا كانوا يريدون ان يبقوا جزءا من العراق او ان يتحولوا الى دولة مستقلة”، على خلفية عقود النفط الموقعة من قبل الحكومة المحلية في اقليم كردستان. وأضاف أن “الموضوع مرتبط بالنهاية بقرار الاقليم الاستراتيجي ان يبقى جزءاً من العراق او قراره ان يكون دولة مستقلة وهذا حق لهم اذا كان هذا خيارهم، ولكن ليكونوا واضحين هل هم بصدد اقامة دولة الآن؟”. ( جريدة المشرق 11-12-2011).
ان الصمت المريب على التمادي الكردي، يوحي بشبه اجماع سياسي واعلامي على تجنب اغضاب البعبع الكردي. وأود ان أُذكـِّرَ الصامتين بأن النفط اذا ما سرى في عروق الشركات الامريكية، فلا قِبَـلَ لأحد في منع سريانه في قادم الايام. ولكن الامل ما زال يحدوني بأن يسري نفطنا بشروط عراقية طالما لدينا مسؤولين ذوي عزم وبأس كحسين الشهرستاني وعبد الكريم لعيبي اللذين أدعو لهما بالتوفيق.