23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

خمس ساعات من البكاء

خمس ساعات من البكاء

لاعلاقة لها بالدين، المقبرة ليست علمانية، لاتعترف بالإسلام، لابالمسيحية، ولا باليهودية، هي ليست بوذية، ولاعلاقة لها بالديانات الوضعية المعروفة في الأرض، لاتجالس الملحدين في المقاهي الرائجة في بغداد، أو القاهرة، ولاتساكن أفكار العلمانيين المرهقين من كم الفشل اليومي والإحباط من الحياة، ليست المقبرة منتمية لحزب بعينه، ولاتؤمن بالخرافات والتقاليد ولاترضخ لمفاهيم العشائرية البائدة والفاسدة، وليست مرتبطة بآيدولوجية سياسية، ولاعلاقة لها بدول الجوار فقط هي يمكن أن تستقبل جثامين الموتى من تلك الدول التي يموت فيها الناس كما يموتون في كل الدنيا، لم تستلم لرغبات حاكم جائر ولم تعتقد باحقية أحد بالبقاء وتعتقد إن الجميع يمكن أن يستريحوا فيها تحت ثراها ويناموا النومة الأبدية التي لايعرف إن كانت ستنتهي الى موعد يقرره الله، أم ستدوم بإرادة منه.

المقبرة، العالم الخيالي والواقعي في ذات الوقت، فهناك أجساد توارى في ثراها، ولايعرف ماالذي يجري حقيقة فيما بعد، هل ستعاقب الأرواح التي تفارق الأجساد، أم ستذوب وتنتهي الى العدم، حيث الديدان تأكل كل شئ ولاتبقي من الجسد سوى عظام بالية يمكن العثور عليها بعد مرور سنوات متفرقة متناثرة كأنها في خصومة ولاتريد أن تجتمع، هناك لايكون للدين ولاللتعصب مكان أما المتعصبون والدينيون والملحدون والكافرون والكاذبون والصادقون والطالحون والصالحون والكبار والصغار والذكور والإناث وأهل الغنى الفاحش وأبناء الفقر الأفحش فهم مجتمعون لايعرفون بعضهم البعض فالحفر متقاربة لكن التراب يغطي كل شئ وبعض الإسمنت والطابوق فوق كل قبر لايسمح بالتواصل، ولامكان للتقنيات الحديثة التي تتعطل وتتجمد وتنتهي، وربما كانت تقنيات الله أقوى وتوصلهم ببعض.

تتعلم من المقبرة إنك إنسان، وليس أكثر من ذلك، وعليك أن تستلم لقدرك ولاتكابر فلن تبلغ الجبال طولا، ولن تخرق الأرض مهما تمكنت، ومهما أبدعت وصنعت وطغيت وتجبرت وتفرعنت وتملكت من مال وضياع وسرت في الأرض فنهايتك هذه وليست من نهاية سواها في قبر مظلم موحش لاتعرف مصيرك فيه، وليس لك من خيار سوى أن تنتظر وأن تعيش على أمل أن تصيبك رحمة الرب هذا إذا كنت مؤمنا، أما إذا كنت على غير الإيمان فماعليك إلا أن تعتمد على قواك الخائرة المتلاشية لتتحدى الحقيقة ولتكتشف كم إنك تافه ولاقيمة لك في الحقيقة فالمرض والإعياء ينهشان روحك وجسدك والشيب يصبغ شعرك، بينما يترهل جسدك ويتعب رويدا ويضعف ويبحث عن الشفاء الذي يؤجل الموت لكنه لايلغيه.

مررت بالمقبرة ورأيت صور الموتي والشواهد التي تحتفظ بإسمائهم وتاريخ موتهم،بقيت لخمس ساعات أحاول تمالك نفسي عن البكاء ولم أفلح.

إنك ميت، وإنهم ميتون.