أشرنا في نهاية الحلقة الاولى من هذه المقالة الى بعض المسائل المهمة , التي جاءت في تلك (الدردشة السريعة!) مع خليل عبد العزيز, منها ما قاله طارق عزيز لخليل بشكل مباشر وصريح , في انه ( عميل سوفيتي) , فكرر خليل في جوابه انه موظف في معهد الاستشراق السوفيتي التابع لاكاديمية العلوم السوفيتية, وانه وصل الى العراق بدعوة رسمية من الرئيس العراقي البكر , وطرح على طارق عزيز السؤال الآتي – هل ان هذا يعني , ان الرئيس البكر قدم دعوة رسمية و استقبل ( عميلا) ؟ , ثم أضاف قائلا له – انه سيخبر الرئيس البكر غدا في اللقاء معه بما قاله له الان. سألته انا – وماذا قال لك طارق عزيز بعد ذلك ؟ أجاب خليل – صمت عزيز , ثم انتقل الى الحديث عن مهرجان الفارابي . وقد قال خليل للبكر ذلك فعلا , فاخبره الرئيس ( في محاولة للتخفيف من وقع كلام طارق عزيز على ما يبدو ) ان صدام كان يسمي طارق عزيز في البداية – ( ابو ريشة) , وتعني هذه التسمية انه من جماعة جيش الليفي التابع للانكليز, والذي اسسه الانكليز بعد احتلالهم العراق ( و كان افراده يضعون على قبعتهم ريشة) . ثم اردف البكر – ان علاقتهما ( اي بين صدام وطارق ) كانت متوترة , ولكنها تغيرت فيما بعد , ولا يدري البكر سبب ذلك التغيّر, ولكن البكر مع ذلك( تهرب!!) من الاجابة المباشرة حول ما قاله طارق عزيز لخليل . وتذكرت ما حكى مرّة لي أحد ابناء كبار البعثيين حول طارق عزيز , اذ انه ذكر لي ان ضيوفهم كانوا يلوذون بالصمت عندما يحضر عزيز الى مجلسهم , لانهم كانوا لا يثقون به , ويظنون انه سينقل كلامهم الى (جهات اجنبية !). وقد روى لي خليل قصة لا يعرف هو نفسه مدى صحتها تقول , ان الامريكان استدعوا طارق عزيز عندما اعتقلوا صدام كي يتأكدوا من شخصيته , فلما شاهده صدام صرخ في وجهه – اخرج من هنا ايها العميل . ان هذا الموضوع شائك جدا , وسيجيب التاريخ عن كل هذه التساؤلات في المستقبل بلا شك, ولكن لنتذكر كيف تصرّف وطبان ( الاخ غير الشقيق لصدام ووزير الداخلية لفترة طويلة ) مع طارق عزيز بشكل وقح وغير مؤدب تماما في المحاكمات العلنية , والتي شاهدناها على شاشات التلفزيون, هذه التصرفات التي تعكس حتما الرأي الذي كان سائدا في عائلة صدام حول طارق عزيز , ولنتذكر ايضا ما قاله عزيز نفسه في اللقاء مع علي الدباغ حول هؤلاء الذين كانوا يحيطون بصدام , بما فيهم وطبان طبعا, حيث أسماهم (بما معناه) بالاميين.
النقطة الاخرى , التي جاءت في نهاية مقالتي تلك , والتي أثارت ردود فعل حيوية لدى القراء , هي ما ذكره د.خليل بشأن رواية د. سعد العبيدي حول رسالة بريجنيف الى مرتضى سعيد الحديثي في مدريد عندما استدعاه صدام . لقد قال خليل ان ذلك يتعارض ويتناقض مع المنطق العام كليا , ومع المفهوم السوفيتي للامور ايضا , اذ كيف يمكن لبريجنيف ( وهو في منصبه ذاك !) ان يرسل برقية الى السفير الحديثي في مدريد بهذا المضمون ؟؟؟ الا ان د. خليل قال , ان غفوروف ( رئيس معهد الاستشراق ) كان مندهشا من موقف السفير العراقي مرتضى الحديثي مقارنة بموقف السفير السابق صالح مهدي عماش , اذ كان عماش يهاجم صدام علانية عند زياراته للمعهد, اما الحديثي فقد كان يدافع عنه , حتى عندما قال له غفوروف مرة , انه كان وزيرا للخارجية , وان تعينه سفيرا في موسكو يعني ما يعنيه . وتحدّث د. خليل عن تطور علاقته بالحديثي لدرجة انه دعاه مرة الى السفارة حيث كان يقيم في الطابق الثاني لتناول العشاء , ومدح تصرفاته واخلاقه , وقال انه كان السفير العراقي الوحيد الذي كان يعرف الاصول الدبلوماسية ودقائقها ويعرف ايضا كيف يتناقش مع الآخرين رغم الخلافات بينهم . واستمر الحديثي في كل زياراته للمعهد على موقفه الثابت من حكومته ( انظر مقالتنا عنه في سلسلة – عراقيون مروّا بموسكو – رقم 18 ) , وقد استفسر غفوروف من عامر عبد الله مرة عنه , فقال عامر ان صدام يكرهه , وان مرتضى ايضا لا يوده , ولكن مرتضى لا يريد ان يعلن ذلك امامهم , وقال عامر عبد الله ان صدام سسيصّفيه ويتخلص منه في المستقبل , اذ انه من جماعة عبد الخالق السامرائي , وقد تذّكر غفوروف كلام عامر عبد الله عندما تم ذلك فعلا . وتحدّث د. خليل عن رأي سوفيتي كان يدور في اوساط المعهد بشأن مرتضى , وهو , انه في حالة استقالته من منصبه , فانهم سوف يبقوه في الاتحاد السوفيتي ضيفا معززا مكرما, ومن المحتمل جدا , ان مرتضى عرف – بشكل او بآخر – بهذا الرأي , وان ذلك هو اساس تلك الحكاية التي جاءت في رواية العبيدي , وكذلك اساس ذلك الرأي الموجود في اوساط عائلته لحد الان .
النقطة الثالثة هنا ستكون حول لقاء د. خليل مع زيوغانوف – رئيس الحزب الشيوعي الروسي , والتي تمت بناء على رجاء من أحد قادة الحزب الشيوعي العراقي , اذ لاحظ العراقيون ان الحزب الشيوعي الروسي يتجاهلهم ولا يدعوهم الى مؤتمراته واجتماعاته ولا يذكرهم حتى في بياناته . لقد نفّذ د. خليل طلب ذلك القيادي العراقي , واستطاع ان يصل الى زيوغانوف , وعندما كان بانتظار خروجه من اجتماع في مجلس الدوما , شاهده زيوغانوف وتذكره , اذ انه كان يراجع مكتب العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي السوفيتي , عندما كان زيوغانوف يعمل آنذاك في هذا المكتب , فقال له من بعيد جملته تلك , وهي – ( لقد كنت شيوعيا يا يوسف في موسكو , فلماذا اصبحت عميلا للامريكان الان ؟ ) . تعجب خليل من هذا( الاستقبال!) , وطلب التحدّث معه , وقد تبين اثناء التباحث على مائدة الطعام , ان زيوغانوف يرى , ان مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في مجلس الحكم يعني تعاون الحزب مع المحتل الامريكي , وقد حاول د. خليل ان يقنعهم بضرورة الاستماع الى وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي حول ذلك , وان ذلك يقتضي الاجتماع بين الطرفين قبل كل شئ , وانه ( اي خليل ) يقوم بمهمة ايصال هذا الامر اليهم ليس الا , وقد جرى ذلك فيما بعد . وأضاف د. خليل , ان هذا الموضوع طويل وعريض وشائك ومعقد , اذ انه يرتبط بمفاهيم مرتبكة وغير واضحة في الماضي والحاضر لدى الطرفين العراقي والروس معا.