اقتلوهم مزقوا الخونة، اسحقوهم، إنهم متآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا، هذه الثورة التي حطمت الاستعمار، وانطلقت في طريق الحرية والنصر، وإنما النصر من عند الله، والله معنا، كونوا أشداء، اسحقوا الخونة والغادرين
هذا اخر ما قاله الزعيم عبد الكريم قاسم في خطابه المرتجل بينما كانت الطائرات تقصف مقره في وزارة الدفاع في يوم 8 شباط عام 1963 فقبل خمسون عام تمت الاطاحة بحكم رئيس الوزراء ومؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم من قبل الجيش المتحالف مع التيار القومي العربي بشقيه الناصري والبعثي ودعوني في البداية اؤكد باني كنت ولازلت مؤمن بان النظام الملكي في العراق كان بحاجة للاصلاح لا للاسقاط وان العراق دخل في نفق مظلم ابتداءا من يوم 14 تموز عام 1958م
ورغم ذلك فاني اقر ايضا باني اكن احتراما شديدا لشخصية الزعيم قاسم الذي كان انزه واشرف حاكم جمهوري للعراق من عام 1958 وليومنا هذا وفي محاولة للخروج عن المالوف المتبع عند الحديث عن قاسم وفترة حكمه (4 سنوات و6 اشهر و15 يوم ) وهو الانقسام الشديد مابين مؤيد له يرى فيه نصيرا للفقراء ومؤسس الجمهورية وبين معارض له واصفا له بالديكتاتورية والانفراد بالحكم وعزل العراق عن محيطه العربي اعتقد بان تاريخنا يستحق ان يدرس بشي من الواقعية والمنطقية بعيدا عن التعصب والهوى ولغة المصالح والايدولوجيات المتصارعة على الحكم في العراق بعد سقوط النظام الملكي.
لقد كثرت الانتقادات الموجهة الى حكم الزعيم ومن مختلف الاتجاهات فبينما كان القوميون العرب والبعثيون ياخذون عليه معاداته للوحدة العربية وميوله العراقية الواضحة واجهته الاحزاب الاسلامية والمراجع الدينية السنية والشيعية لمابدا بانه تجاوزا لشرع الله وعداء واضح للدين وافساحه المجال للحزب الشيوعي بينما واجهه المتمردون الاكراد لوقوفه في وجه الاحلام الانفصالية للملا مصطفى البارزاني وهنا يبدوا ملفتا للنظر تجمع كل هذه الاطراف التي لايجمعها شي الا عداء لقاسم فماالذي جمع القومي العربي بالقومي الكردي والاسلامي الشيعي بالاسلامي السني والاسلامي بالقومي وهذا مايمكن تسميته بوحدة الاضداد وبقراءة متانية لكل هذه الحجج والمبررات والتي مهدت جميعها لانقلاب 8 شباط نستطيع قول مايلي
فقاسم كان مما لاشك فيه متمسكا بالحكم ومنفردا به على طريقة الستالينية فقد عطل عمل مجلس النواب والسيادة وكان مواضبا على ان لايشغل احد منصب رئيس الجمهورية شانه في ذلك شان جميع حكام العراق بعد عام 1958 فوصول العسكر الى الحكم قد قضى تماما على مبدا التداول السلمي للسلطة وظن الحاكم بان البلاد والعباد هما ملك صرف له ولعشيرته وحزبه رغم ان عبد الكريم قاسم كان استثناءا من هذه القاعدة فالرجل لم يكن حزبيا ودخل في صراع سياسي مع كل احزاب جبهة الاتحاد الوطني ( البعث – الاستقلال – الشيوعي – الوطني الديمقراطي ) وهو الحاكم الجمهوري الوحيد في العراق الذي لم يعمل بمبدا الاقربون اولى بالمعروف وهو المبدا الذي ظهر بعد القضاء على قاسم وتسبب بظهور عوائل ملكية حاكمة مرة اخرى وقرى هيمن ابناءها على المشهد السياسي العراقي لعقود وبالنسبة للوحدة العربية فقد كان الزعيم يردد دائما مقولته الشهيرة الوحدة الوطنية قبل الوحدة العربية فلايمكنك الاقدام على خوض تجربة وحدة مع دولة عربية اخرى ومجتمعك نفسه غير موحد وهو ماكان يعاني منه المجتمع العراقي ذو الطبيعة الخاصة والذي كان يواجه تمردا كرديا وازمة في الشمال كانت الوحدة مع مصر وسوريا ستفاقمها وتزيد الطين بله وبدراسة واقع العالم العربي في تلك الفترة نجد بان العالم العربي كان مقسوما بين اتجاهين اولهما هو الاتجاه الرجعي الملكي التقليدي الموالي للاستعمار والتي كانت المملكة العربية السعودية تمثل راس الحربة فيه وثانيها هو القوى الثورية والجمهوريات القومية الناشئة وكانت مصر عبد الناصر في قلبها وريادتها وبماان الاتجاه الاول مدان وغير مرغوب به بالعراق على اختلاف انظمة الحكم فلنا وقفة مع مصر الناصرية والتي تمكنت من نشر الفكر القومي من المحيط الى الخليج والمناداة بالوحدة العربية ومناهضة الاستعمار والصهيونية هذه الافكار وغيرها راقت رواجا بين الشعوب العربية التى رات فيها صحوة عربية من سبات استمر قرون ترك العرب فيه القيادة للترك والفرس بحيث بات العروبي والعربي هي الموالاة لعبد الناصر اما مجرد الحديث بما لايرضى حاكم القاهرة فمعناه التامر والخيانة والعمالة ومن هنا للاسف ترجمت هذه الشعارات الرائعة بالوحدة العربية بين مصر وسوريا واعلان تاسيس الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 ( وكان المفروض انضمام العراق لهذا الاتحاد ) التي سرعان مااتضح بانها انقلبت لاحتلال مصري لسوريا بحيث بات سوريون عبيد داخل ارضهم للمشير عامر الحاكم المصري لسوريا وهو ماادى الى حركة عام 61 والتى قادها العميد عبد الكريم النحلاوي وافضت الى انتهاء هذا الاتحاد وانهاء الوجود المصري في سوريا ومن هنا كانت فطنة قاسم وحنكته الذي ادرك بان الوحدة مع مصر وسوريا معناه انهيار جهوده لعقد السلام الدائم مع الاكراد ودفعهم الى حضن الوطن العراقي داخليا وتحويل العراق الى ولاية مصرية خارجيا كما ان ثورة 14 تموز لم تنص في اهدافها التي ذكرها السيد محسن حسين الحبيب احد الضباط الاحرار وابرز معارضي قاسم في مذكراته (وهو المصدر الوحيد الذي دون اهداف الثورة ) على الوحدة الفورية مع مصر وسوريا حيث نص الهدف التاسع للثورة على التقارب مع الجمهورية العربية المتحدة والدول العربية المتحررة ومساعدة الدول الاخرى على نيل استقلالها فيما نص الهدف رقم (11) على ان الوحدة العربية هدف مصيري يجب السعي لتحقيقه وفي حالة تعرض العراق لغزو خارجي يستهدف اعادة النظام الملكي فتتم المناداة بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة وهي حالة لم تحدث مطلقا كماان الهدف رقم (9) تم تطبيقه حيث وقع العراق اتفاقية التكامل الاقتصادي والتجاري والفني واتفاقية التعاون العسكري مع الجمهوربة العربية المتحدة ومن هنا يتضح ان شعار الوحدة الفورية لم يكن هدفا من اهداف الثورة انما اجتهاد لاحق للضباط الاحرار القوميون والبعثيون الذي وضعوه معيار لنجاح الحكم الثوري الجديد او انحرافه عن مسار الثورة لغرض كسب الدعم المصري وللتشهير بقاسم وابرازه كعدو للوحدة العربية تبريرا للانقضاض عليه وانتزاع السلطة منه وهنا يكمن بيت القصيد والغريب للامر ان من اطاح بقاسم بسبب موقفه من الوحدة العربية لم يقدم على خطوة الوحدة بعده مع اي قطر عربي كان حتى الغزو الامريكي عام 2003م!!!فهل كانت الوحدة هي المطلب ام الكرسي ؟؟؟ كما ان مطالبته بالكويت قد نبهت الغرب وبريطانيا تحديدا الى خطورة بقاءه في الحكم والطريف بان القوميون رفضوا مجرد مطالبة قاسم بالكويت واعتبروه تهديدا لدولة عربية جارة للعراق فيما اجتاحوا الكويت واعلنوها محافظة رقم (19) بعد 27 عام على رحيله وهنا يبرز اكثر بان ماحصل بعد الثورة كان خلافا في وجهات نظر يعكس صراعا على السلطة وليس انحرافا عن اهداف الثورة يتطلب انقلابا دمويا كالذي حصل في يوم 8 شباط .
اما الاحزاب والتيارات والمراجع الدينية فكانت مواجهتها الرئيسية مع الحزب الشيوعي العراقي الذي تهاون معه قاسم وكان هذا التهاون سببا رئيسيا في ازدياد النقمة عليه فقد كانت تصرفات بعض رفاق الحزب الشيوعي بعيدة عن الواقع العراقي وغريبة عنه وفيها تحدي للقيم والاعراف والمبادى الدينية الراسخة (كحرق المصاحف امام وزارة الدفاع) وهو مالم يدركه قاسم والحزب الشيوعي باننا في بغداد والبصرة ولسنا في موسكو او وارسو ووصل الامر الى اصدار قانون الاحوال الشخصية الذي سوى بين الرجل والمراة في الميراث متجاهلا الاية الكريمة القائلة (وللذكر مثل حظ الانثيين) صدق الله العلي العظيم الا ان ماكان يؤرق المراجع الدينية الشيعية تحديدا لم يكن قانون الاحوال فقط وانما الاقبال الشديد من الشباب الشيعة على الحزب الشيوعي وافكاره وهو مايمثل تهديدا مباشرا لهم ولمكانتهم الدينية ممااستدعى ردا حاسما تمثل في فتوى الامام محسن الحكيم (رحم) بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي . لقد تم تحميل عبد الكريم تجاوزات الشيوعيون وهو ان كان يتحمل جزءا منها الا ان عبد الكريم قاسم لم يكن يوما معاديا للدين لاقولا ولافعلا فنحن لانتحدث عن اتاتورك في الحالة التركية مثلا وانما جرى استخدام موضوع الدين لاثارة مشاعر الناس وتحريضهم ضد نظام الحكم ومن قبل جهات سياسية ودينية استخدمت الدين كشماعة لتصفية حسابات سياسية وهذا يقودنا الى وضعنا الحالي في العراق حيث تحكم الاحزاب الدينية التي اتت على ظهر الدبابة الامريكية فهل بات العراق اليوم قلعة من قلاع الاسلام ام انه غدا وكرا للفساد الاداري والمالي والارهاب والطائفية والعمالة والتفسخ الاجتماعي وغسيل الاموال والتهريب .
كرديا كان الزعيم عبد الكريم قاسم الحاكم العراقي الوحيد منذ تاسيس الدولة العراقية الاولى عام 1921 وحتى سقوطها عام 2003 الذي تعامل مع الاكراد كعراقي لا كعربي شانه شان جميع حكام الدولة الاولى ونظراؤهم في الدولة الثانية فالرجل الذي اصدر عفوا عن جميع المتمردين الاكراد طوال العهد الملكي عاد بموجبه الاب الروحي للاكراد الملا مصطفى الذي استقبله قاسم كبطل ثوري واسكنه منزل رئيس الوزراء نوري سعيد باشا في الصالحية واقر له راتبا شهريا خيالي في وقته وهو 500 دينار عراقي وفي يوم 9 فبراير 1960 اجيز الحزب الديمقراطي الكردستاني كاول حزب كردي في العراق وهذا كان خطا قاسم التاريخي عندما سمح بتاسيس احزاب على اسس قومية عنصرية كالحزب الكردي المذكوري واسس مذهبية طائفية مقيتة كحزبي الدعوة الشيعي والاسلامي السني رغم كل هذه الاجراءات الا ان سقف مطالب الحركة الكردية والتي استغلت كورقة ضغط وذريعة للتدخل من اعداء العراق كانت اكبر من قدرة اي حاكم لبغداد فلايوجد رجل في العراق قادر عل منح الاكراد دولتهم الخرافية قديما وحديثا فكانت ثورة ايلول 1961 وماتبعها وادى الى دخول القوى الكردية في خانة المعارضين لقاسم . ولعل اهم مايؤخذ على قاسم في يومنا هذا من قبل البعض بانه مؤسسا للنظام الجمهوري الذي ادخل العراق في نفقا مظلم من خلال حكم العسكر الاستبدادي قبل الغزو الامريكي ونظام المحاصصة الطائفية اللعينة بعد الغزو المذكور خصوصا انه كان اصلح الحكام الجمهوريين وهو امر ذو حدين احدهما مدحه ثناءا عليه لوطنيته وعراقيته وانسانيته وبساطته وزهده والاخر هو قدحه بغضا له بسبب من ركبوا موجة افكاره الثورية كالحزب الشيوعي وقطارهم السيئ الصيت (السلام) او ممن اتو بعده على عرش بغداد .
وبعد كل هذا تمر خمسون عاما على اغتيال قاسم واعدامه وفق محاكمة صورية افتقرت ادنى درجات العدالة والانسانية معبرة عن عهد الارهاب السياسي الذي بدا مع ثورة 14 تموز ومجزرة قصر الرحاب لقد دفع قاسم ثمن اخطاءه وتكالب اعداءه عليه واختياره الطريق الثالث الوطني العراقي البعيد عن الثنائية القومية الدينية المهيمنة في العراق ومع قراءة بسيطة ومتانية لتاريخ الرجل الذي شكل احد المدارس السياسية العراقية الثلاث بعد نوري السعيد وقبل صدام حسين فان مالايمكن نكرانه بان مؤسس الجمهورية العراقية قد حاز على اعجاب وحب وتقدير الملايين من ابناء شعبنا العراقي والمستضعفين منه على وجه التحديد ف 4050 مدرسة و3000 مصنع و3700 وحدة سكنية موزعة على 40 مدينة وانشاء مناطق ومدن صناعية مثل الاسكندرية والمستشفيات والمراكز الصحية مثل مدينة الطب والمرافق العلمية والجامعات مثل جامعتي بغداد والمستنصرية وقوانين تحرير المراة والتعليم الالزامي والاصلاح الزراعي وقانون النفط رقم 80 الذي استعاد العراق بموجبه 99% من الاراضي الممنوحة لشركات النفط ولم تستثمرها نعم كل هذا حصل في 4 سنوات وهو عمر الولاية الثانية لحكومتنا الحالية والتي لم نرى منها عشر هذه الانجازات في 7 سنوات هي عمر الولايتين .
كان قاسم استاذا للوطنية العراقية فقد امن بالامة العراقية وامنت به وابتعد بالوطن العراقي الحبيب عن النعرات القومية والصراعات الطائفية فكان العراق في عهده كما كان يقول فوق كل الميول والاتجاهات وهو مالم يدركه للاسف من اتى بعده وخصوصا من ركبوا الدبابات الامريكية عام 2003 وحكموا العراق وفق المحاصصة الطائفية اللعينة .