23 ديسمبر، 2024 4:46 م

صدر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في بابل مؤلف (جنائن بابل) عام 2013م.. وكانت هذه السياحة الأولى لهذه الجنائن الخلاّقة… (جنائن بابل) نصوص إبداعية سردية، ولسعة هذه النصوص السردية في إبداعها وتفردها فقد ارتأيت أن تكون هذه الدراسة النقدية لها بزيارة كل جنينة والعيش فيها والاطلاع على مفاتنها اللغوية وصورها الخلابة التي تفجّرت من منابع عذبة رقراقة تحسُّ بعذوبة مذاقها وخلابة صورها.
أنطلق من العنوان بعد أن قرأت هذا السفر السردي مرّة بشوق واستمتاع ومرة لكي أعثر على مفاتيح الجنائن الخلابة لاستمتع بعذوبة لغتها وجمالية صورها المبدعة، وعفوية السرد المفعم بالصدق والمحبة الحقّة للأهل والناس والمكان، والتي من خلالها تكتشف أصالة المؤلف ونقائه وطيبته حقاً.
سنحاول في دراستنا النقدية هذه للعنوان وللنص الإبداعي الأول أن لا نخضعهما للتأويل بقدر ما نسعى إلى تفجير طاقات هذا العمل الإبداعي المتفرد في عنوانه ونصوصه وفي بنائه الحكائي.
 لقد عدَّ المؤلف الإستراتيجية التي تحكم عملية بناء الحبكات مسارات تصويرية لتوليد الأشكال والدلالات بعيداً عن الخلفية الأبستمولوجية لهذه الإستراتيجية وعلاقتها بالتجربة الإنسانية، ويمكننا أن نقول إنَّ هذه النصوص السردية تكشف عن جوانب شمولية في بعض الوضع الإنساني الذي عاش المؤلف حيثياته وكان يطمح إلى تشييد عوالم ممكنة (جنائن) تشتغل كترميز للذات والعالم.
ويمكن القول بأن المؤلف الشاهين في نصوصه السردية هذه أسس نمطاً مخصوصاً من المعرفة والفهم، ليفتح أمام الذات أفقاً أو آفاقاً جديدة، وكأني به أراد من نصوصه السردية أن تؤثر قصدياً على أفق جديد للواقع، وبهذا الفهم السردي أفلح في إنتاج عملية تصويرية ودلالية للحبكة السردية بعرض معاناته ومعاناة أهل بلده من خلال خطابه السردي ليفتح أمام الذات عالماً ممكناً.
وأرى أن المبدع ذياب شاهين لجأ إلى هذا العمل السردي حين وجد أنه لا يستطيع أن يعبّر عن كل ما يريده شعراً، لأن هناك مسائل لا يمكن تناولها إلاّ بالتحليل المبني على العقل، وبالمقابل لذلك وجد أن إحساساته إنما هي صعود مباشر للأشياء، لذلك عبّر عنها بهذه الشفافية المحببة إلى النفس: “كان الدخول إلى البرج ممكناً من أي مكان أو هذا ما تصوره، وإذا كان الدخول حقيقياً فالخروج سيكون مستحيلاً، فالبرج لم يكن سوى متاهة تقود إلى متاهات أخرى…”، ص5.
وبما أن لوظيفة العنوان دور حاسم في تأمين حماية كينونة النص، فالمتلقي سيكون أمام العنوان قبل كل شيء بعد أن يجده سابحاً على سطح غلاف النصوص السردية، ومن خلال العنوان يستدل المتلقي إلى هوية العمل الأولى وكأنها مفروضة عليه فرضاً تتطلبه طبيعة القراءة التي تفرضه فرضاً.. وقد ذُكر بأن العنوان يرتبط بالمتن النصي في أعلى درجات تطوره.
لقد اشتغل المؤلف على العنوان فجعله مفتوحاً دلالياً وإيقاعياً باستخدام آليات التوجيه ليجعله بإبداعية يعمل بدوال أخرى بمعيته بحيث يمكن أن تأخذ منه من ناحية، ويمكن أن تمنحه كل ما يمكن أن تمنحه من ناحية أخرى “وجدت نفسي حافياً في الحلم أخوض في طريق وعر، وهالني أن أجد المكان يرتفع بي إلى الأعلى وينخفض إلى الأسفل على فترات زمنية متساوية كما يفعل موج البحر، حيث كنت أسمع أصواتاً تبدأ واطئة وتبلغ أشدّها في القمة…”.
نلحظ في هذا الجزء من الفقرة السابقة استخدام المؤلف الكلمات المضادة لإيصال أفكاره، ليمنح عباراته حيوية بلاغية محببة بهذه الدوال.
(يرتفع  ينخفض)
(الأعلى  الأسفل)
وفي الفقرة نفسها نجد: (الذهب  الفضة)
(وجهها  خلفيتها)
(الضم والفتح والكسر  السكون)
(يصدر صوتاً  يصمت)
لقد تسلسلت المدركات في ذهن المبدع ذياب شاهين إذ يستدعي الأول منها الثاني، والثاني يستدعي الثالث.. وهكذا كما يستدعي الضد حضور ضدّه في الإدراك، وهذا يمثل حالة التحضير الذهني للمتلقي من خلال ذكر الشيء مع الحركة الواقعية التي أراد المبدع الشاهين أن يخلقها في ذهن المتلقي. ومن هذه الحركة الإبداعية البعيدة عن التكلف، ينسج على منوال إبداعه حبكته القصصية المتميزة.
لقد أتاح لنا دال (جنائن) بعده الاستثنائي النوعي، ثم يبدأ بحرثه في أرض المفهوم استناداً إلى معطيات الكثافة الدلالية والأسطورية لجنائن بابل في سياق زمني آني ومستقبلي.
وكأني بذياب شاهين قد سعى إلى اجتذاب شبكة دلالات تتعلّق بهذا المعطى العضواني الكثيف.. ومن خلال العمل الحكائي حاول استثمار كل ما هو ممكن في العمل الحكائي لحكايته الواقعية من أجل إنجاز معطيات استخدمها بشاعرية تتخصب بها وتتفاعل معها ضمن نطاق الميثاق (السير الذاتي)، وقد جعل الفعل السردي يشتغل حكائياً ضمن إطار المكان الذي شرّع بسرد ما يتعلق بحكايته فيه وهو سرد سيري، إذ استطاع أن ينسج رؤيته للمكان عبر أنسنته وإسناده إلى أفعال متلاحقة: “لكنه تساءل هل يمكن لمؤلف ما قد أضاع مخطوطته أن يتنبأ بكتابتها مؤلف آخر بعد أكثر من ألف عام، ضحك في سرّه قائلاً: “لو حدث ذلك [لهو] العجب ذاته”، ص9.
نلحظ أن المؤلف جاء على ذكر (المخطوطة) التي ضاعت قبل ألف عام لكي يؤكد أهميتها وندرتها ونفاستها لهذا القدم وما زالت لم تخضع للتحقق وللوقوف على ماضيها.
يمكن أن نسمي عمله (سير مكاني) إذ انتخب مشاهد لتصوره الطفولي للمكان ومحيطه بحيث بقي حياً في الذاكرة، ومتشبثاً بحياة لا يمكن إلغاؤها أو إنكارها، ومن خلال ذلك نلمس أن المؤلف الشاهين كان غاية في الرهافة والجمال والإحساس بالانتماء إلى المكان والزمان والطبيعة.. بحيث خلق لعمله إيقاعاً استثنائياً ينفتح على الفضاء انفتاحاً رحباً.. لذلك أخذت فاعلية تأثير الإيقاع وعمقه وصيرورته تتجلى تجلياً جدلياً يكشف عن صراعٍ عالٍ في سرديته، مما تلمس تمكّن المؤلف في خصوصيته من خلال انبثاق حساسية صور المكان التي أجاد في إتقان الحكاية عنها وتصويرها بدقة من خلال تداعيها في الذاكرة اليقظة بشكل جلي، ولذلك نجح المؤلف المبدع في زمكانيته بأنه ضخ فيها أركانها وأنساقها وعناصرها أكبر طاقة ممكنة لاستقبال ثراء ما اكتنز في الذاكرة من صور حيّة حتى يجعل نصوصه السردية بصرية تلتقط فيها عدسة كاميرا العين الصور المستعادة من باطن الذاكرة، “… أعرف أن الآلام هي بعض النعم التي يغدق بها الخالق على مخلوقاته… كان يفكر بالإنسان القديم وكيف كان يخجل من مواجهة الله وقدرته… كان يعتقد أن الإنسان الحديث حين تخلّى عن الأجسام السابقة فإنما غادرها إلى أصنام معاصرة، فالأصنام لا تختفي بل سرعان ما تلبس لبوساً أخرى…”.
ويمكن من خلال هذا المقطع أن نستشف شيئاً من أفكاره التي تبناها في حياته وانعكست بشكل شفاف على بعض تصرفاته وسلوكيته، “كان يعتقد بقوة أن المكتبة هي الجنة وتكاد تضارعها قدسية..”. وهذه العبارة تكشف بشكل جلي حقيقة إيمانه، بعد أن كان مهموماً ومشغولاً في إيصال أفكاره هذه من خلال سردها عن أجزاء من حياته لتشكيل البطل على نحو سياق تصويري يخضع لعدسة كاميرا مراقبة، تصوره بكل صدق وعفوية على دراية منه. وقد عمد إلى هذه الطريقة للسرد الواقعي لأنه وجد نفسه بحاجة نفسية وروحية ضاغطة لا يمكن أن يتفاداها، ويتضح ذلك من خلال قبوله في جامعة البصرة وفي ذهابه للعيش في بيت أحد أقاربه قبل قبوله في أحد الأقسام الداخلية..
راحت ذاكرة المبدع ذياب شاهين تتوغل في المشاهد التي يرسمها من أجل إنجاز نصوص سردية شاملة وواضحة في أقصى مدى ممكن في الذاكرة، لتكتسب حضوراً سردياً باهراً وقوي الدلالة في السياق السردي لإنارة زوايا حياته وكشف المسكوت عنه فيها.. بعد أن ضمنها واستخدم فيها أفعالاً مكتنزة بالمعنى الحركي الذي ينطوي على قدر من الإحساس المربك بالمباغتة المحببة الساحرة.
ونرى أن المؤلف المبدع أراد أن يخلق بشكل إبداعي جميل من مفرداته المترابطة في اتساعها ترابطاً دلالياً في الحقل الدلالي ليجعل المتلقي يدخل بتوقعاته في صناعة المعنى، لأن الحدث الإنساني ينتج معنى ويستمر الحدث الآخر ينتج معنى آخر.. وهكذا على مدى أجيال متعاقبة وليس كونها سلسلة من اللحظات المتفاوتة في أهميتها ودلالتها.
قال المؤلف: “قلب الصفحة التي فيها الشكل، وبدأ يتصفح من جديد، ثم وجد الرسم ذاته في صفحة أخرى من المخطوط، ولكن بحجم صغير وقد كتب تحته التالي: (هنا في هذه الخزانة ستخزن أجزاء مخطوطة سردية سيكتشفها قارئ غير معروف ويطبعها في الجزء الثاني من العام 1433 للهجرة وينسبها له)”.
لقد تمكن وبنجاح عالٍ وجهد متميز أن ينتج أطراً وقوالب للفهم اعتمدتها الذات لإعادة صياغة الحدث بالشكل الأمثل من خلال خلق علاقة جدلية بين الهوية والسردية ومن خلال علاقة النسق بما يمثله، ولذلك كان موفقاً من خلال سرد النصوص أن يبتكر الذات للمبادرات والأفعال التي خلق منها أحداثاً شيقة إن هي إلاّ ذكريات قصص عاشها المؤلف، كانت جديرة بأن تروى وتسرد مع تعاقب الزمن وترتقي إلى مستوى نماذج عليا أصيلة مؤسسة لهوية المؤلف وملهمة لها.
ولا أحسبني أبالغ في القول بأن المبدع ذياب شاهين من خلال هذه النصوص السردية يكون قد أسس نمطاً مخصوصاً من المعرفة الأدبية والفهم الثقافي ليفتح أمام الذات آفاقاً جديدة ويجعل نصوصه السردية هذه تؤشر على أفق جديد للواقع وفهمه.
أقف بنقدي عند هذا الحد اليسير، وكلّي أمل أن أواصل تأملاتي النقدية لهذا العمل المتفرد (جنائن بابل) وأشدُّ بحرارة على يد المبدع حقاً ذياب شاهين والى مزيد من الإبداع المتفرد وفي أمان الله وحفظه.