23 ديسمبر، 2024 1:35 ص

خلق الرمز والتاريخ النصي  ( تبتل في محراب القلب )  نموذجا

خلق الرمز والتاريخ النصي  ( تبتل في محراب القلب )  نموذجا

ما يميز الشاعر عن غيره هو امتلاكه رؤية متميز عن الحياة و اشيائها ، ان يستطيع ان يرى ما لا يراه غيره ، ان يعبر عما لا يمكن التعبير  عنه ،  ان يكون صانعا للفكرة الجميلة بلغة جميلة . ان الشاعر بذلك يكون صانع الكيانات و صانع التواريخ الكتابية ، اذ ان  الرؤية الخاصة و التعبير الخاص و التفاعل الخاص يعطي للفظ المعين  او للمعنى المعين وجودا مستقلا و متميزا و تشكلا في الوعي خاصا به وفق ما قدمه الكاتب ، و كذا حال جميع التعبيرات او المعاني او الفكر التي يوظفها او يخترعها الفنان او الاديب شاعرا كان ام قاصا امر غير ذلك.
الكتابة الابداعية تعتمد في جزء منها على التوظيف ، لأجل اعطاء الكلمات او التعابير اكبر طاقة تعبيرية ، وهذا احد اسرار الجمال في اللغة الابداعية . لذلك كانت اللغة الرمزية ، وكما انه يعتمد فيها توظيف ما كان له تاريخ و ابعاد معلومة في الخارج فيعطي بتوظيفه كما تعبيريا يطور الطاقة التعبيرية ، فان الكاتب ايضا يعمد الى ان يخلق رموزه الخاصة و يوظفها في كتابته .  فيكون لذلك الرمز الموظف تاريخ غير الذي في الخارج وهذا ما نسميه التاريخ الكتابي و لو اقتصر التتبع على النص يكون لدينا تاريخ نصي  .
ان عملية خلق الرمز هذه ادب متفرد يحقق درجات عالية من الجمالية و قوة التعبير و عمق الامتاع .و لخلق الرمز و اعطاءه تاريخا كتابيا شكلان ، اما ان يكون بسيطا و  ساندا او ان يكون معقد و محوريا . الرمز الكتابي المحوري هو ما يعمد الكاتب و يتقصد تعبأته بالرؤى و الافكار فيكون مرآة تعبيرية يستحضر بها الكاتب رؤاه و افكاره عند التوظيف ، اما الرمز البسيط الساند فهو نتاج طبيعي لتعبيرية الشاعر  ، فيكون لكثير من الالفاظ و المعاني التي يوردها الكاتب و يستعين بها تاريخ و لا يقتصر ذلك على الشخوص بل يشمل المفاهيم حتى اسماء الزمان و المكان . بل حتى الافعال.
نص ( تبتل في محراب القلب )  للشاعر العراقي المبدع  يحيى السماوي  كان نموذجا  متقدما في عملية خلق الرمز و التاريخ النصي .سواء للرمز  المحوري ام  المساند .

 الرموز النصية المحورية
في النص ثلاثة شخصيات رئيسية لها تاريخ نصي متطور مغاير للخارج  تعمد و تقصد الشارع ان يكون لها هذا التاريخ في نصه ،  المتكلم و المخاطب و الوسط  وهو مجموعة من الاشياء جعل لها الشاعر تاريخا مغايرا  لخارج .

  1-  تاريخ المتكلم في النص
كتب الشاعر بصيغة المتكلم في النص فقال :
مُـذنِـبـا ً جـئـتُـكِ فـي يـمـيـنـي : دمـعـةٌ تـسـتـعـطِـفُ فـأنـا الـمـفـضـوحُ خـذلـتـنـي لـغـتـي وأسَـمّـيـنـي : جـريـحـا ً وأسَـمّـيـنـي : الـمَـغـيـبْ .. وأسَــمِّـيـنـي الـمُـصـلّـي بـيـن مـحـرابـيـن ِ وأسَـمِّـيـنـي : مَـسـيـحـا ً دون إنـجـيـل ٍ .. فـسـيـرويـنـي الـذي فـي بـئـر جـرحـي مـن صُـراخ ٍ
وبـقـلـبـي مـن لـهـيـبْ
من الواضح ان قاموس الالفاظ المتعلق بهذه الشخصية قاموس كئيب  ونادم و احتياجي و توسلي ، وبهذا فان الشاعر قد برع في ان يجعل هذه الشخصية تتجلى  حسب رؤيته من الندم و الرجاء انه تجلي بديع للندم و الرجاء .
نحن اوردنا المقاطع حسب التسلسل الزمني للعبارات في النص ، و لو لاحظنا لوجدنا حكائية تطورية عن شخصية المتكلم في النص ، فدلينا في البدء مجيء مع وضوح الغاية و الهدف من المجيء ثم تلعثم و عدم قدرة على المواجهة ، ثم  الجهر بالقضية و المراد ، ثم الخاتمة التي يرسمها الشاعر و التي تبين نهاية الحكاية و رايه في رد من ذهب اليه .

2- تأريخ المخاطب في النص
خاطب الشاعر شخصية بصيغة المؤنث في النص قائلا :
مُـذنِـبـا ً جـئـتُـكِ أسْــتـجـديكِ صـفـحـا .. وأسَـمّـيـكِ : دوائـي والـطـبـيـبْ وأسميكِ : شـروقـي .. وأسَــمّـي مـهـبـط َ الـيـاقـوتِ فـي عِـقـدِكِ : سَــفْـحـا وأســمِّــيـكِ : الـتـي تـخـتـزِلُ الأسـمـاءَ والأشـذاءَ .. والـفـوزَ الـذي يـجـعـلُ خِـسـرانـيَ ربـحـا .. وأسـمِّـيـكِ : الـفـراديـسَ .. الـيـقـيـنَ .. الـقِـبْـلـة َ .. الـمـحـرابَ ..
والـوادي الـرّحـيـبْ وأسَـمِّـيـنـي : مَـسـيـحـا ً دون إنـجـيـل ٍ .. وقُـربـانَ الـمـراثـي..
وأسَــمِّـيـكِ : الـصّـلـيـبْ والـعـنـاقَ الـشّـفـعَ والـوِتْـرَ فـابـعـدي حـيـثُ تـشـائـيـنَ ..
اركـبـي الـمـوجـة َ والـرّيـحَ ..احـجـبـي الأمـطـارَ والأنـهـارَ عـن بُـسـتـان صـدري .. 
 
 
من الوهلة الاولى يبين لنا الشاعر ان من ذهب اليها هي مصدر العطاء و الخير و الكرم وهذا تمجيد و رسم قيمي و اخلاقي   ، و مع هذه البداية العالية فان الشاعر لم يتوقف عندها بل ذهب منطلقا في تمجيد اكبر حتى يصل الذروة في قوله ( اسميك ( التي تختزل الاسماء) ) ، ثم لا يكتفي الشاعر بالمعنى الفردي بل ذهب نحو المعنى الجماعي بالتقديس و المعرفة فيصف المخاطب بالمقدس و المعرفة  القبلة و اليقين . ثم يعلن ان المخاطب هو المصير المحتوم له ( انه الصليب للمسيح ) و عناق الشفع و الوتر . و يختمها بالخاتمة التي اشرنا اليها من رأيه في ابتعاد المخاطب و فرض عدم استجابتها له .
ان تاريخ شخصية المتكلم هنا لا يمكن الا القول انه تاريخ صناعي فذ خلاق ، تجاوز الحدود في التصور و الامكان ، حتى تخلل مناطق العمق في الشعور الانساني ، وهو انعكاس الى صدق شفيف باح به الشاعر في صوره التخيلية الرفيعة .
 
3-  تاريخ الوسطيات
 اورد الشاعر مجموعة من الاسماء جعلها وسطا تعبيريا لأجل ايصال افكاره الا انه اعطها معنى قصديا مخالف للخارج ، بمعنى انه لم يأت بها استعارة و مجازا فقط و انما قصد ان يهبها معنى و اسما غير اسمها و معناها الخارجي فقال :
سـأسـمّـي وردةَ الـرُّمّـانِ : جُـرحـا .. وأسَـمِّــي زهـرة َ الـتـفّـاح ِ فـي خـصـركِ : صُـبـحـا وأسَــمّـي مـهـبـط َ الـيـاقـوتِ فـي عِـقـدِكِ : سَــفْـحـا  .
لقد اخترل الشاعر اشارات و دلالات في عبارات ومضية  ايحائية ولغة متوهجة اعطت للغة طاقة تعبيرية كبيرة جعلت لتلك الاشياء التي سماها باسماء مغايرة و ونعتها بنعوت مختلفة عن واقعها تشكلا متميزا في الذهن ، صانعا بذلك تاريخا لها نصي مغاير للخارج .
 
 
الرموز النصية الساندة
 
من الاشياء التي صار لها  تاريخ متميز في النص ، عند الاستعانة بها و تكررها في النص هي فعل التسمية بصيغة ( اسمي ) و من خلال علاقات التجاور و التوصيل يمكن ملاحظة التقابل بين المسميات و التسميات و التي عكف الشاعر عليها قائلا
وأسَـمّـيـكِ : دوائـي والـطـبـيـبْ وأسَـمّـيـنـي : جـريـحـا ً وأسميكِ : شـروقـي ..وأسَـمّـيـنـي : الـمَـغـيـبْ وأسـمِّـيـكِ : الـفـراديـسَ .. الـيـقـيـنَ .. الـقِـبْـلـة َ .. الـمـحـرابَ ..
والـوادي الـرّحـيـبْ   وأسَـمِّـيـنـي : مَـسـيـحـا ً دون إنـجـيـل ٍ .. وقُـربـانَ الـمـراثـي ..وأسَــمِّـيـكِ : الـصّـلـيـبْ
وهو اسلوب بلاغي موسيقي من حيث المعنى ، فيكون لفعل التسمية تاريخ تكراري بالصور التي يظهر فيها ، و هناك خط تطوري اخر للتسمية هو الفصل بين تسمية المتكلم و تسميات المخاطب و تسميات الوسط و تأخذ معانيها و دلالتها مما ذكرها في تلك الجهات .
 
من الامور الساندة التي صار لها تاريخ في النص اعضاء الجسد  حينما يقول
حـامِـلا ً جـثـمـان أمـسـي .. فـي يـمـيـنـي : دمـعـةٌ تـسـتـعـطِـفُ الـعـفـوَ وقـلـبٌ يـتـشـظّـى !
ويـسـاري : تـشـتـكـي ثِـقْـلَ كـتـابـي الـمُـسـتـريـبْ .
لقد صار للجثمان و لليد اليمنى  و للقلب و لليد اليسرى ، تاريخ مغاير للواقع انها كيانات تعبيرية للرجاء و الاستعطاف ما عادت و سائل للحياة فقط .لقد ابدع الشاعر في صوره و توظيفاته فعلا .
 
 
 
النص الاصلي
 
 
 
 
 
تـبـتـُّـل فـي مـحـراب القلب
****
شعر / يحيى السماوي / العراق
****
________
مُـذنِـبـا ً جـئـتُـكِ أسْــتـجـديكِ صـفـحـا ..
*
حـامِـلا ً جـثـمـان أمـسـي ..
فـي يـمـيـنـي : دمـعـةٌ تـسـتـعـطِـفُ الـعـفـوَ وقـلـبٌ يـتـشـظّـى !
ويـسـاري : تـشـتـكـي ثِـقْـلَ كـتـابـي الـمُـسـتـريـبْ
*
فـضـحَ الــجَّـهْــرُ عـذابـاتـي ..
وزادَ الـسِّــرُّ والـتـأويـلُ فـضْـحـا
*
فـأنـا الـمـفـضـوحُ فـي الـحـالـيـن ِ : إنْ صَـمْـتـا ً وبَـوحَـا ..
*
يـتـسـلّـى بـحُـطـامـي نـدمٌ أشـرسُ مـن نـابِ الـلـهـيـبْ
*
خـذلـتـنـي لـغـتـي فـالـتـمِـسـي لـيْ فـي كـتـابِ الـعـشـقِ نُـصْـحـا ..
*
سـأسـمّـي وردةَ الـرُّمّـانِ : جُـرحـا ..
*
وأسَـمّـيـكِ : دوائـي والـطـبـيـبْ
*
وأسَـمّـيـنـي : جـريـحـا ً
نـزْفُـهُ الآهـاتُ والـدّمـعُ الـصّـبـيـبْ
*
وأسَـمِّــي زهـرة َ الـتـفّـاح ِ فـي خـصـركِ : صُـبـحـا ..
*
وأسميكِ : شـروقـي ..
وأسَـمّـيـنـي : الـمَـغـيـبْ ..
*
وأسَــمّـي مـهـبـط َ الـيـاقـوتِ فـي عِـقـدِكِ : سَــفْـحـا
*
لـهـضـابِ الـفُـلِّ والـريـحـان ِ والآسِ الـبـتـولـيِّ الـرّطـيـبْ
*
وأسَــمِّـيـنـي الـمُـصـلّـي بـيـن مـحـرابـيـن ِ
يـسـتـنـشـقُ نـعـنـاعـا ً مـن الـجـيـدِ
ومـن مـئـذنَـتَـيْ صـدرِكِ طـيـبْ
*
وأســمِّــيـكِ : الـتـي تـخـتـزِلُ الأسـمـاءَ والأشـذاءَ ..
والـفـوزَ الـذي يـجـعـلُ خِـسـرانـيَ ربـحـا ..
*
ويُـحـيـلُ الـسّـوطَ غُـصـنـا ً ..
و جـدارَ الـكـهـفِ نـهـرا ً
مـوجُـهُ الـشـهـدُ وشـدوُ الـعـنـدلـيـبْ
*
وأسـمِّـيـكِ : الـفـراديـسَ .. الـيـقـيـنَ .. الـقِـبْـلـة َ .. الـمـحـرابَ ..
والـوادي الـرّحـيـبْ
*
وأسَـمِّـيـنـي : مَـسـيـحـا ً دون إنـجـيـل ٍ .. وقُـربـانَ الـمـراثـي ..
وأسَــمِّـيـكِ : الـصّـلـيـبْ
*
والـعـنـاقَ الـشّـفـعَ والـوِتْـرَ *
الـذي يـدرأ أحـزان الـمـنـافـي
وعـذابـاتِ الـفـتـى / الـكـهـلِ / الـغـريـبْ
*
فـابـعـدي حـيـثُ تـشـائـيـنَ ..
اركـبـي الـمـوجـة َ والـرّيـحَ ..
احـجـبـي الأمـطـارَ والأنـهـارَ عـن بُـسـتـان صـدري ..
فـسـيـرويـنـي الـذي فـي بـئـر جـرحـي مـن صُـراخ ٍ
وبـقـلـبـي مـن لـهـيـبْ
**
* الشفع والوتر : عددان أقسم بهما الله تعالى في سورة الفجر في قوله : (والشفع والوتر) .. والوتر في المصطلح الفقهي هي الصلاة التي تختم بها صلاة الليل وسميت بذلك لأنها تصلى وتراً أي ركعة واحدة أو ثلاثاً أو نحو ذلك .. أما صلاة الشفع فيراد بها الركعتان اللتان تسبقان الوتر .