قد لا نضيف جديداً اذا قلنا بأن ما تتسم به المواقف الايرانية الرافضة لاحلال السلام وحسن الجوار مع محيطها العربي والاسلامي، وقرارات المجتمع الدولي من شذوذ وغرابة منذ بداية اعلان جمهوريتها الاسلامية ولحد الآن.
فلا يختلف اثنان في ان المواقف الايرانية المتحدية بمجملها للادارة الدولية واصرارها على مواصلة تدخلاتها العدوانية السافرة بانواعها… قد اصبح يشكل علامة استفهام قد تستعصي على الفهم حتى على بعض حلفائها ومناصريها.
فما هي خلفيات هذه المواقف اللاعقلانية والتي تصطدم فضلاً عن الادارة الجماعية الدولية مع حقائق الحالة السلبية التي تعيشها ايران على الصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي والمعنوي؟!
لعل استهلالنا لهذا المقال بعبارة وردت في مقدمة دستور اليونسكو تقول:
“لما كانت الحرب تنشأ في عقول الناس، ففي عقولهم يجب ان تبنى صروح السلام”. سوف تجعل من المحتم علينا ان نبحث عن جذور عقيدة الحرب في ثنايا تاريخ ايران وفي دهاليز عقول صناع القرار فيها. والقاء نظرة سريعة ومطالعة احداث تاريخية بارزة ستساعدنا على فهم الموقف المتعنت لايران من قضية السلام واقامة علاقات تفاهم وحسن جوار مع الآخر.
فايران العدوانات والتدخلات السافرة… ليست امراً طارئاً في التاريخ. فمنذ عصر جستنيان (527- 665م) دخلت فارس الساسانية في حروب عدة مع الروم المسيحيين دامت اولاها خمس سنوات وانتهت بعقد معاهدة سميت بـ (الصلح الدائم) والتي سرعان ما نقضها كسرى انو شروان، واعلن حرباً جديدة على الروم دامت قرابة عشرين عاماً عُقدت في نهايتها معاهدة اخرى نقضها الفرس ايضاً بعد فترة لتستمر الحرب سجالاً بينهما، خاصة في عهد هرقل ملك بيزنطة، وأبرويز ملك الفرس… الى ان جاء الاسلام وقضى على الوجود السياسي للامبراطوريتين. وحتى لا يأخذنا الاستعراض التاريخي المجرد بعيداً عن هدفنا الاساسي من هذا المقال، فأننا نقول بأن عقيدة الحرب والعدوان عند الفرس منذ القدم لم تنشأ من فراغ بل استمدت وجودها وجذورها الفكرية والنفسية من المعتقدات التي كانوا يعتقدونها،والافكار التي كانوا يؤمنون بها. فمن المعروف ان الفرس في ذلك الوقت كانوا يدينون بشكل اساسي بالديانتين الزراوثتية والمانوية.. حيث تقرر الديانة الاولى، ان هناك نزاعاً وتصادماً بين القوى المختلفة… كما ان النزاع بين فكرتي الخير والشر عندهم هو نزاع دائم ابدي؟
وترى المانوية، ان العالم نشأ من اصلين هما النور والظلمة، وان الصراع ابدي بينهما. فمن فكرة الصراع هذه والمنبعثة من منطلقات ميتافيزيقية غائمة، قد نجد اشارة الى تفسير عقيدة الحرب والحرص على ادامة الاقتتال في نفسية الفرس منذ القدم وحتى يومنا هذا.
واذا كان الفتح العربي الاسلامي لبلاد فارس بعد معركة نهاوند عام 642م قد مثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ تلك المنطقة بما احدثه من ثورة في المفاهيم الفكرية السائدة. فان رواسب العصبية والتخلف بقيت تفعل فعلها عند البعض. وأكثر تلك الرواسب، خطراً كان يتمثل في نزعة العداء للعرب والنظر اليهم من منطلق عقدة (الهزيمة الحربية) وتصنيفهم كغزاة محتلين رغم محتوى الرسالة المحمدية الخالدة التي حملها العرب الى تلك البلاد. لذلك، فقد حفلت صفحة تاريخ تلك المرحلة بالعديد من الشوائب والاحداث التي تدلل على ذلك، ولا يسعفنا المجال سوى بالاشارة الى اهمها والمتمثلة في:
* حركات التفتيت والانفصال عن كيان الدولة الاسلامية والتي قادتها حركات مشبوهة، كالظاهرية التي استولت على فارس، والسامانية التي استولت على بلاد ما وراء النهر، والزيارية على جرحان، واخيراً دولة بني بويه التي قامت بالعدوان على العراق واحتلاله.
* الدعوات المذهبية الهدامة والتي كانت تسعى الى تقويض الاساس الفكري للعقيدة الاسلامية ومنها المذهب (البابي او الشيرازي)، والبهائية وغيرها من الدعوات التخريبية التي يحفل بها تاريخ تلك الفترة.
واذا امضينا مع التاريخ قدماً، فاننا سنجد ان دولة الفرس قد ثابرت على نهجها العدواني التوسعي فيما بعد، مستهدفة الدولة العثمانية، باعتبارها اكبر امبراطورية اسلامية استطاعت ان تبسط جناحيها على اغلب دول العالم العربي والاسلامي.
ويكفي ان نذكر بانه في الفترة من 1732 وحتى عام 1847، تاريخ معاهدة ارضروم الاولى بين ايران والدولة العثمانية، قام الفرس (الايرانيون) بغزو العراق اكثر من خمس مرات واحتلال جزء من اراضيه.. كما انهم تحالفوا مع روسيا القيصرية في حربها مع الدولة العثمانية المسلمة سنة 1878م كما عملوا على اثارة النزاعات والنزعات الطائفية والعرقية في المنطقة بشكل مستمر.
اما في التاريخ المعاصر، فقد اثارت ايران مشكلة الحدود مع العراق من منطلق عدواني توسعي، وكررت اعتداءاتها على أمنه وسيادته، كما ضمت الى اراضيها مناطق عربية من عربستان والاحواز، وطالبت بالبحرين، وعبرت عن اطماعها التوسعية آبان حكم الشاه باحتلال الجزر العربية الثلاث، ولعب دوراً هاماً في حماية المصالح الامبريالية والصهيونية من اجل تنصيبها كشرطي للمنطقة، خدمة لاطماع الهيمنة والتوسع العدواني والمرتكز على فكرة اعادة امجاد فارس وعرش الطاووس والتي تشكل حلقة وصل مع حلقات التاريخ الفارسي القديم.
وعند استلام رجال الدين السلطة عام 1979، فبعد اغتيالهم المبكر لكل الآمال التي شبت في نفوس الجماهير الايرانية من حياة كريمة عصرية متطورة، وبعد ان بدءوا كل الطموحات الشعبية، عمدوا الى ارساء دعائم نظام يرتكز على قاعدة العداء للأمة العربية، وأظهروا منذ بدايات حكمهم نواياهم التوسعية ومشاعرهم العدائية تجاه العرب، حتى وصل الامر الى شن حربهم العدوانية على العراق.
ونحن في معرض بحثنا عن الخلفية الذهنية التي تقف وراء موقف ايران من قضية بناء علاقات ودية مع جيرانها العرب، يهمنا ان نؤكد على ضرورة فهم المنطلقات الفكرية المرتبطة بالخلفية التاريخية لهذه الحالة الشاذة.
فنظام رجال الدين اقام دعائمه على اسس ثيوقراطية متخلفة تعتمد مفاهيم طائفية ضيقة جعلته منذ البداية، وبحكم طبيعة التسلسل المنطقي للأمور والخلفية التاريخية التي اشرنا اليها، في موقع عدائي مع كافة الاقطار العربية المحيطة به.
فنظرة بسيطة الى دستور النظام تؤكد ما ذكرناه آنفاً، فهو ينص على ان مذهب الدولة الرسمي هو المذهب الجعفري الاثني عشري، يبقى الى الابد غير قابل للتعديل، مكرساً بذلك موقفاً طائفياً يتعارض مع جوهر وحقيقة الاسلام، الدين الشمولي الرباني المتكامل والذي لا يعترف في حقيقته بالمذاهب الا في اطار الاجتهاد واختلاف الرأي المشروع واثراء الفقه الاسلامي… وعليه، فان النظام الايراني خسر نفسه منذ البداية داخل منظور متخلف، وهو يسعى لبناء الدولة واقرار الدستور.. كما اننا نضيف الى ذلك بأن الدستور المشار اليه قد وضع الاساس الشرعي لسياسة التوسع حين نص عليه – انه سيعد الظروف لاستمرارية الثورة داخل البلاد وخارجها – خصوصاً لتوسيع العلاقات الدولية، حيث يسعى مع سائر الحركات الاسلامية الجماهيرية ليشكل الامة العالمية الواحدة. كما انه جعل مهمة القوات المسلمة الايرانية والحرس الثوري هي (تصدير الثورة). من هنا كانت نقطة انطلاق النظام الايراني الاسلامي ترتكز على قاعدة عدوانية تجاه كافة الدول التي لا تتفق مع ايران في توجهها المذهبي، وهو الامر الذي سوف يؤدي من ناحية اخرى الى تناقض حتمي بين شعارات النظام ودعوته لبناء الدولة العالمية الواحدة وبين واقع الحال من حوله، فهو سيصطدم منذ الوهلة الاولى مع الاغلبية (السنية) التي تشكل غالبية الجماهير الاسلامية والتي سوف تواجه التعصب المذهبي الذي يطرحه نظام طهران بتعصب مذهبي مضاد.. وفي ذلك تكمن خطورة هذا الطرح الطائفي المتخلف ذو الاهداف العدوانية.
واذا تناول الموضوع من زاوية اخرى، فأننا سوف نكشف ان هذا المفهوم المتعصب والذي يتغذى على شعارات جوفاء، تتناقض مقدماتها مع نتائجها قد اوقع نظام ايران الاسلامي في مأزق ضيق وحشره في حيز خانق، فرفع شعارات الثورة، ونصرة المستضعفين، ومحاربة قوى الاستكبار والجمهورية الاسلامية العالمية.. وغيرها من اللافتات الجوفاء قد جعل التراجع عنها امراً صعباً بل يمكننا القول بأنه غير متيسر، وذلك بالنظر الى التركيبة السياسية لنظام ايران التي تقوم على اساس فكرة (ولاية الفقيه) بعد ان طوعها خميني لخدمة اغراضه وتحقيق اهدافه …
ومجمل هذه الفكرة، ان الامام هو ممثل السلطة الالهية بين البشر، مشيئته من مشيئة الله، يملك التصرف المطلق في كافة الشؤون الدينية والدنيوية استناداً الى عصمته وتفويضه الالهي، وحيث ان الفقيه هو ممثل الامام الغائب فله نفس صلاحياته ومميزاته، ولا يخفى ما في هذا القول من اتجاه نحو تكريس الفردية والبعد عن جوهر المفهوم الصحيح للاسلام المبني على الشورى والعدل والمشاركة.
وبالنسبة لايران اليوم، فان المرشد الاعلى يعتبر نائب الامام حسب الاعلان الرسمي الايراني والدعوات التي تنادي به اماماً وزعيماً وقائداً للامة الاسلامية.
وعليه، فان فكرة (ولاية الفقيه) قد جعلت من المرشد الاعلى، الفرد الاوحد بين مقاليد الامور كافة، وكل ما يتعلق بالدين والدنيا ، بالحرب والسلام ، بالجنة والنار.. ولا يملك أحد ضمن المؤسسة الحاكمة ان يعترض على مشيئة هذا الفرد الذي لم يعرف من حياته سوى الحقد والكراهية والعدوان.
واذا زدنا الى ذلك، ان هذا النظام معتل العقل، لادراكنا مدى الورطة التي يجد النظام الايراني نفسه فيها في مواجهة ارادة المجتمع الدولي وتردي الاوضاع في ايران، الامر الذي يدفعه الى الهروب للامام نحو مزيد من المكابرة والتعنت والعدوانية.. مما يجعل تستره برداء الثورة الاسلامية، لعبة مكشوفة تخفي في باطنها عداء متأصلاً وحقداً دفيناً على الامة العربية، انطلاقاً من عقد التاريخ وانسجاماً مع طرحه العنصري والطائفي مقابل الآفاق الانسانية والعصرية والعلمانية التي يقدمها الفكر القومي العربي.
اخيراً، ان محاولتنا لفهم الخلفية التاريخية والمنطلقات الفكرية للعدوانات الايرانية، تدفعنا الى القول بان هذا النظام بمقدماته التاريخية ومنطلقاته الذهنية وبناءه العضوي وتركيبته المؤسسية، سوف لن يتخلى طوعاً عن عدوانيته واحلامه في التوسع، ولن تسمح له جملة الظروف الذاتية والموضوعية التي يتواجد في اطارها والتي وقع في شباكها ان يعدل من سياساته العدوانية، وان السبيل الامثل والوحيد – حسب رأينا – للتصدي لشروره وازاحة كابوسه المظلم عن عقول ابناء الملة والمذهب، خلق فرص السلام والتعايش السلمي والاخوي بين ايران والامة العربية وكافة بلدان المنطقة والعالم، هو العمل على هزيمة هذا النظام بشكل كامل، وتحطيم آلته العدوانية ومرتكزاته الحربية، وتبديد احلامه التوسعية المريضة، وعزله دولياً، واستنفار الطاقات الكامنة في الامة العربية لمواجهة هذا الخطر والقضاء عليه.
ولعل ما قمنا به في مواجهة هذا النظام من فعل بطولي في تصدينا لهذا الوباء الداهم، هو خير دليل على ما نقول.. فالارادة التي اسقطت احلام الدجالين وسنوات الحسم، وجعجعة الملالي، قادرة على الاجهاز على ما تبقى من بؤر العفونة والتخلف، وسيلحق اصحاب عمائم الدجل بمن سبقوهم من رموز العدوان والعنصرية في تاريخ ايران، وتبقى امة العرب.