على مدى زمن الاضطراب السياسي والاحتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي ، لم نفتأ نؤكد على حقيقة إن الفاعل الاجتماعي (= المثقف) هو قرين المبدع للأفكار المتمردة على الاحتواء ، والخالق للثقافات الثائرة على الانعزال ، والمنشأ للمعارف العصية على الاجترار . وهذه القدرة على الخلق وذاك الإبداع وتلك المعارف لا تاتي من سديم العدم ولا تنبعث من شقوق الفراغ ، كما أنها لا تتحصل بالفطرة المنسلخة عن الواقع المكفهر والمتعالية على همومه الصاخبة والمفارقة لانشغالاته الضّاجة ، بل الأحرى أنها بمثابة الرغبة المجدولة بالمعاناة والتطلع المسبوك بالألم ، أي معاناة البحث عن الحقيقة وألم التنقيب عن اليقين . على إن هذا الأمر لا يجري على هذا المنوال دائما”ولا يمضي بتلك السلاسة في الغالب ، إذ في لحظة من لحظات العجز عن مغالبة شبق الإغراء المادي / المصلحي ، والنكوص عن مقاومة شهية التبجّح المظهري / الاستعراضي ، ينزلق البعض من المثقفين نحو شراك الانبهار الإيديولوجي وينجذب صوب إغواء المكاسب والمآرب ، معتقدا”بأنه قد أحسن الاختيار وحسم المفاضلة بعدما حقق غايته وأكمل رسالته ، حين يوظف عدته المعرفية ويجير ملكاته الثقافية لصالح هذا التيار السياسي أو ذاك ، لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك . متجاهلا”، بلّه جاهلا”، خطورة دوره التاريخي وجسامة وظيفته الحضارية ، في إطار محاولات تعشيق الوعي الممكن بالواقع المتاح ، لجعل عناصر الأول تستوعب وتتمثل معطيات الثاني ، ومتنكبا”منهجية تفكيك البنى وتحليل الأنساق وزحزحة المعتقدات ، لا لكي يؤقنم قيمه (= الواقع) ويؤله مؤسساته ، وإنما لكي يفعّل طابع المرونة خلال تفاعلاتها ، ويؤصل مبدأ الشفافية في علاقاتها . وفي حدود هذه الإشكالية المأزقية تلتبس علاقة المثقف المؤدلج بالواقع المقصود تغييره ، وتحتبس صلته بالمجتمع المراد تطويره ، ليس لأن قدرته المعرفية لم تعد تسعفه على استقصاء العناصر المؤثرة فيهما ، واستكناه العوامل المحركة لهما ، وإنما لكونه حطم القواعد وانتهك البديهيات المسؤولة عن ربط المتجاور وضبط المتغاير ؛ بين عناصر الوعي الذاتي للفاعل الاجتماعي بكل نزواته ورغباته وتخيلاته من جهة ، وبين مكونات الواقع الموضوعي بكل تقلباته وانحناءاته وانكساراته من جهة أخرى . من هنا تبدأ معضلة المثقف المؤدلج بالتفاقم وتستحيل إلى أزمة وجدانية خانقة ، حين يخبو وهج عطاءه الفكري ويضمحل فيض توتره النفسي ، ويشرع بالتحول من مفكر نقدي يجوب الفضاءات الثقافية ، ويستطلع التخوم الاجتماعية ، ويسبر الأغوار النفسية ، ليكشف المستور فيها ويفضح المسكوت عنها ، إلى داعية إيديولوجي ممتثل لسلطة خارجة عن إرادته ومتحكمة في قناعاته ، همّه خنق الحقائق وتشويه الوقائع وتبرير التجاوزات . وضمن هذه الأجواء الموبوءة والعلاقات المشبوهة يصبح (( الفكر – كما يؤكد الكاتب الفلسطيني فيصل درّاج – صامتا”ومحاثيا”لواقع صامت ، ينتهي دور الفكر ويبدأ في اجترار ذاته الموائم للسلطة . ففي زمن الصمت تنعدم الأسئلة ويتلاشى الفضول وتهرب الدهشة ، ويبقى الواقع الصامت والزعيم الناطق والمواطن السجين ، أي ينتفي ويفنى كل جديد ومبتكر وإبداعي ، وتبدأ ثقافة الانحطاط التي لا تعرف السؤال ولا الجواب ، تبدأ ثقافة (النعم) كي تمد في عمر الواقع المتردي وتكرس هزيمة الإنسان )) . والحقيقة انه لا يعيب بعض المثقفين من اتخاذ موقفا”أو تبني تصورا”يتسم بالطابع الإيديولوجي أو يحمل دلالة تحريضية ، حين يتعلق الأمر بطور من أطوار نضالهم الوطني وتحدياتهم القومية ، لاسيما ضد الظاهرة الاستعمارية وما يتمخض عنها من مخاطر سياسية ومساوئ اجتماعية وأضرار اقتصادية وتهديدات ثقافية من جهة ، وحيال القضايا الإنسانية الملحة ؛ كالموقف من الحروب العدوانية والصراعات العنصرية والجرائم الإرهابية وما شاكل ذلك من جهة أخرى . طالما إن التعاطي مع هذه المسائل وتلك القضايا ، ينطلق من اعتبار إن النسق الإيديولوجي وما يشتمل عليه من أنماط فكرية ودلالات قيمية متنوعة ، يعدّ مكون أساسي من مكونات أي مجتمع . فضلا”عن كونه ينسج مع بقية الأنساق الأخرى السياسية والاقتصادية شبكة الجدلية الاجتماعية ، ويشكل رافد من روافد ديناميتها الذاتية ، من حيث إن الإيديولوجيات – كما يشير المفكر سمير أمين – (( هي أثمار ظروف تاريخية معينة ، فهي تظهر للإجابة على الأسئلة المطروحة في المجتمعات ، خاصة حينما تكون الخيرة في أزمة ، فتكون الإيديولوجيات عندئذ نقطة تبلور وتجمع قوى اجتماعية قادرة على طرح مشروع للخروج من الأزمة )) . غير الاندراج مرحليا”ضمن هذا النسق ، بغية توظيف عناصره واستثمار مؤثراته ، لتجاوز ظروف الأزمة وتخطي عواقبها شيء ، والتموضع في إطاره والتخندق خلف قيمه والاندغام ضمن خطابه ، كخيار دائم وإمكانية مستمرة شيء آخر تماما”، لا مناص من أن يشكل مثلبة تطال هيبة المثقف وتحط من اعتباره ، فضلا”عن كونها حالة تؤشر ارتداده عن دوره المميّز وتخليا”عن وظيفته الاستثنائية . كما وتفضي به إلى التنازل عن خاصيته الفريدة ، حيال شمولية رؤيته للواقع وشفافية طرح مشاكله وجذرية معالجة عيوبه . وبما إن المثقف المؤدلج لا يرى الواقع إلاّ من خلال موشور إيديولوجيته ولا يسمع إلاّ ما تمليه عليه مصالحه الطبقية أو العصبوية ، فانه يحاول أن يخلع عليه كل ما يريد أن يراه فيه ويرغبه منه ، لا كما هو موجود بالفعل وقائم بالضرورة ، بحيث تستحيل حقائق الواقع وموضوعاته إلى حقيقته هو ، محولا”إياها إلى مادة صلصالية لانشغالات فكره وألاعيب خطاباته ، مما يستتبع أن يغدو الواقع عصيا”على الفهم وممتنع على التحليل . ذلك لأن صرامة منطق هذا الأخير وموضوعية قوانينه لا ترحم من يعبث معها ، ويتنطع لتجاهل ضرورتها في تشخيص ما هو كائن ، واستخلاص ما هو قيد التكون ، واستنباط ما يحتمل أن يكون من ظواهر اجتماعية وسياقات تاريخية وأنماط حضارية . عندها يقع المحذور المنهجي وتحدث القطيعة المعرفية وتغلق منافذ التواصل ، بين واقع آيل إلى الحركة والانثيال والتفلت من قبضة الثبات والسكون من جهة ، وبين قدرة الوعي على مسايرة هذا الحراك ومواكبة مساراته من جهة أخرى . وهنا غالبا”ما نقع على ظاهرة اغتراب المثقف المؤدلج عن واقعه وانقطاعه عن بيئته ، إذ إن ((الايدولوجيا – كما يقرر الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير – خاطبت دائما”سلفا”الأفراد كذوات رعايا)). بمعنى أنها تستنزف طاقاته الإبداعية وتستأثر بقدراته الثقافية وتحيله إلى ما يشبه الفارس (دون كيشوت) ، حين تصدى لمحاربة طواحين الهواء بسيف من خشب . والجدير بالملاحظة إن الخصومة الناشئة بين المثقف المؤدلج من جانب وبين الواقع الموضوعي الذي ينتمي إليه من جانب ثان ، هي خصومة مفتعلة سببها إن تقييم الأول لطبيعة الثاني تقييم خاطئ ، ناجم عن قصور الوعي المتأدلج خلال استحضاره خارطة الواقع لمعرفة خواصه ، وتدني قدرته على تحليل عناصره ، وتشوش رؤيته للاحاطة بمكوناته ، وفشل سعيه لتصنيف علاقاته . وعليه كلما أمعن الوعي المتأدلج حيال تمسكه بواحدية تصوره وتفرد مقاييسه ، كلما أسرف ، بالمقابل ، الواقع في غموض بناه وتعقيد أنساقه واستعصاء قوانينه ، وبالتالي كلما تخلف الوعي عن مجاراة الواقع في حراكه والانفتاح على تطوره ، كلما انكفأ صوب الأوهام وتقهقر نحو السفسطة .