في العهد السابق، تعلمنا، بل قل ان شئت تربينا ، على وجود خطوط حمر، لا نتعداها في عملنا الصحفي، مخافة الوقوع بمالا يحمد عقباه، لذلك كان في داخل كل واحد منا اكثر من حارس بوابة، واكثر من شرطي، الى حد اننا كنا نلف وندور للتعبير عن معنى ما، خشية من تفسير”اعمى” يعرضنا الى عقوبات رادعة ومهينة في الوقت نفسه.
ومع كل حالة التشديد التي كانت تحيط بـ”الكلمة” ، كنا نكتب، وننتقد، سواء بشكل مباشر احيانا، او بإسلوب التورية والمراوغة ، للتأمين على النفس، ولعل من يراجع صحف تلك المرحلة يجد الكثير من الكتابات الجريئة،مثلما يجد الكثير من العقوبات التي لحقت بصحفيين شجعان، كتبوا بلا تردد ولا خوف، متجاوزين بعض الخطوط الحمر، ايمانا منهم بمسؤولية الكلمة، او ربما حالة من حالات التجلي على قاعدة “حمه حمودي” ، التي يغيب عنها حارس البوابة او ينام.
وجاء التغيير ، وتصور الصحفي انه سيكتب بلا خطوط بعد اليوم ، لا حمر ولا زرق، وما درى ان المرحلة الجديدة ستخضع لقوانين “خضر” هذه المرة ، تبعا للمنطقة الخضراء المحصنة ، الى حد وصلت حالات المنع الى حظر مسلسلات تأريخية.
المهم ان الكثير من الصحفيين تصوروا انه لم يعد هناك مكانا لذاك الشرطي الذي تربى في داخل النفس، او ذاك الحارس الذي يمنع هذه الكلمة، ويشطب تلك من دون رقيب خارجي، لكن ومع كثرة الصحف والفضائيات ، كثر وزاد حراس البوابة، داخل الصحفي وخارجه، حتى لم يعد يعرف حدودا لتلك الخطوط الحمر التي ينبغي الا يتجاوزها، واصبح العراق اخطر مكان لعمل الصحفي، بعد ان تحولت مهنة البحث عن المتاعب ، الى مهنة تعرض صاحبها الى القتل في أية لحظة، والتصفية بشتى الوسائل، سواء تحت غطاء قانوني ، او غير قانوني، واخذت احكام النشر تقصم ظهور شخوص ومؤسسات بذريعة التشهير او التحريض.
نعم، ربما لا تجد صحفيا معتقلا على ذمة قضية نشر، لكن بالتأكيد هناك تهما أخرى يمكن ان تصاغ وترتب الى حد الاعتراف بها، ليقتص من ذاك الصحفي ، او تقلم “اظفاره” كما يقال.
وبرغم العنوان العريض لحرية الرأي والتعبير الذي تبناه نظامنا السياسي ، فإن ممارسات الردع التي يتعرض اليها الصحفي، سواء بالقانون العام او القوانين الخاصة، التي باتت تفرض هيمنتها على المشهد العراقي، دفعته الى التنازل عن الكثير من خصوصيته، حتى وصل به الأمر الى أن يتنازل عن اسمه، ويكتب بأسماء مستعارة ، يحتاط بها، خوفا من عقوبة تكتم انفاسه.
وتسللت حالة الخوف هذه، الى مسؤولين ايضا، حتى بتنا نقرأ تصريحات كثيرة، يرفض فيها المسؤول ، الكشف عن اسمه، ومع ان هذا الحق قد كفلته صاحبة الجلالة لمصادرها، لكن في حدود معينة، لكن ان تصبح ظاهرة في “الخبر”، فيعني ذلك ان هناك مؤشرا سلبيا لواقع الحريات في البلاد ، خصوصا عندما يصل بالمسؤول الى ان يطلب عدم ذكر اسمه ازاء تصريح يدلي به، مثلما اصبحت “عادة” لدى بعضهم التراجع والنفي عما صرح، سواء بعبارة “أسيئ فهمه” او “لم يقله” ، وعلى الصحفي ان ينشر خبر التكذيب والنفي، لدواعي السلامة الشخصية.
ولعل، آخر صيحات حرية التعبير تلك التي طالت بعض المرشحين، واصبحت عقوبة الاستبعاد رادعا لمن تصور ان حق النقد ومحاربة الفساد مكفول ، وان الحصانة يمكن ان توفر له حرية التعبير، وفاته ان وراءه ملفات ساخنة، تحضر في مطابخ خاصة لقطع الطريق امامه للوصول الى البرلمان مرة أخرى، ناهيك عما ينتظره من ملاحقات قد تلقي به في غياهب السجون بعد اسقاط الحصانة عنه.
ولا ندري كيف سيعمل نواب الدورة المقبلة، وماذا سيقولون ، بعد ان يروا زملاء الامس خلف القضبان؟.
وان كنا ندعي التمسك بحرية الرأي والتعبير، ونضع انفسنا في خانة الدول الديمقراطية ، فعلينا اولا ان نجتث تلك القوانين التي لا تزال فاعلة، برغم اجتثاث اصحابها، كما علينا ان لا نفكر بإعادة منهجية التوجيه المركزي لما يقال ويكتب، وان لا نسمح بوضع خطوط حمر امام “صاحبة الجلالة”، ازاء كل من يضطلع بمهمة عامة، وهذا يذكرني بحادثة وقعت في عشرينات القرن الماضي، الذي ينبغي ان يكون اقل ديمقراطية من الآن، واشد عقوبة على اصحاب الكلمة الحرة، لكن كما يبدو اننا نمشي بعكس التيار، ونرجع الى الوراء ، فيما يتقدم الآخرون في مضمار الحريات ، وحتى لا اطيل عليكم ، اسوق اليكم هذه القصة.
في عام 1924، كتب رئيس تحرير جريدة السياسة المصرية محمد حسين هيكل، وليس “حسنين” حتى لا يدعي مدع انني اخطأت، سلسلة مقالات هاجم فيها رئيس وزراء مصر في حينها سعد زغلول، متهما إياه بالنصب والشعوذة، ووصفه بالدجال والأفاق، وانه خان ثقة الشعب، وباع مصر للانكليز، واعتقد انه لو قال احدنا، واحدة منها اليوم على مسؤول من هذا النوع، لضاع اثره في الحال، والسيطرت عليه “جنجلوتية” طويلة من لوائح الاتهام لا يخرج منها سالما معافى ابداً.
المهم، ان انصار زغلول ، وما اكثرهم في ذلك اليوم، تصوروا انه سيغلق الصحيفة، وسيعلق المشنقة للصحفي الذي اتهمه بالخيانة العظمى، ولو فعل “زغلول” ذلك لما إعترض عليه الشعب، بل لقبلوا حكمه، لأنهم كانوا يحبونه، ويعتبرونه رمزهم في مقاومة الاحتلال.
لكن، زغلول، لم يحرك قوات خاصة تابعة لمكتبه، ولم يرسل جيش وشرطة، وقوات رديفة غير رسمية، الى هيكل، ليعرّفه مقامه وما ارتكبه من جرم مشهود، وانما اتخذ اجراء في حدود القانون الذي يساويه بأي مواطن ، حيث قدم بلاغا الى النائب العام ضد “هيكل”.
وسارت القضية من دون تدخلات وضغوطات حكومية، حتى وصلت الى محكمة الجنايات، تحت عنوان إهانة رئيس الوزراء.
ونظرت المحكمة في القضية ، وجاء هيكل بنفسه، حيث لم يعتقل قبلها ، ولم يتعرض للتعذيب للاعتراف عن الجهات التي دفعته للكتابة ضد رئيس مجلس الوزراء، كما لم يشكك في وطنيته، ولم يخضع لنظرية المؤامرة التي يتهم فيها الخصوم باتباعهم اجندات خارجية، وبعد اطلاع القاضي احمد طلعت باشا على حيثيات القضية، والاستماع الى اقوال اطراف الدعوى ، اصدر حكمه التالي:”ما دام (سعد زغلول) تعرض للعمل العام، فيجب ان يتحمل النقد، وان من حق الصحفي ان يهاجم الحاكم ويقول انه نصاب ومشعوذ ودجال وأفاق وخائن وباع مصر للانجليز، وان هذا نقد مباح للرجال العموميين”.
بدوره ، احترم (زغلول) حكم القضاء، ولم يلاحق القاضي ولا مستشاريه الذين اصدروا الحكم، كما لم يطلب من البرلمان ان يصدر قانونا يحمي فيه رئيس الوزراء وزعيم الأمة في حينها من النقد المباح وغير المباح.
صدق من قال بعد ذلك ان الحكم الملكي كان استبداديا ورجعيا!!.
ترى ما احوجنا الى ان نصوغ من هذا الحكم نصا قانونيا نلحقه بقانون الصحافة العراقية النافذ، لكن ارجوكم لا تقولوا انني صاحب هذا الاقتراح، حتى “لا يودون جلدي للدباغ”، و”خليني يم الحايط احسن”.