24 نوفمبر، 2024 3:17 ص
Search
Close this search box.

خطورة انصاف الساسة وحمقى القادة على العملية السياسية والقواعد الشعبية

خطورة انصاف الساسة وحمقى القادة على العملية السياسية والقواعد الشعبية

يعتبر الحديث المنسوب للنبي محمد (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ))  من الوثائق السياسية القديمة والتي توضح للحاكم (( الامام او الخليفة ) فما دونه مسؤولياتهم الاخلاقية تجاه ما انيط بهم من مهام ؛ ومما جاء عنه ايضا : (( إني مسؤول وأنكم مسؤولون  )) وقد ورد عن حكيم العراق الامام علي ما يؤكد ذلك : (( … أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون، فإن الله تعالى يقول :* (كل نفس بما كسبت رهينة) * ويقول: * (ويحذركم الله نفسه وإليه المصير) * ويقول: * (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) * … ؛ وعنه ايضا :  اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله ولا تعصوه … )) ولخطورة المناصب العامة كالقضاء والافتاء فضلا عن تبوء الحكم والسلطة ؛ كان الفقهاء الورعين ورجال الدين الاخلاقيين , يهربون منها هروبهم من الاسد , وقد نقل عن مالك بن أنس قوله ” إن الخصال التي لا يصلح القضاء إلا القضاء بها لا أراها تجتمع اليوم في واحد ” ؛  ولذلك كان الفقهاء من أهل التقوى والعلم كثيراً ما يستنكفون عن تولي مهمة القضاء ، لما يشعرون به من الخشية في ألا يحسنوا تدابير شؤونه بما يتناسب مع مقتضيات الشريعة وموجباتها ، وكي يتجنبوا تالياً خطر الوقوع في الخطأ ، حيث الخطأ عظيم إذا ما صدر عن هذا الموقع الحساس ؛و لقد فر الكثيرون من الفضلاء الورعين من القضاء عندما دعوا إلى توليه ، ومنهم الإمام الشهير والفقيه القدير أبو حنيفة ( النعمان بن ثابت ) النبطي العراقي  ، اذ دعاه الوالي الاموي عمر بن هبيرة لتولي القضاء ، فأبى ؛ فحبسه وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد في إبائه ، إلى أن تركه … ؛ وكان عبدالله بن فروخ الفارسي ، فقيه القيروان في وقته ، لا يرغب في القضاء ، وكان يقول : ” قلت لأبي حنيفة : ما منعك أن تلي القضاء ؟ فقال لي : يا فروخ ، القضاة ثلاثة : رجل يحسن العوم ، فأخذ البحر طولاً ، فما عساه أن يعوم ، يوشك أن يكل فيغرق . ورجل لا بأس بعومه ، عام يسيراً فغرق . ورجل لا يحسن العوم ، ألقى بنفسه في الماء ، فغرق من ساعته ” ؛ هكذا كان الفقهاء ورجال الدين من أهل التقوى يتخوفون من تولى القضاء , وكانوا – إذا ما تولوه – يحترزون إلى أبعد حدود الاحتراز ، فيما يتعلق بسلوكهم وتصرفاتهم ، حتى أن الكثير منهم كانوا يتخلون عما كان لهم قبل القضاء من حرية التمتع بمباهج الحياة ، يتخلون عنه ليذهبوا مذهب التقشف في العيش ؛ كأنما القاضي أراد بذلك أن يقدم مثالاً للاستقامة في السلوك والتقوى والعلم.

اذ كان الملتزمون دينيا  في السابق يخافون الله في عباده , ويتحرزون من المهام العامة والقضاء الذين يفصل بين الحق والباطل ويعطي كل ذي حق حقه , ويهربون من الافتاء لاسيما اذا تعلق الامر بالفروج والاعراض والدماء والارزاق , ولا يرون في انفسهم الكفاءة والحلم وسعة الصدر والعلم والدراية والمعرفة والذكاء والفطنة والحكمة التي تسير لهم النجاح في مهامهم ؛ على الرغم من توفر بعض او كل الصفات فيهم ؛ الا انهم يفعلون ذلك من باب التواضع او مبالغة بالخشية من الله ؛ مخافة الزلل او الخطأ بحق الناس الابرياء .

بينما نشاهد اليوم وبأم العين تهافت رجال الدين المرتزقة والدجالين والحمقى والسذج والمتعصبين والمرضى والمعقدين على المناصب الدنيوية والمواقع والمقامات الدينية , بل ان البعض منهم اصبح كالدمية بيد اصحاب النفوذ والمال والسلطة ؛ كل يوم هو في حال مختلف , مثله مثل بائعات الهوى , يركض خلف من يدفع اكثر كالكلب المسعور , وبسبب هذه الشراذم انتشرت الفتن الدينية والطائفية , واريقت الدماء وقطعت الرؤوس , وترملت النساء , وفقد الاطفال ابائهم , ودمرت المدن والقرى , وانتشرت التفجيرات والمفخخات والعمليات الارهابية التي حرقت الاخضر واليابس ؛ وتراجعت البلاد وفي مختلف الاصعدة والمجالات ؛ مما دفع الناس الى الاستهزاء برجال الدين وبغض الفقهاء بل والخروج من ملة الاسلام , والارتماء بأحضان اصحاب الدعوات المشبوهة والاجندات الخارجية ؛ والعجيب ان البعض من هؤلاء لم يكتف بخراب الدين وتعكير صفو المجتمع وتعريض السلم الاهلي والامن المجتمعي للخطر , بل حشر انفه في السياسة وهو لا يفقه منها شيئا , وصير نفسه ناطقا باسم الشعب والجماعة والمكون والقومية … الخ ؛ اذ لم يكتف بخراب الدين حتى الحق الدنيا بالدين , وذلك هو الخسران المبين , اذ خسر نفسه و الحق افدح الاضرار بأبناء ديانته وطائفته فضلا عن تشويه سمعة الدين والمذهب وتنفير الناس منهما ؛ لذلك شبه البعض غلطة الفقيه وزلة رجل الدين بانكسار السفينة ؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير , وكل الايات القرانية والروايات الدينية تحذر من تبوء امثال هؤلاء للمناصب والمقامات الدينية والدنيوية , اذ جاء في بعضها : (( … آفة العلماء حب الرئاسة … ؛ إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك … ؛ من طلب الرئاسة هلك … ؛ من طلب الرئاسة بغير حق حرم الطاعة له بحق … ؛ … لا يسود سفيه … )) فأن كان السياسي الفاشل يخاف من عار التاريخ ووخزة الضمير وغضب الجماهير ؛ فالمفروض برجل الدين السياسي الفاشل ان يخاف من الامور المذكورة انفا بالإضافة الى خشيته من الله وعقابه ؛ علما ان امثال هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين للقيادة ، قد يضيّعون مكتسبات الأمة وحقوق الطائفة ويهدرون طاقاتها سواء كانوا في السلطة أم خارجها.

فالويل كل الويل لامة او طائفة او جماعة او بلد ؛ يتحكم فيه انصاف الساسة والقادة الحمقى والسذج والبسطاء ؛ من الذين هم  يخربون ويدمرون ويحرقون , ويحسبون انهم يحسنون صنعا ؛ فهؤلاء لا يعرفون معنى السياسة ولا يتقنون العمل وفقا لسياسة الامر الواقع وفن الممكن , فضلا عن انعدام خبرتهم السياسية وثقافتهم السياسية النظرية , اذ تسيرهم الشعارات المستهلكة والرؤى العتيقة والأيدولوجيات المتكلسة والانفعالات العاطفية وردود الفعل الانية والشعبوية ؛ وامثال هؤلاء ابعد ما يكونوا عن الابداع السياسي والحنكة السياسية ومعالجة الاخطاء المزمنة وتغيير المعادلات السياسية الظالمة وقلب الواقع بما يعود بالنفع على الوطن والمواطن … , اذ إن جوهر الفعل السياسي هو العمل على تحقيق التغيير الايجابي ، فمن الواجب على السياسي الناجح عدم الارتهان للواقع وإكراهاته وتوازناته بصورة مطلقة ، وعدم القبول بتعديل الأهداف والأولويات للتأقلم معه ؛ او القبول بأنصاف الحلول بصورة دائمة ؛ بل العمل على تغيير قواعد اللعبة ؛ فالسياسي العظيم ذلك الشخص الذي يتحدى الواقع البائس والشروط المجحفة والاتفاقيات الظالمة والمواثيق الدولية الباطلة , ويحرص على تغيير ما سبق والتحول نحو الافضل , وبما يحقق مصالح العباد والبلاد , ويرجع الحقوق المسلوبة للامة ؛ والعمل على تحويل ما هو ضروري إلى ممكن … ؛  كما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في خطاب أثناء حملته الانتخابية سنة 1995: “السياسة ليست مجرد فن الممكن ؛ هناك فترات يصبح فيها الفن هو جعل ما هو ضروري ممكنًا”؛ بينما ترى الساسة الفاشلين والقادة الخونة يتنازلون في كل يوم عن الحقوق الوطنية ويفرطون بالأراضي والثروات الحكومية والمقدرات المحلية , وخلال نظرة خاطفة ومراجعة بسيطة لتاريخ العراق السياسي الحديث – من عام 1920 الى الان – ؛ تعرف حجم الكارثة التي حلت بالعراق والاغلبية والامة العراقية جراء تصرفات الساسة وعمالة وخيانة القادة .

والشعوب  الواعية والجماعات الحية لا تقبل ابدا برئاسة الحمقى والسذج والبسطاء ولا بزعامة العملاء والخونة والبلهاء والسفهاء , لانهم يعلمون علم اليقين ان ساد هؤلاء , فسدت البلاد و ضاع مستقبل العباد , لذا قيل : “إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر السّاعة”… ؛ وصدق الشاعر عندما قال :

ومن يكن الغراب له دليلاً *** يمر به على جثث الكلاب

إذا كان الغراب دليل قوم ***سيهديهم إلى دار الخرابِ

وماذا ينتظر المرء من زعامة السفيه وقيادة المتعصب المتحجر ؛ غير الخراب والدمار ؛ فحصاد قيادة انصاف الساسة وزعامة بلهاء وسفهاء القادة  لا بدّ أن يكون مرّاً وحنظلا ؛ فعندما يترأس هؤلاء لا تسأل عن اسباب انهيار الاقتصاد وانتشار البطالة وخراب البنى التحتية والصحية وتدهور الاوضاع العامة وتفشي الفساد والامراض والظواهر السلبية والفوضى والاضطرابات والازمات والانتكاسات ؛ اذ ان الكتاب يعرف من عنوانه , والنتائج تتبع أخس المقدمات كما يقولون ؛ فأن ارادت الامة او الجماعة التغيير الايجابي  فعليها البدء بتغيير الساسة واستبدال القادة , فمن الواضح ان هيمنة الحمقى والسذج والاشخاص العاديين على مقاليد الأمور ؛ ينتج مشاكل لا عد لها ولا حصر ؛ فعندما تمسك عصابة صغيرة بالسلطة ؛ فإنّها تخلق اقتصاد مافيا ودولة مافيا , او عندما يتولى الحكم قتلة طائفيون او سفلة مجرمون فانهم سيحولون الوطن الى سجن كبير ومسلخ بشري كما حدث ابان حكم التكارتة والبعثيين ؛ فالنتيجة مرتبطة بالمقدمة ارتباط العلة بالمعلول ؛ وقد قالها ثعلب السياسة الماكر ونستون تشرشل : ((تصنعون من الحمقى قادة ، ثم تسألون من أين أتى الخراب؟!)) .

واعلم ان من يرضى بهدر كرامتك او اهانتك او بغمط حقوقك والتفريط بمستقبلك وحاضرك ؛ لا يستحق ان يكون لك قائدا او زعيما ؛ فمن لا يعرف حقك وقدرك لا يستحق المودة فضلا عن الزعامة والقيادة .

أحدث المقالات

أحدث المقالات