يعتبر الحديث المنسوب للنبي محمد (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) من الوثائق السياسية القديمة والتي توضح للحاكم (( الامام او الخليفة ) فما دونه مسؤولياتهم الاخلاقية تجاه ما انيط بهم من مهام ؛ ومما جاء عنه ايضا : (( إني مسؤول وأنكم مسؤولون )) وقد ورد عن حكيم العراق الامام علي ما يؤكد ذلك : (( … أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون وإليه تصيرون، فإن الله تعالى يقول :* (كل نفس بما كسبت رهينة) * ويقول: * (ويحذركم الله نفسه وإليه المصير) * ويقول: * (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) * … ؛ وعنه ايضا : اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله ولا تعصوه … )) ولخطورة المناصب العامة كالقضاء والافتاء فضلا عن تبوء الحكم والسلطة ؛ كان الفقهاء الورعين ورجال الدين الاخلاقيين , يهربون منها هروبهم من الاسد , وقد نقل عن مالك بن أنس قوله ” إن الخصال التي لا يصلح القضاء إلا القضاء بها لا أراها تجتمع اليوم في واحد ” ؛ ولذلك كان الفقهاء من أهل التقوى والعلم كثيراً ما يستنكفون عن تولي مهمة القضاء ، لما يشعرون به من الخشية في ألا يحسنوا تدابير شؤونه بما يتناسب مع مقتضيات الشريعة وموجباتها ، وكي يتجنبوا تالياً خطر الوقوع في الخطأ ، حيث الخطأ عظيم إذا ما صدر عن هذا الموقع الحساس ؛و لقد فر الكثيرون من الفضلاء الورعين من القضاء عندما دعوا إلى توليه ، ومنهم الإمام الشهير والفقيه القدير أبو حنيفة ( النعمان بن ثابت ) النبطي العراقي ، اذ دعاه الوالي الاموي عمر بن هبيرة لتولي القضاء ، فأبى ؛ فحبسه وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد في إبائه ، إلى أن تركه … ؛ وكان عبدالله بن فروخ الفارسي ، فقيه القيروان في وقته ، لا يرغب في القضاء ، وكان يقول : ” قلت لأبي حنيفة : ما منعك أن تلي القضاء ؟ فقال لي : يا فروخ ، القضاة ثلاثة : رجل يحسن العوم ، فأخذ البحر طولاً ، فما عساه أن يعوم ، يوشك أن يكل فيغرق . ورجل لا بأس بعومه ، عام يسيراً فغرق . ورجل لا يحسن العوم ، ألقى بنفسه في الماء ، فغرق من ساعته ” ؛ هكذا كان الفقهاء ورجال الدين من أهل التقوى يتخوفون من تولى القضاء , وكانوا – إذا ما تولوه – يحترزون إلى أبعد حدود الاحتراز ، فيما يتعلق بسلوكهم وتصرفاتهم ، حتى أن الكثير منهم كانوا يتخلون عما كان لهم قبل القضاء من حرية التمتع بمباهج الحياة ، يتخلون عنه ليذهبوا مذهب التقشف في العيش ؛ كأنما القاضي أراد بذلك أن يقدم مثالاً للاستقامة في السلوك والتقوى والعلم.
اذ كان الملتزمون دينيا في السابق يخافون الله في عباده , ويتحرزون من المهام العامة والقضاء الذين يفصل بين الحق والباطل ويعطي كل ذي حق حقه , ويهربون من الافتاء لاسيما اذا تعلق الامر بالفروج والاعراض والدماء والارزاق , ولا يرون في انفسهم الكفاءة والحلم وسعة الصدر والعلم والدراية والمعرفة والذكاء والفطنة والحكمة التي تسير لهم النجاح في مهامهم ؛ على الرغم من توفر بعض او كل الصفات فيهم ؛ الا انهم يفعلون ذلك من باب التواضع او مبالغة بالخشية من الله ؛ مخافة الزلل او الخطأ بحق الناس الابرياء .
بينما نشاهد اليوم وبأم العين تهافت رجال الدين المرتزقة والدجالين والحمقى والسذج والمتعصبين والمرضى والمعقدين على المناصب الدنيوية والمواقع والمقامات الدينية , بل ان البعض منهم اصبح كالدمية بيد اصحاب النفوذ والمال والسلطة ؛ كل يوم هو في حال مختلف , مثله مثل بائعات الهوى , يركض خلف من يدفع اكثر كالكلب المسعور , وبسبب هذه الشراذم انتشرت الفتن الدينية والطائفية , واريقت الدماء وقطعت الرؤوس , وترملت النساء , وفقد الاطفال ابائهم , ودمرت المدن والقرى , وانتشرت التفجيرات والمفخخات والعمليات الارهابية التي حرقت الاخضر واليابس ؛ وتراجعت البلاد وفي مختلف الاصعدة والمجالات ؛ مما دفع الناس الى الاستهزاء برجال الدين وبغض الفقهاء بل والخروج من ملة الاسلام , والارتماء بأحضان اصحاب الدعوات المشبوهة والاجندات الخارجية ؛ والعجيب ان البعض من هؤلاء لم يكتف بخراب الدين وتعكير صفو المجتمع وتعريض السلم الاهلي والامن المجتمعي للخطر , بل حشر انفه في السياسة وهو لا يفقه منها شيئا , وصير نفسه ناطقا باسم الشعب والجماعة والمكون والقومية … الخ ؛ اذ لم يكتف بخراب الدين حتى الحق الدنيا بالدين , وذلك هو الخسران المبين , اذ خسر نفسه و الحق افدح الاضرار بأبناء ديانته وطائفته فضلا عن تشويه سمعة الدين والمذهب وتنفير الناس منهما ؛ لذلك شبه البعض غلطة الفقيه وزلة رجل الدين بانكسار السفينة ؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير , وكل الايات القرانية والروايات الدينية تحذر من تبوء امثال هؤلاء للمناصب والمقامات الدينية والدنيوية , اذ جاء في بعضها : (( … آفة العلماء حب الرئاسة … ؛ إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك … ؛ من طلب الرئاسة هلك … ؛ من طلب الرئاسة بغير حق حرم الطاعة له بحق … ؛ … لا يسود سفيه … )) فأن كان السياسي الفاشل يخاف من عار التاريخ ووخزة الضمير وغضب الجماهير ؛ فالمفروض برجل الدين السياسي الفاشل ان يخاف من الامور المذكورة انفا بالإضافة الى خشيته من الله وعقابه ؛ علما ان امثال هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين للقيادة ، قد يضيّعون مكتسبات الأمة وحقوق الطائفة ويهدرون طاقاتها سواء كانوا في السلطة أم خارجها.
فالويل كل الويل لامة او طائفة او جماعة او بلد ؛ يتحكم فيه انصاف الساسة والقادة الحمقى والسذج والبسطاء ؛ من الذين هم يخربون ويدمرون ويحرقون , ويحسبون انهم يحسنون صنعا ؛ فهؤلاء لا يعرفون معنى السياسة ولا يتقنون العمل وفقا لسياسة الامر الواقع وفن الممكن , فضلا عن انعدام خبرتهم السياسية وثقافتهم السياسية النظرية , اذ تسيرهم الشعارات المستهلكة والرؤى العتيقة والأيدولوجيات المتكلسة والانفعالات العاطفية وردود الفعل الانية والشعبوية ؛ وامثال هؤلاء ابعد ما يكونوا عن الابداع السياسي والحنكة السياسية ومعالجة الاخطاء المزمنة وتغيير المعادلات السياسية الظالمة وقلب الواقع بما يعود بالنفع على الوطن والمواطن … , اذ إن جوهر الفعل السياسي هو العمل على تحقيق التغيير الايجابي ، فمن الواجب على السياسي الناجح عدم الارتهان للواقع وإكراهاته وتوازناته بصورة مطلقة ، وعدم القبول بتعديل الأهداف والأولويات للتأقلم معه ؛ او القبول بأنصاف الحلول بصورة دائمة ؛ بل العمل على تغيير قواعد اللعبة ؛ فالسياسي العظيم ذلك الشخص الذي يتحدى الواقع البائس والشروط المجحفة والاتفاقيات الظالمة والمواثيق الدولية الباطلة , ويحرص على تغيير ما سبق والتحول نحو الافضل , وبما يحقق مصالح العباد والبلاد , ويرجع الحقوق المسلوبة للامة ؛ والعمل على تحويل ما هو ضروري إلى ممكن … ؛ كما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في خطاب أثناء حملته الانتخابية سنة 1995: “السياسة ليست مجرد فن الممكن ؛ هناك فترات يصبح فيها الفن هو جعل ما هو ضروري ممكنًا”؛ بينما ترى الساسة الفاشلين والقادة الخونة يتنازلون في كل يوم عن الحقوق الوطنية ويفرطون بالأراضي والثروات الحكومية والمقدرات المحلية , وخلال نظرة خاطفة ومراجعة بسيطة لتاريخ العراق السياسي الحديث – من عام 1920 الى الان – ؛ تعرف حجم الكارثة التي حلت بالعراق والاغلبية والامة العراقية جراء تصرفات الساسة وعمالة وخيانة القادة .
والشعوب الواعية والجماعات الحية لا تقبل ابدا برئاسة الحمقى والسذج والبسطاء ولا بزعامة العملاء والخونة والبلهاء والسفهاء , لانهم يعلمون علم اليقين ان ساد هؤلاء , فسدت البلاد و ضاع مستقبل العباد , لذا قيل : “إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر السّاعة”… ؛ وصدق الشاعر عندما قال :
ومن يكن الغراب له دليلاً *** يمر به على جثث الكلاب
إذا كان الغراب دليل قوم ***سيهديهم إلى دار الخرابِ
وماذا ينتظر المرء من زعامة السفيه وقيادة المتعصب المتحجر ؛ غير الخراب والدمار ؛ فحصاد قيادة انصاف الساسة وزعامة بلهاء وسفهاء القادة لا بدّ أن يكون مرّاً وحنظلا ؛ فعندما يترأس هؤلاء لا تسأل عن اسباب انهيار الاقتصاد وانتشار البطالة وخراب البنى التحتية والصحية وتدهور الاوضاع العامة وتفشي الفساد والامراض والظواهر السلبية والفوضى والاضطرابات والازمات والانتكاسات ؛ اذ ان الكتاب يعرف من عنوانه , والنتائج تتبع أخس المقدمات كما يقولون ؛ فأن ارادت الامة او الجماعة التغيير الايجابي فعليها البدء بتغيير الساسة واستبدال القادة , فمن الواضح ان هيمنة الحمقى والسذج والاشخاص العاديين على مقاليد الأمور ؛ ينتج مشاكل لا عد لها ولا حصر ؛ فعندما تمسك عصابة صغيرة بالسلطة ؛ فإنّها تخلق اقتصاد مافيا ودولة مافيا , او عندما يتولى الحكم قتلة طائفيون او سفلة مجرمون فانهم سيحولون الوطن الى سجن كبير ومسلخ بشري كما حدث ابان حكم التكارتة والبعثيين ؛ فالنتيجة مرتبطة بالمقدمة ارتباط العلة بالمعلول ؛ وقد قالها ثعلب السياسة الماكر ونستون تشرشل : ((تصنعون من الحمقى قادة ، ثم تسألون من أين أتى الخراب؟!)) .
واعلم ان من يرضى بهدر كرامتك او اهانتك او بغمط حقوقك والتفريط بمستقبلك وحاضرك ؛ لا يستحق ان يكون لك قائدا او زعيما ؛ فمن لا يعرف حقك وقدرك لا يستحق المودة فضلا عن الزعامة والقيادة .