العدو في الحروب بين الجيوش المتقابلة بائن أمامك بتحشداته وخطوط دفاعاته الواضحة للعيان… إلاّ أن ذلك قد يتعاكس تماماً في قتال الشوارع والمناطق المبنية والذي يعتبر من أنكى القتالات وأعظمها ضراوة ودماء ودماراً للمتلكات وتضحيات في النساء والأطفال، لذلك فإن القادة السياسيين الواعين والحريصين على أرواح شعوبهم وقادة الجيوش المحترفة يحاولون قدر المستطاع النأي عن الخوض في متاهات هذا النوع الضروس من القتال كي لا يعرضوا جنودهم والمدنيين إلى مخاطره ويستجلبون أحقاداً وغضائن تفرض أوزارها حتى في المستقبل البعيد، فالإستطلاعات الجوية والأرضية والفضائية والألكترونية مهما بلغت مستوياتها من الرقي فإن الخصم المتمركز في قبو أو غرفة أو حديقة منزل أو وسط أنقاض لا يمكن تحديد موقعه والقضاء عليه إلاّ بصعوبة بالغة وبعد أن يفتح نار سلاحه ويباشر بقنص الجنود المكشوفين وحصد أرواحهم، وكلما زاد تعداد الخصوم المتمترسين تصاعدت تضحيات الجيش المتقدم وخسائره، ومهما إفتخر هذا الجيش بأمعانه في تدمير الأبنية المستحوَذ عليها بأسلحته الثقيلة البرية والجوية فإن فرص المدافعين بين الأنقاض تتعاظم في الإختباء والإيذاء… والذي سردناه يخص شارعاً واحداً أو حياً سكنياً صغيراً ربما يستغرق ((تطهيره)) أياماً عديدة إذا كان الخصم عنيداً وصامداً، شريطة أن يُزَجّ في أواره وحدات عسكرية مدربة خصيصاً لقتال الشوارع والمباني ومجهزة بمعدات ووسائل راقية لهذا الغرض، فما بالك في ((تطهير)) مدينة متسعة وعامرة ذات كثافة سكانية عالية.
لقد أثبتت وقائع التأريخ القديم والحديث والمعاصر أن ما يطلق عليه ضمن المصطلحات العسكرية الرسمية تسمية (حروب العصابات) أو (عمليات الأمن الداخلي) لا يمكن القضاء عليها بزج جيوش مهما كانت مدججة بأسلحة ثقيلة وطائرات ومتمتعة بقابلية حركة ممتازة، فالمسلحون المناوئون يتبعون أسلوب الإختباء والصبر والصمود والقتال الشرس و”الكر والفر” ولا يعتبرون الإنسحاب أو ترك ساحة القتال هزيمة أو شيئاً مُعيباً، فحالما يستشعرون بضعف موقفهم فإنهم يتملّصون من المعركة هذه ليظهروا بعد ساعات أو ربما أيام أو أسابيع في موقع آخر أو مدينة أخرى، فيبقى الصراع سجالاً ويكلف الدولة في ميزانيتها وأرواح جنودها وأفراد شعبها أثماناً باهظة، فلا فرصة أمام أية حكومة سوى إتباع حل من ثلاثة حلول لا رابع لها، أحلاها ليس مرّاً فحسب، بل أمرّ من العلقم والزرنيخ:-
* أول الحلول أن تمتلك الدولة قوات مسلحة جبارة وأسلحة فتاكة تدعمها معلومات دقيقة وممحصة، تستطيع بها إمحاء جميع حملة السلاح أزاءها عن بكرة أبيهم وإرضاخ من يسلم منهم على الإستسلام دون قيد وشرط، مع قوات مسلحة نظامية ترعب دول الجوار والمنطقة وتتجنب مواجهتها فتجبرها على الكفّ عن دعم أولئك الخارجين على القانون.
* وثانيها في تهيئة مخابرات كفؤة تعمل خارج الوطن تدعمها إستخبارات ومباحث مقتدرة تعمل في الداخل وتستطيع الوصول بشتى الوسائل إلى مكامن القيادات
العليا المناوئة بغية القضاء على قيادييها وشخوصها، أو إبتغاء فتح حوار يستهدف ترهيبهم أو التفاهم معهم وترغيبهم لإنهاء الصراع.
* وثالثها في فتح حوار دبلوماسي جدي مع الدول والينابيع التي تموّل هؤلاء المناوئين وتسلّحهم وتجهزهم وتدعمهم سراً أو علانية.
والدلائل على ما نقول لا تعد ولا تحصى في التأريخ القريب أثناء الحرب العظمى الثانية وما بعدها، نستذكر من بينها المقاومة الفرنسية واليوغوسلافية واليونانية حيال الآلمان النازيين، ثم حربَي كوريا وفييتنام، فكاثوليك آيرلندا الشمالية، السود في جنوب أفريقيا، أكراد شمالي العراق وشرقي تركيا، المسلمون الشيشان، سريلانكا، الصومال، البوسنة والهرسك وكوسوفو، أفغانستان وباكستان، جنوبي السودان ودارفور، القبائل والحوثيون اليمنيون، “بوكو حرام” في نيجيريا، فالصراع الدائر منذ (3) سنوات في سورية وليبيا واليمن، و(11) سنة في العراق لغاية يومنا هذا وما زال الحبل على الجرار.
أمل العراقيين عموماً أن تكون هناك فرصة أمام الجميع لحقن الدماء والتخطيط المتقن للتوصل إلى ما يُحمَد عقباه لتخليص كل الوطن من براثن الدماء المسالة والأجساد المتناثرة والخراب والدمار الذي يعم العراق، وإلاّ فالإرهاصات لم تضع أوزارها بل ظلت متنقلة من وادي حوران إلى الرمادي والفلوجة والكرمة والصقلاوية، ثم سامراء والموصل، حمرين وسليمان بك وطوز خورماتو، ثم نحو المقدادية وبهرز وبلدروز، الحضر وتلعفر، فتكريت وبيجي والشرقاط وسواها وتغدو أشبه بكرة الثلج لتعم معظم بقاع العراق المنكوب منذ عقود من الزمن وقبل أن تقتحم أواسط بغداد وقلبها، ما دامت دولة العراق الجديد لا تبالي بمصير الشعب والوطن ومستقبله بل تفضل إستخدام القوة المسلحة المفرطة سبيلاً للقضاء على الإرهاب، وتصر على خوض حمامات من الدم ووجوب الصراع بين هذا وذاك، وتضع خطة ما بعد خطة والمحصلة تراجع في الأوضاع الأمنية إلى ما تحت الصفر.