أعتاد الناس على رص الصف واجماع الكلمة وتوحيد الرأي اذا احتدم الامر وعظمت الشدة كأيام القحط وظهور العدو (وهذا من لطف الله ورشد العقل ورد الفعل الغريزي) لكي يحفظ الانسان نفسه وماله وعرضه ودينه ، كما يدافع كل كائن حي عن بقائه حتى الوحوش فيما بينها والفرائس ، وقد أودع الله هذا الطبع في مخلوقاته ، ولايشذ عن ذلك حتى الجبان اذا حانت اللحظة، ولذا فلايجد القائد عناءا كبيرا لحشد الناس ايام الحروب والشدائد اذ انهم مستنفرون ذاتيا بدافع غريزة البقاء وحفظ ضروريات الحياة ،ولايكلفه ذلك الا الاوامر والتنظيم والقدرة على الخطابة والبيان في اقصى الحالات ..وحيث للانسان فرق كبير عن المخلوقات الاخرى ومكانة راقية خصه بها الله خالقه ، قال تعالى:
“وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”
فلابد من تميزه في كل شيء حتى في هذا الامر من اجتماع الكلمة ، حيث لايقتصر اجتماع كلمة الناس على الحرب ومجابهة العدوالاجنبي كما تفعل الوحوش والفرائس بل ان بين جنباتنا عدو وبين ظهرانينا اعداء كثر ، فالشيطان عدو: ” إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ”، والنفس عدو : “إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي” …والباطل عدو، واهل الباطل وآكلي حقوق الناس اعداء :
“وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”، …واهل البغي من ابناء جلدتنا وديننا اعداء ايضا ..
ولكن لكل عدو من هؤلاء طريقة وسبيل لصده ، ولجمه ورده ، فكما يقاتل الاجنبي بالسيف ، يقاتل الشيطان بالصلاة والركون الى حصن الله ، وتقاتل النفس بجهادها ولجمها عن المعاصي وتعويدها على ترك الشهوات..ويقاتل اهل الباطل من هاضمي حقوق الناس بعذلهم ونصحهم واظهار الغلظة معهم باجتماع الكلمة والاصرار على نزع الحق منهم حتى لايعتادوا اكل حقوق الناس .
وحيث انهم ابناء مجتمع واحد ودين واحد فلا ينصح مبادرتهم بالقوة وخلق الفتنة بين ابناء القبيلة الواحدة او العائلة او الدولة فعن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: “من حمل علينا السلاح فليس منا” ، ولكن اجتماع الكلمة واستمرار العذل والاصرار على مقاطعتهم ومناكفتهم وابداء كل اعتراض ضدهم وتاليب الناس عليهم (بالسلم ) وعزلهم اجتماعيا ليثوبوا الى رشدهم او يعودوا عن غيهم هو الطريق السليم ، فهؤلاء وحيث ان الشيطان تمكن منهم واطمعهم في الدنيا واعماهم عن انفاذ حقوق الناس الى اصحابها ، فلاترجو منهم كما ترجو من الاسوياء اهل الحق الذين قد يكونوا نسوا او اخطأوا عفوا او ظنوا خطا فيعيدهم التذكير ويهديهم التبصير ؟ .، يقول الامام النووي رحمه الله عن التعامل مع ولي الامر ماعرف عنه الصلاح وايفاء الحقوق واداء واجبه :” وتنبيههم برفق ولطف ، واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين ، وترك الخروج عليهم “..
ولكن بعض من هؤلاء جبلوا على الطمع والجشع وحب المال واكل حقوق الاخرين فلايردعهم الا اجتماع الكلمة ورص الصف ومطالبتهم بالحق كل حين وكل ساعة وفي كل مكان وعلى كل منبر حتى ينفذوا حقوق الخلق اليهم ، ولاينفع معهم التكاسل والتناسي والامهال كل حين ، فطبعهم التسويف ولا ينفذون حقا الا بالتخويف ..فكم من صاحب حق سوف حقه وضاع لتكاسله عنه ولظنه ان المطالب سيوفيه ومافعل..ورضي الله عن ابي الحسن حيث قال : “ما ترك الحقَّ عزيزٌ إلا ذلّ، ولا أخذ به ذليلٌ إلا عزّ. وما ضاع حقّ وراءه مطالب”…ولنا في مجتمعنا امثلة كثيرة منها تعويض المتضررين من الحروب والذين هدمت بيوتهم واحرقت ممتلكاتهم من عدو شرس ، وهاهم الان بين دولتهم واخوانهم الذين هضموا حقوقهم ..فلهم حق في بيت مال الدولة ..فهذه ثرواتهم التي ينتجها ابناءهم وتخرجها ارضهم ولامنة لاحد عليهم ..
وما المسؤولون الا أجراء وعاملون يؤدون للناس حقوقوهم وينظمون بينهم شؤونهم وارزاقهم ..فحبس حقوقهم هكذا وتركهم يصارعون الفقر والعيش في العراء في بلد متمكن وفضل الله عليه بكل نعمة وثروة ..من اكبر واشنع الباطل وهضم الحقوق..وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء -التي لا قرن لها- من الشاة القرناء» رواه مسلم ….ولابد لهؤلاء من رادع ووقفة واجتماع كلمة وان كانت سلمية -اذ ان الله ينهى عن الفتن بين الناس – الا انها يجب ان تكون صارمة ومستمرة ينادي بها المخولون عن المجتمع من كل جانب ..رئيس قبيلتهم وخطيب منبرهم ومعلم مدرستهم والمنظمات المدنية واهل الحكمة من الناس ..فالتكاسل عن هذا عجز والصبر عليه جبن : “فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم” ..وقد قال تعالى : “إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”
فالانسان والمسلم مطالب بالتواصي على الحق والاجتماع عليه كما هو مطالب بالصبر ولكن الصبر ليس معناه الخنوع والخضوع وعدم الأخذ بالأسباب.. فمن حق المسلم أن يطالب بحقه، بل هو متعبَّد بالأخذ بالأسباب المشروعة للوصول إلى ما يجوز له شرعا من تحسين الأوضاع، فالإعراضُ عن الأسباب قدحٌ في الشرع ونقصٌ في العقل ..كما قال أهل العلم.
وتَعدُّ ثقافة المطالبة بالحقوق احد أهم الحقوق الإنسانية التي تكفلتها الدستاتيرالمدنية ايضا والتي كلها تتضمن نصوصاً تؤكد على احترام هذا الحق وعدم المساس به، بينما يَعدّه الإسلام حق وواجب في ذات الوقت ,لهذا كانت وصيّة الامام علي للحسنين عليهم السلام جميعا: “كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً”
ولذلك فإن على كل مظلوم أن يطالب برفع الظلم عنه، وإذا كان له حق في تحسين وضعه.. أن يطالب به، ولا يتنافى ذلك مع الصبر ما لم يصاحبه التضجر والتشكي وعدم الرضى بقضاء الله تعالى وقدره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز” .
فمن الضروري بل والواجب ان يطالب الانسان بحقه ويفضح سياسة الطغاة والسلطات الظالمة، دين الاسلام يحث الانسان المسلم على حفظ كرامته والدفاع عن حقه بطريقة سليمة، بعيدا عن الكلمات والألفاظ النابية إن استطاع، كما يقول الرسول صلى الله عليه واله: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.. فقد يكون من هم دون هذا السلطان من الاجراء والمستخدمين هم من يسوفوا حقوق الناس وياكلوها باطلا وهؤلاء لابد من ردعهم بايصال الصوت والكلمة ، فاذا جاروا واصروا على الجور وهضم الحقوق فلابد له من رادع ..وقال النبي الكريم :”من أخذ أرضا بغير حق كلف ان يحمل ترابها الى المحشر”
وبعد ..فكل مسلم بل وكل فرد مطالب ان يكون عونا لأخيه في امر مطالبته بحقه ، فالحقوق بر والتكاتف عليها من التقوى ..”وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.