قامت الدنيا، وقيل أنها لم تقعد حتى ساعة كتابة هذا المقال، والسبب هو قطعة قماش، كانت قديما تحمل القيم السامية كلها، وتمثل أغلى مايملك العراقيون، إذ ترمز الى السيادة والكرامة والعرض والأرض والجلال والجمال والسناء والبهاء، كانت قطعة القماش هذه ترفع صباح كل يوم خميس في ساحات المدارس كافة، فترتقي على رؤوس الصواري شامخة، ساعتها تشرئب رقابنا كي ننظر إليها مرفرفة، بزهو وعنفوان وكبرياء، لاشيء يعانقها غير عنان السماء، لتلتقي هناك مع صوت صادح من حنجرة أحد الطلاب، يردد ما أنشده جميل صدقي الزهاوي قبل 68 عاما، يوم كانت الحكومة ملكية، وكنا ننصت خاشعين لرهبة الموقف، إذ يقول الزهاوي:
عش هكذا في علو أيها العلم
فإننا بك بعد الله نعتصم
اليوم، ونحن نطوي العام الرابع عشر من عمر حكومتنا المنتخبة، وعمر برلماننا المنتخب أيضا، واللذين من المفترض أن يصونا البلاد ورمزها، أكثر من “حكم الملوكية البائد”. بمن يعتصم ساسة البلد؟ أبالله وبعده بالعلم؟ أم بالله وحده! أم بالعلم دون الله -حاشا ذلك-!. أرى أن قادة العراق الجديد نسوا الاعتصام بالله، ونأوا عن الاعتصام بالعلم، فمطلع قصيدتك ياسيدي الزهاوي ذهب أدراج ريح ساستنا.
وأظنك ياسيدي الزهاوي كنت تستقرئ الأحداث، وتتنبأ بخواتيم الأمور، وحدسك كان بموضعه في بيتك الثاني:
إن احتقرت فإن الشعب مقتحر
أو احترمت فإن الشعب محترم
فسياسيو عام 1948 الذين عاشرتهم، غير الذين جاءوا بعد عام السعد، عام 2003، فالأخيرون وضعوا المنافع والمآرب على صاريات اهتماماتهم، ونسوا صارية العلم تتقاذفها رياح الغدر والخيانة والإهمال والتخريب، فانتكس الأخير وشمخت الأولى. ومازالوا قدما يحتقرون العلم، حتى بات رمزا لا للكرامة والسيادة، بل رمز للبلد الأكثر فسادا في العالم، والأشد فقرا بل أضل سبيلا.
أما حسن ظنك بما كنت تراه رصينا متينا، فقد انفض غزله، وانفصمت عراه وبات المواطن في واد غير وادي ساسته، مجبرا مغصوبا مسيرا، أما هم -ساسته- فقد اتخذوا لهم جناحا قصيا، وصار العلم أدنى من محال سكناهم، فغدت ألوانه سواسية في التعبير، بعد أن تساوت عندهم الأنوار والظلم، إذ لا بيض صحائفهم، ولا سود وقائعهم، ولا حمر مواضيهم، ولا خضر مرابعهم إلا خضراؤهم القابعون فيها، والمتمترسون خلفها. فأظنك سيدي الزهاوي طوبائيا أكثر مما ينبغي في قولك:
الشعب أنت وأنت الشعب منتصبا
وأنت أنت جلال الشعب والعظم
وعن العيش وسلامة الوجود، فإنك سيدي الزهاوي موهوم، فإن عاش العلم سالما عاش السياسيون وحدهم سالمين، أما الشعب الذي قصدته، فالسلامة أبعد ما تكون عنه في ظل محتكري العلم، ولافطي نفعه، وشافطي ريعه، بعد أن باعوا ما باعوه باتخاذهم إياه يافطة كتبوا عليها بدماء الشعب: (البلاد للبيع) فعاش الساسة وغُيب الشعب وماتت الآمال والهمم:
فإن تعش سالماعاشت سعادته
وإن تمت ماتت الآمال والهمم
هذا ما آلت إليه بلادك سيدي الزهاوي، فهتاف المواطن اليوم شكوى بلا جدوى، وسواء إن علا الهتاف أم لم يعل، فإنه آيل الى التبدد والضياع، وسواء أكان جميع الهتاف للعلم أم لغيره! فحصة الشعب منه صيت الفقر لا صيت الغنى:
هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه
جميعه لك فاسلم أيها العلم
ذكرتك اليوم يازهاوينا، وقد علا اللغط وارتفع اللغو في أركان البلد ودهاليز اجتماعات ساسته، بعد أن جاور علم العراق في كركوك علم إقليم كردستان. أرى أن يعيد ساستنا حساباتهم في تعاملهم مع علم العراق، وإن كانت حساباتهم قاصرة -وهي فعلا كذلك- ماعليهم إلا قراءة قصيدة الزهاوي، لعلها تعيدهم الى رشدهم، ليعوا ويعرفوا قيمة علمنا.