بداية لسنا بصدد الحذلقة حول معاني الخطاب وإظهار طبيعته ، كما لسنا بوارد التفلسف حيال أنماطه وإشهار خصائصه ، وإنما مقصدنا يتركز – في إطار هذه المقالة المتواضعة والمبتسرة – حول كل ما يقال كلاما”أو يقرأ نصا”، في سياق ظرف سياسي ملتهب وضمن نطاق مرحلة تاريخية حرجة ، مثلما هو الوضع المتفجر في العراق الآن ، عملا”بمقولة / حكمة لكل مقام مقال . والحال عن أي خطاب نتحدث هنا ، وما الغاية من هذا الحديث أصلا”، طالما إن العراقيين – بكل أقوامهم وبمختلف طوائفهم – باتوا فرسان الخطابات الراديكالية بلا منازع ؟! . ولتجنب رذائل اللف والدوران والمخاتلة نقول ؛ إن الذي حفزني لبث هذه الهواجس وطرح تلك مخاوف ، هو حديث السيد نوري المالكي مع مجموعة من القادة العسكريين والأمنيين ، أثناء زيارته الأخيرة لمدينة سامراء على خلفية أحداث الموصل وتداعياتها . فقد لفت انتباهي إن رئيس حكومتنا المبجل لم يراعي حالة المجتمع العراقي المعقد على جميع الصعد والمتأزم على كل المستويات ، كما لو أنه بركان موشك على نفث حممه المدمرة من شدة الغليان . ليس هذا فقط ، بل انه لم يأخذ بنظر الاعتبار استشراء مظاهر التوتر النفسي والاحتقان الطائفي والتحسس القومي ، التي أخذت تدفع بالطوائف والأقوام كافة باتجاه الاستقطابات على أساس الأصل / العرق ، والتخندقات على أساس الدين / المذهب ، والتمترس على أساس الثقافة / الهوية . وذلك جراء ما يحصل على أرض الواقع من تجاوزات مفتعلة واستفزازات مقصودة . إذ بدلا”من أن يكون حذرا”جدا”في اختيار ألفاظه حين بخطب ، ويقظا”جدا”في انتقاء كلماته حين يحاور ، بحيث لا تؤخذ دلالاتها التحفيزية مأخذ الإيحاءات السلبية التي تثيرها لدى السامع ، لاسيما وأن مصدرها يمثل رأس السلطة في البلاد وصاحب القرار فيها من جهة ، وان مخزون السيكولوجيا الاجتماعية التي بلغت فيها مستويات التعبئة والتجييش حدا”بات ينذر بالتفجّر من جهة أخرى . وبقدر ما حاول السيد المالكي جاهدا”أن يتمالك نفسه ويكتم سورة غضبه ويداري مظاهر عصبيته ، من خلال محاولاته إظهاره علائم الكياسة ورباطة الجأش التي هي من صفات القيادة الناجحة ، فإذا بلغة جسده السيميائية (حركات وإيماءات وإشارات) ، تزيح النقاب عن مقدار هائل من الاضطراب والتوتر الذي كان يرزح تحت وطأته على مدى تلك الجلسة . وبدلا”من أن يتحصن السيد المالكي – وهو يوجه كلامه لمستمعيه ومن خلفهم الشعب العراقي كله – خلف مظاهر رجل الدولة الحريص على إبعاد شبح الصراعات السياسية والمهاترات الحزبية ، باستعماله خطاب / كلام يتصف بالحكمة والرزانة وسعة الصدر وبعد النظر . وبدلا”من أن يركز حديثه على استحضار عوامل لملمت شعث مكونات المجتمع العراقي الآيل إلى التفكك ، لمواجهة خطر الجماعات المسلحة الإرهابية والحيلولة دون تمكينهم من العبث بمصير البلاد والعباد ، من منطلق كون هؤلاء المرتزقة يستهدفون – تحت غطاء الدين والطائفة – جميع العراقيين بلا استثناء ودون تمييز ؛ بين دين (مسلم /مسيحي) أو مذهبي (شيعي / سني) ، أو قومي (عربي / كردي) . وبدلا”من أن يؤكد على استدعاء عناصر سمتنة المشتركات الوطنية ، للحفاظ ليس فقط على تماسك أطراف الجبهة الداخلية وتقوية ممانعاتها الاجتماعية والنفسية ، حيال المحاولات الرامية إلى زعزعة أركانها وتقويض أسسها فحسب ،بل وكذلك إشعار الشعب العراقي كافة بمظاهر استتباب الأمن والاستقرار ، عبر تفعيل ديناميات التضامن بين مكوناته والتآزر بين عناصره ، دون الاعتبار للخلفيات التحتية والانتماءات الجانبية والولاءات الهامشية . نقول بدلا”من كل ذلك ، فإذا به يتقصد عامدا”الإشارة إلى ما نقل إليه على لسان العناصر الإرهابية عزمهم (بالزحف إلى بغداد لإسقاط حكومة نوري المالكي ، ومن ثم التوجه إلى محافظتي كربلاء (كذا) والنجف (كذا) لاحتلالهما – لا نريد أن نذكر تفاصيل ما تفوه به السيد المالكي أمام وسائل الإعلام ، خشية تأجيج المخاوف في النفوس وإثارة الهلع بين الناس – . وهنا تصل انفعالية خطابه درجاتها القصوى ، بعد أن خلع قناعه الرسمي وتخلى عن لياقته البروتوكولية . والحال لست أظن إن أحدا”ممن أصغى لمفردات ذلك الخطاب المعبأ بالتجييش الطائفي والمشحون بروح الانتقام ، لا يفهم مغزى ما يرمي إليه من تصعيد للعنف بين الطوائف ويحض عليه من تعميق للكراهية بين القبائل . ولعل هناك من يبرر له استعمال هذه اللغة المدججة بالحرب ، ويسوغ له استخدام تلك المفردات المصفحة بالقوة ، باعتبار انه يخوض في أتون أزمة خطيرة تتعلق بسيادة الدولة وأمن المجتمع ، لاسيما وانه القائد العام للقوات المسلحة من جهة ، ورئيس الحكومة الاتحادية من جهة أخرى . الواقع انه إذا كان من حق المالكي أو أي رئيس حكومة آخر يلجأ إلى لغة التهديد والوعيد في خطاباته وتصريحاته ولقاءاته ، باعتبار إن ذلك يمثل أسلوبا”من أساليب الحرب النفسية وشكلا”من أشكال الردع لإرادة الخصم ، فان ذلك لا يبيح له – في مطلق الأحوال – زج الرموز الدينية والوطنية في خضم عمليات الصراع ، خصوصا”إن كان هذا الصراع – بصرف النظر عمن يمثل جانب الخير أو الشر ، وينحاز لجهة الحق ضد الباطل – يجري بين مكونات الدين الواحد والمجتمع الواحد ، بلغت استقطاباتها الاثنية والمذهبية والقبلية والجهوية مستويات خطيرة من التخندق والتمرس . حيث إن تصرف كهذا لا يشكل فقط مدخلا”سهلا”لتعميق الانقسامات الاجتماعية وتوسيع الانهيارات الأمنية وتوتير الأجواء السياسية فحسب ، بل وكذلك يعتبر دعوة مفتوحة لشرعنة العنف المذهبي ، وإعلان صريح للحرب بين الطوائف !!! .
[email protected]