تابعت باهتمام خطاب السيد عزة الدوري الأخير الذي قال – وقد وضعت أمامه عبوات مياه ” حياة ” سعودية الصناعة – أنه سجله في محافظة بابل , ولاحظت أنه كان مرتاحاً و قد ظهر ومرافقوه في قيافة تامة , وألقى خطابه في أجواء تبدو آمنة ومريحة ولم تغب عنها أصغر التفاصيل مثل باقة الورد التقليدية , والمكتب الفخم , واسفنجة مبللة بالماء استعان بها على تقليب أوراق خطابه ؛ لكني توقفت طويلا عند مضمون الخطاب الذي غلب عليه النفَس والموروث الديني وكأنه خطبة جمعة يلقيها واعظ وليس أميناً عاماً لحزب كان في مقدمة جبهة النضال ضد الاستعمار والرجعية العربية , فقد حيّا الإمام جعفر الصادق العلوي النسب وكذلك الإمام أبي حنيفة العربي الكوفي , لكن المدهش أن تحياته امتدت إلى مذهب ابن حنبل الذي يأخذ بظاهر النص ويرفض إعمال العقل ويكفّر مخالفيه وهو الأساس الذي قام عليه المذهب الوهابي , وفي كل الأحوال فإن تلك التحيات كانت تزيّدا خاصة في ظروف تتطلب من العراقيين النظر فقط إلى المستقبل .
ولقد كانت ” الصفوية والصفويون ” لازمة تكررت في كل مقطع من مقاطع ذلك الخطاب الطويل , والتساؤل هنا هل كان الصراع التاريخي بين العراق و ايران لأسباب مذهبية أم لأسباب سياسية تعود إلى مطامع ايران في الاقليم العربي؟ وبغض النظر عن المدلول التاريخي للصفوية فقد أصبحت اليوم مصطلحاً تستخدمه فرقة من الإسلام السياسي و حلفاؤها الجدد في صراعهم المذهبي مع مخالفيهم , و لذلك لا يجوز لقائد سياسي عراقي استخدامه لأنه سيصنفه من بين الذين يعادون ايران لمجرد أنها شيعية بصرف النظرعن صحة هذا الوصف ؛ و لقد كان غريباً أن يوجه السيد الدوري نداءً للملوك والرؤساء العرب ليقفوا صفاً واحداً في مواجهة الصفوية , لأن هؤلاء جميعاً تواطؤا مع الغزو الأميركي للعراق, اللهم إلا إذا كان المقصود هو إعلان استعداد حزب البعث للإنخراط بالمشروع الأميركي الذي يهدف إلى زج العرب في حرب مذهبية مع ايران تجعل اسرائيل في مأمن وتدفع بقضية فلسطين إلى زويا النسيان .
هدّد السيد الدوري أن الجيش العراقي سيلقن ” الصفويين ” درساً أبلغ من درس عام 1988 , و كنت أودّ أن يضيف إلى تهديده مبررات تسليم سلاحنا الجوي برمّته لهؤلاء الصفويين بعد سنتين على انتهائنا من تلقينهم ذلك الدرس البليغ, و فوق ذلك حبّة مسك تمثلت بإعادة اعترافنا باتفاقية آذار 1975 وتسليمنا بمطالبهم التوسعية في شط العرب !
لم أقرأ في تأييد الخطاب لمعتصمي الأنبار غير انتهازية سياسية تجاهلت أن قادة هؤلاء المعتصمين وخاصة المنتمين منهم للحزب الإسلامي إنما هم جزء من النظام العراقي ومن العملية السياسية التي فرضها الاحتلال الأميركي على العراق , وأنهم جميعا ارتضوا المحاصصة الطائفية , ووافقوا على دستور وضع مستقبل البلد في مهب الريح , وتواطؤا على نهب ثروات البلد شراكة مع ” الصفويين ” , وأن أرض الأنبار التي يعربد هؤلاء فيها قد شهدت ولائم واحتفالات أقيمت على شرف الرئيس الأميركي جورج بوش , مجرم حرب العراق وقاتل الرئيس صدام حسين , وأن الشعب الأميركي الذي كال له السيد الدوري آيات المديح والثناء بلا لزوم ووصفه بغير حق بالحضاري والانساني , قد انتخب ذلك الرئيس مرتين !
ولعل أغرب ما في الخطاب هو تأكيد الموقف البعثي التقليدي من الصهيونية واسرائيل والدفاع في ذات الوقت عن الكيان الكردي الذي يرتبط بعلاقات اقتصادية وأمنية وتسليحية مع اسرائيل , ثم اتهامه للسلطة العراقية بدفع الأكراد نحو الانفصال وكأن هؤلاء كانوا مثالاً للوحدة الوطنية والإخلاص للعراق حتى جاء المالكي فكفّرهم بالوطن ! وقد هنأ الخطاب حركة حماس الفلسطينية على ما أسماه بانتصارها في مواجهتها الأخيرة مع اسرائيل , وقد يكون للسيد الدوري العذر في أنه لا يعرف أن الهجوم الاسرائيلي على غزة لم يتوقف إلا بعد تدمير معظم منصات صواريخ ” فجر5 ” التي زودها بها ” الصفويون ” , و بعد ضمانات من رئيس مصر الاخواني – الصديق الوفي للرئيس الاسرائيلي كما وصف نفسه في رسالة وجهها اليه – بعدم إطلاق صاروخ واحد بعد اليوم من أرض غزة باتجاه اسرائيل !
وكان مدهشاً أن يتوعد الخطاب بالقتل كل من يساند سياسة ايران في العراق , ويناشد في الوقت ذاته الولايات المتحدة بإعادة العراق إلى أهله , وفي ظني أن مضمون هذا الكلام خطير للغاية لأنه يعني وبلا مواربة اعتراف الحزب بعجزه عن تغيير الوضع في العراق ويريد من الولايات المتحدة أن تهديه السلطة بعد أن انتزعتها منه بقوة الغزو , و أنه مقابل ذلك مستعد لتحويل فوهة البندقية المقاومة المصوبة نحوها وحلفائها وعملائها إلى ايران وأدواتها في العراق , وبالطبع فإنه ضمن هكذا توجه لا محلّ للعداء مع اسرائيل بالضبط كما تنص الاملاءات السعودية ! وللأسف فإن هذا الظن تعززه تلك التحية الحارة التي خص بها السيد الدوري الملك السعودي , وللذين قال أنهم ساندوا العراق ضد عدوان عام 2003 و في حدود ما أعرف أن العراق لم يتلق وقتها مساندة من أحد إلا إذا اعتبرنا الدعوات الصالحات التي جاءت من هذه الجهة أو تلك مساندة لبلد يتعرض لغزو شامل بأعتى أسلحة العصر .
لعل إدانة الخطاب للطائفية الصفوية ومساواتها بالطائفية السنيّة ووصفها بالمقيتة , هي الخطوة الوحيدة إلى الأمام التي مشاها حزب البعث , وهي لا تعني شيئا كثيراً نسبة إلى قفزاته إلى الوراء والاصطفاف حيث يهيمن ظل وظلامية الإسلام السياسي, وحيث يراد للصراع العربي – الاسرائيلي أن ينتهي ليفسح المجال لصراع مذهبي يجنّب الولايات المتحدة وحلف الأطلسي ومعهما اسرائيل شرّ القتال !
…………………………
برغم الأخطاء والخطايا فإن تجربة العراق مع حزب البعث في سنوات 1968 – 1990 كانت زاخرة بمنجزات البناء والمدنية ورفع مستوى معيشة الشعب وصحته وتعليمه , وكانت إدارات الدولة تفخر بكفاءة قياداتها ونزاهتها , وكانت قواتنا المسلحة درعاً صلباً صان أمن وسيادة البلد , و لولا سوء التقديرات وخطأ الحسابات التي حدثت ما بين صيف 1990 وشتاء 1991 , لكان للعراق شأن آخر اليوم ؛ وكان الظن أن الحزب سيقف يوماً ما لتقديم كشف حساب للعراقيين يبيّن فيه ماله وما عليه وكلاهما كثير , ولكن عقب الخطاب الأخير لأمينه العام فإن الحزب بات يواجه ما هو أصعب من ذلك , فموقعه اليساري التقدمي , وفكره العلماني , واحساسه بنبض الشعب , كل ذلك أصبح موضع تساؤلات وشكوك .