ربما كان الأوفر على هيئة النزاهة العراقية والأكرم لنا نحن الذين لم نزل نتطلع إلى دور لهذه الهيئة في مكافحة الفساد الإداري والمالي، المسؤول الأول والأخير عن كارثة داعش وعن خراب البلاد العميم، أن تحتفظ لنفسها بالمعلومات عن الاحكام المثيلة لآخر أحكام محكمة الجنايات المختصة بقضايا النزاهة في بغداد ، فلا تُعلنها للناس، لأن إعلانات من هذا النوع هي ممّا يرفع ضغط الدم ويُصيب بالجلطة القلبية أو الدماغية.
ما هي آخر الأحكام هذه؟ …هي ثلاثة أحكام بالسجن (إعلان الهيئة لم يوضّح مدة السجن عن كل حكم) على ثلاثة من زبائن مصرف الرافدين، هم كل من سعد قاسم عمران الربيعي وتوفيق خالد محسن العبيدي ونافع جبار كاطع الساعدي، لإدانتهم بسرقة أكثر من ستة عشر مليار دينارٍ (حوالي 14 مليون دولار أميركي) من المصرف بواسطة تسعة صكوك ليس لها رصيد يغطّي
المبالغ المسحوبة.
ما الذي يعيب هذه الأحكام؟ .. ما يعيبها هو عين ما يعيب عشرات الاحكام المماثلة الصادرة سابقاً .. إنها أحكام غيابية في حقّ سرّاق أخذوا المبالغ بالتواطؤ مع موظفين مصرفيين واختفوا عن الأنظار، والأرجح أنهم فرّوا الى خارج البلاد.
هذي الحال متكررة، فمعظم الاحكام الصادرة في قضايا نزاهة كبيرة إنما تتعلق بأشخاص “غائبين”. بالطبع الاحكام تتضمن أوامر بإلقاء القبض على المدانين ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة ومنح الحق للجهات المتضررة بطلب التعويض من السرّاق الفارّين. وهذه في الواقع نكتة سمجة للغاية، فالسرّاق يكونون عند صدور الاحكام قد فرّوا بالجمل وما حمل: المال العام المسروق وأموالهم المنقولة، وكذا الاموال غير المنقولة التي لابدّ أن يكونوا قد رتّبوا سلفاً أمر بيعها أو تسجيلها بأسماء أقارب أو خواصّ لهم.
هيئة النزاهة ليست في أيديها شيء .. هذا ما يُمكن أن تقوله، فهي جهة تحقيقية تنتهي مهمتها عند تقديم نتائج تحقيقاتها إلى القضاء، مع ملاحظة أن مهمتها
التحقيقية غالباً ما تتعرض لمساعي التشويش والعرقلة من كبار الفاسدسن الذين هم من كبار مسؤولي الدولة وقيادات الطبقة السياسية الحاكمة أو ممّن هم على علاقات مصلحة وثيقة مع هؤلاء المسؤولين
والقيادات.
مع ذلك فإن في وسع هيئة النزاهة أن تفعل أشياء كثيرة على صعيد ملاحقة سرّاق المال العام الفارّين. يُمكنها على وجه الخصوص أن تضغط على الحكومة ومجلس النواب لاستصدار القوانين الضامنة لعدم التشويش على تحقيقات الهيئة وعرقلة أعمالها… يُمكنها أن تضغط على الحكومة للعمل جدّياً على عقد اتفافيات مع حكومات البلدان الأخرى لملاحقة سرّاق المال العام وتبادل
المجرمين المطلوبين.
هناك مشكلة حقيقية على صعيد الإجراءات الخاصة بملاحقة السرّاق في ما وراء الحدود، وهي ترجع في الاساس الى أن كبار السراق هؤلاء هم من عناصر الاحزاب المتنفذة في السلطة (وزراء ونواب ووكلاء وزارات ومدراء عامون سابقون) .. من واجبات هيئة النزاهة أن تتسلح بسلاح الشفافية لفضح هذا الأمر .. على الهيئة أن تعلن للرأي العام كلّ الحقائق، أو أن تكفّ عن إعلاناتها الرافعة لضغط الدم والمصيبة بالجلطات القلبيّة
والدماغيّة.