مد يدا مرتعشة إلى الباب الموارب وألقى نظرة على والده الذي كان متدثرا برداء ثقيل وبدا وجهه شاحبا وقد غارت عيناه وارتسمت حولهما هالة حمراء خفيفة فلم يستطع أن يمنع نفسه من أن يستسلم إلى البكاء بصوت خفيض وهنا باغتته أمه وهي تحمل طبق الطعام إلى الوالد المريض فآلمها بكاء الصبي فما كان منها إلا أن همست له …لا…لا تفعل ذلك يا حبيبي فأنه بخير والحمد لله …
اعترض الولد قائلا: كلا …انه لم ينم ليلة أمس فقد سمعته يتأوه و يئن.
ثم سألها متلهفا لمعرفة حقيقة مرض أبيه
ما به يا أمي أي مرض أصابه …؟
كانت دموع الصبي تترقرق وهو يتحدث همسا لأمه كي لا يتسبب بيقظة أبيه الذي كان قد أستسلم لسنة من النوم بعد معاناة آلامه لليلية الماضية فأجابته مخففة حزنه ومطمئنة خوف نفسه وقالت لا تخف يا حبيبي إنها وعكة صحية طارئة وسيقوم منها سالما بأذن الله تعالى .
هنا تأوه الأب وتململ في فراشه وفتح عينيه ليرى أمامه زوجته وابنه لهذا أشرق وجهه بابتسامه وأشار لولده بيده فارتمى الولد في أحضان أبيه وقبله.
هتف الوالد لا…لا..لماذا تبكي …أنا بخير ادعوا الله تعالى بالشفاء لا أريد أن أراك حزينا ومسح بيده دموع الولد وطبع على خده قبلة حانية وأضاف متسائلا لمَّ لم تذهب إلى مدرستك…؟.
* سأذهب الآن ولكني أردت أن أطمئن عليك .
* آه …يا حبيبي… إذن اذهب إلى مدرستك الآن..مع السلامة…انتبه لدروسك واهتم بمدرستك …الله رحيم .
……………………
صورة أبيه لا تفارقه حتى حين دخل الصف فصورته تلوح له في صفحات الكتاب الذي يقرأه وحين امسك بالقلم ليكتب بعض السطور التي أملاها المدرس فاجأته صورة أبيه وهو يتناول زجاجة الدواء ويشرب منها جرعات قررها الطبيب المعالج واستعاد صورة امتعاضه فأحس بالحزن وتبين انه قد فاتته بعض الكلمات التي كان المدرس يمليها عليهم فرفع رأسه إلى المدرس الذي بادره بحنو ما بالك كأنك لست معنا فلم يستطع أن يجيبه لأن عبراته المتلاحقة منعت صوته من الانطلاق فشعر المدرس بفادح خطب قد أحاط بالطالب الذي عرف بجده واجتهاده ولهذا توقف عن إملاء الدرس وتفرغ للصبي يحاوره ويستفسر منه حتى أدرك حقيقة الأمر فواساه بكلمات طيبة وعرض عليه انه سيزور الوالد المريض ويرافقه إلى طبيب مختص سبق له أن راجعه فأحس الصبي ببعض الراحة وهدأت نفسه وما أن مضى اليوم المدرسي حتى أسرع ليبلغ والديه بعرض مدرسه واخبرهم بأن الأستاذ سيحضر في الساعة الرابعة ليرافق والده المريض إلى الطبيب المختص. …..
كانت الدقائق واللحظات تمر عليه بطيئة وقد قرر أن يرافق والده مع أستاذه إلى الطبيب فتشاغل بإعداد الملابس التي سيرتديها والده بل وساعده في ارتدائها وما أن حانت الساعة الرابعة حتى كان المدرس يطرق بابهم فأسرع إليه ورحب به ودعاه للدخول لمنزلهم لكن الأستاذ أشار عليه بأنه سيضيفهم عند عودتهم من الطبيب ودعا والده لمرافقته سريعا كي لا يفوتهم الوقت وفعلا لم تمض دقائق قليلة إلا وكانوا جمعيا في مركبة الأستاذ وهي تسرع بهم إلى عيادة الطبيب وكان الصبي يحمل كيسا ورقيا جمع فيه أوراق الفحص الطبية السابقة وكذلك بعض قناني الدواء زيادة في الاحتياط .
عبرت بهم المركبة شوارع طويلة وانحرفت إلى أحد الشوارع الفرعية وهنا طالعتهم لافتة كتب عليها (عيادة الاستشاري….)
وعند دخولهم العيادة كان الصبي يحمل بطاقة الدخول التي احضرها الأستاذ معه تيسيرا للأمر وكسبا للوقت فما إن مضت دقائق إلا وأٌذن لهم بالدخول فطالعهم وجه الطبيب المعالج باسما وتبادل كلمات التحية معهم وبعد أن أجرى الفحص طلب إليهم أن يراجع أوراقهم الطبية السابقة وكان يبدوا انه غير مطمئن لما كتب عليها فأشار إلى المريض بأن يجري بعض التحاليل التي كانت سببا لتأخرهم بعض الوقت وبعد أن أمعن النظر إليها تنفس الصعداء وارتسمت على وجهه ابتسامة مطمئنة واختفت نظرة الشك السابقة ثم قال:الحمد لله …إنني استطيع أن أطمئنك بأنك ستكون بأفضل حال …
ماذا…هتف الوالد المريض..وقد تساءل مستغربا …؟ فقال الطبيب لقد كانت الوصفة السابقة سببا لمضاعفات ما تعاني منه لأن الدواء لم يكن مطابقا للحالة التي تعاني منها …
قال الأستاذ مستوضحا …ماذا يعني هذا…أتعني انه تناول …قاطعه الطبيب مؤكدا …لقد اخطأ الطبيب تشخيص مرضه وكتب دواء” تسبب في تدهور صحة المريض ……؟؟؟؟
تساءل الولد بحزن كيف يمكن الاستهانة بصحة الإنسان هكذا وأين الضمير وأين القسم المقدس لخدمة الإنسانية وأراد الاسترسال في حديثه لكنه أحجم عن ذلك إكراما لنظرة من عيني أبيه فقرر في نفسه أمرا سيحققه في قابل الأيام وهو أن يكون طبيبا مخلصا كالاستشاري الذي عالج والده ورسم لنفسه صورة كان فيها مرتديا الزي الجامعي وهو يردد القسم المقدس وشعر بفخر كبير بمدرسه الذي أدى واجب الأمانة وأفاض عليه بكرم الخلق الإنساني والعطف الأبوي فظل يردد شكرا ….شكرا.