آخر مرة قبل عام التقيت الراحل خضير ميري وداهمني قبل عناقه المؤثر كما كل مرة : لا استوعب فكرة ان مثقفا يعيش قي المانيا ولم يزر قبور فلاسفتها .
أضحك وأرد : لأن الحدائق هناك كثيرة فتشغلني عنهم .
لم يقنعه الجواب ليمضي معي في ثنائيات الرؤية بين حلم وعلم وجنون وبالكاد أصل معه الى ما يقصده . فخضير ميري حين يتقصد الدخول الى لجة الشيء يوهمكَ بمدركات شتى فقط ليشعركَ أن هذا الذي تخيلته الدولة نزيلا في الشماعية أنما هو العاقل الذي يصنع فنتازياته بمهارة بوذا يوم فكر ان يكتب عنه بدراية العقل والضوء ومراثي ما يحدث الآن.
السبت الذي مضى ذهبت قريبا من ضفاف نهر الراين في دوسلدورف ، ثمة مقهى صغيرة هناك اسسها مغاربي من اهل طنجة اسمها مقهى الفلاسفة ، وغير بعيد عنها هناك مقهى اسسها يوناني من اهل كريت تدعى مقهى المجانين .
الغرابة هنا أن رواد مقهى الفلاسفة هم من المجانين ورواد مقهى المجانين هم من الفلاسفة المبتدئين أو اؤلئك الذين يدرسونها في الجامعة الالمانية التي لا تبعد عن المقهى سوى اربع محطات بالباص.
اتخيل الآن روح صديقي خضير ميري تتنقل بين الأولى والثانية وهي تحتفي بخواطر زبائن المقهى التي يسكنها مجانين ممتلئين بالأخلاق والصفنة ودخان السكائر والثانية التي يسكنها بشر اعجبهم في نيتشه تلك التشاؤمية المرهقة .
أجلب نظرته النحيفة وبراءة نظارتيه لنشرب القهوة معا ونتحاور في احداث وثقافات وشخوص .فيكون له ما لا يكون لي .
انا معتدل في الحكم وهو حاد لا يقبل المهادنة إلا عندما هدهُ مرضه الطويل واسكن خطواته الى العكازة.
خضير ميري الروح الجميلة ، النحيفة كعود بخور اشعلته اماسي الرمل في البادية المحاذية لمضارب قومه آل بو صالح هناك حيث تقع الاهوار ومضارب الكرم واساطير مقاومة المستعمر الانكليزي التي قادها جده البعيد الشيخ بدر الرميض.
هذه الروح ليست بيننا الآن ، رحلت وهي ترتدي عباءة الصمت والألم وامنيات مشاريع تعطلت وبقيت اوراقا في مجرات مكتبه.
اتمنى أن يطلب من اهله أن تجمع وتظهر بكتاب وفاء لنحيف اثر ان يكون مجنونا بقصد حتى يكون فيلسوفا بمجد.
مجد خضير ميري في الثقافة العراقية والعربية كبير ، وهذا ما صرحت به القاهرة قبل بغداد .
واليوم بدون ميري تفقد الثقافة العراقية وجها اعتبره ظاهرة اليفة ومتميزة ولا تتكرر. وربما هذا الرحيل المسكون بليالي المرض والسهد ومنادمة الكأس ( الحنون ) اظهر فينا مدى قلقنا على فقدان تلك الظاهر الاليفة والمضيئة والمتفردة في الثقافة العراقية.
مات خضير ميري .
ووفاء لروحة الرائعة على ان اذهب في السبت القادم الى تلك المقهى التي تقع قريبا من نهر الراين ، أتأمل وجوه فلاسفتها وجمال اناثها الالمانيات اللائي علمهن صاحب المقهى المغاربي على تدخين الاركيلة ومطالعة قصائد ريلكه وهولدرين وغونتر غراس .
وحتما وسط اجفانهن الممتلئة سحرا وشهية وموسيقى سأحمل دمعة من جفن خضير ميري واضعها تحت اجفانهن.
وأن اتخيل أن هذه الدمعة هي قصيدة رثائي الى صديقي الرائع الذي توفى قبل اسبوعين.
دوسلدورف 1 يناير 2016
· الكلمة قرأها نيابة عني الصديق الروائي أسعد اللامي في الاحتفالية التي اقامها نادي السرد في مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في بغداد استذكارا لروح الاديب الرائع خضير ميري في 2 يناير 2016