لا يمكن للتصنيف أن يحدد هوية أو ماهية العمل الفني. و لكن مع ذلك إنه يقدم فكرة عامة عن الأصول و القواعد و أهم من ذلك عن الحساسيات التي ينتمي لها.
و انطلاقا من هذه القناعة تبدو قصائد أديب كمال الدين بنت فترة الستينات.
و هي الفترة اليتيمة التي وضعت أبناء ذلك الجيل في موقف معاكس للذات الافتراضية، و حملت كل السمات المرجوة للفن الواقعي مثل الاقتراب من الموضوع و التعامل مع الطبيعة ( البشرية أو حتى غير العاقلة ) بشيء من الحنان و التعاطف، و لنقل بشيء من الرعاية الأبوية، ثم التخلص من أعباء القانون، أو الفروض التي نتوارثها من أجيال.
و على هذا الأساس لا يمكن إدراج هذه القصائد في عداد المدارس الحديثة التي وقفت في منتصف المسافة بين أخلاق الشرق المذكر و الجريح و الحامل لجميع صفات التخلف و كل شروط الهزيمة، كل شروط الشرق المغبون و المتألم، و أخلاق الغرب الصناعي الذي استطاع أن يعكس علاقة الإنسان بما حوله و أن يبوئه عرش الطبيعة، و لو أنها لا تزال ترادف معنى المكبوتات بجبروتها و لا تناهيها.
لقد حملت قصائد أديب كمال الدين سمات التجربة العامة للواقعية الجديدة أو الواقعية التحليلية، و على رأسها الأثر النفسي للأفكار. و حافظت على عنصر الدراما و عناصر التوتر و الخوف. و لكن عوضا عن أن تصورها من الخارج و ربما بالتوازي معها، و كتجربة يمكن اختبارها، دخلت في آلية مطلق الحالة. و بعبارة أخرى تعاملت مع الدراما كسرد من غير عناصر. و هذا أدى إلى اختبار أو ملاحظة النتائج و ليس الأسباب.
و من هنا بدأت القطيعة مع أول شرط لقانون المحاكاة.
و ترتب على ذلك 3 نقاط جوهرية:
الأولى تجريد الأفكار. حيث أن موضوع القصيدة لم يعد محددا مع أنه واضح، و هذا وفر للبنية الابتعاد عن المباشرة و الاحتفاظ بمسافة أمان من المغزى: المضمون المستمر.
لقد دخلت فكرة القصيدة في مضمار الماهيات، و حرض ذلك على التعامل مع المادة و الشكل بطريقة عاطفية تنسجم مع أحوال الوجدان المقهور. مثلا كتب أديب كمال الدين في ( مواقف الألف) سيرته الشخصية و هو يبحث عن مأوى ، أو و هو يختبئ وراء جدران أحزانه ، أو حتى و هو يعاني من ظلم الأوثان الجديدة كالذهب و النقود و نشاط السوق في عالم رأسمالي لا يرحم. و في ( أخبار المعنى ) كتب سيرة أفكاره و هي تتابع ماذا يطرأ على الوجدان العام من تبدلات. و لم يجد صعوبة في الابتعاد ما أمكن عن لهجة الهجاء و التقريع. و هي اللغة التي وظفتها الحداثة لتنال من غريمها السابق: الواقع بنسخته الاشتراكية.
و بهذا الأسلوب لم يعد من المعيب للرموز التي لا تحتمل غير معنى واحد، كالنور الافتراضي و النور الحقيقي أو الحركة المستمرة و الحركة المحدودة، أن تتحول إلى معادل موضوعي يعبر عن أزمتنا الخانقة في الوجود. فالنهر يتحول إلى إله تافه ملقى على الأرض ( قصيدتي الجديدة)، و الشمس تتحول إلى رجل عجوز جبان يخاف من أن يسهر ( رغبات)، و الكتاب لحقيبة تحتوي على أشياء مسكورة ( الزائر الأخير )، و هكذا دواليك…
النقطة الثانية و هي تغريب الصور. حيث أنه تم كسر العلاقات المنطقية بين المشبه و المشبه به، و لم تعد المفردات تدل على معانيها بشكل مباشر. و أصبحت العلاقة إبدالية. و بالتعبير البلاغي تراجع نشاط الاستعارات، و هي من الوجوه المعروفة لبلاغة الحداثة، و حل في مكانها المجاز المرسل و الكناية، و هما من خصوص خطاب الواقع. فلحرارة الشمس طعم في الفم ( جاء نوح و مضى)، و الحلم يمكن أن يكون خفيفا كالغبار ( القصيدة السابقة)، و للوجود لوح نكتب فيه ( رقصة سرية )، و في الصورة الأخيرة يبدو أثر الموروث الديني بقدراته الهائلة في تحويل المدارك و التصورات إلى أشياء محسوسة.
و هنا ينجم أول خلاف مع تصنيف هذه القصائد، فمع أنها بنت حزام الستينات، من ناحية البنية العامة و المنطق، حملت جزءا أساسيا من بنية و أعراض فكر الخمسينات. إنها لم تفرط بالخصائص الحركية لتلك الفترة من تاريخ تشكل الأساليب. و حافظت على المفردات و الأفكار المرتبطة بها، و على الدوافع أيضاً، غير أنها عكست الاتجاه.
لقد انطلقت من العام حيث أن الأرض كانت ممهدة و الظروف مناسبة لقليل من التفاؤل بالمنهج. و وصلت إلى الخاص و بما أمكن من تعابير تحت واقعية تبين أثر الأخطاء و الشرور الغامضة و التي تبدو بلا مبرر.
و إن قصيدته ( العودة من البئر ) تعبّر عن هذا الشقاء بطريقة تشير إلى الكم الهائل من العبث و اللاجدوى في هذا العالم و ذلك بتوجيه اللوم لوالده بقوله:
لماذا لم نقل أي شيء…
و لماذا أورثتني دمعتك الطاهرة؟.
و يجدر بنا أن نلاحظ اتجاه الحركة من صيغة جماعة ( جماهير و حشود و ربما عشيرة أو عائلة متكاتفة )، إلى صيغة مفرد ذات طابع حزين و متعثر. و يتكرر ذلك مجددا في طبيعة علاقته مع وسيلة الخلاص المبهمة، الأداة السحرية التي نتغلب بها على النوائب، و أقصد بذلك سفينة نوح. فالمونولوج الدرامي يشترك مع الجماعة في الطلب ( قصيدة جاء نوح و مضى ). و لكن ينفرد وحده في الجواب – الاستجابة و الرد ( قصيدتي الأزلية).
و لن نجد مفردات و تراكيب بهذه الروح المتبرمة إلا عند رامبو الذي كان من موقعه المعاكس كثير الظنون بهذا العالم المتحجر، حتى أنه قال في إحدى قصائده: نعم، أهلا بنهاية العالم، تقدم، تقدم، دائماً… الآن تبدأ المغامرة الكبرى.
و يرى هنري ميلر فيما سلف: أنه تنبيه يفسر لماذا يأتي كل شيء بطيئا ، متثاقلا، بالنسبة لرجل حالم يقف وسط الواقع… حيث كل شيء أيضا يتحول إلى خراب. ( ص 30 – 31 . رامبو و زمن القتلة. ترجمة سعدي يوسف ).
و بحسبة بسيطة يمكن أن نجد كيف أن أديب كمال الدين المؤمن و الزاهد يتقاطع مع رامبو المتطيّر و الزنديق.
الأول يرى أن العالم مزور و يعاني من التدهور و التفكك و الفساد: فثمة خطأ في العاطفة الملتهبة و في الأشياء الباردة التي ليس لها قلب ( ثمة خطأ)، و القصائد سقطت منها المعاني كما تسقط أوراق الأشجار في الخريف لتدوسها الأقدام ( الرقصة)، و قصائد الحب مزقتها الطلقات ( اليد).
و الثاني يلاحظ أن تحت نظرته الكليلة تذوي كل الزهور، و تشحب النجوم، و لم يبق أمامه غير التعايش مع ورطته الخاصة ( من هنري ميلر- ص 32).
و لماذا نذهب بعيدا: لقد تكررت صورة الأوراق و الأزهار الذابلة، و بالتحديد زهرة الدفلى oleander، عدة مرات لدى الشاعرين. و نحن نعلم أنها زهرة ذات لون أحمر خفيف و غالبا ما رسمها الفنانون تحت أقدام المسيح و هو على صليبه في بعض الجداريات و على زجاج بعض الكنائس. إنها زهرة ترمز للشهادة و العذاب و القيمة الدلالية للفداء. و مع أنها تستخدم للزينة تحتوي أوراقها على مادة سامة تتسبب بالموت. ( انظر موسوعة الشهابي للمصطلحات الزراعية). و تستخدم كذلك للإجهاض و الانتحار. و أزهارها خنثى. ثنائية الجنس. و معنى اسمها كما ورد في القاموس: منتهى الحذر. و هذا يضعها خارج سياق سفينة نوح التي حملت من كل نوع زوجين إثنين. فالدفلى لاحاجة لها لذكر و مؤنث. و تستطيع أن تنتج الجيل اللاحق من نبات وحيد المسكن ( بلغة داروينية مبسطة و سطحية ). و كأن التركيز غير المقصود عليها يشير إلى إحساس الشاعر أن تحت هذا الرماد نارا يمكن أن تشتعل في أية لحظة، و أن هدنتنا مع الواقع مؤقتة.
و لمزيد من التوضيح: كأن فلسفة فن الشعر تؤدي نفس الدور في تحليل و إعادة رواية التاريخ. أو أنها تقوم بدور الجوقة في الدراما. أو دور الفذلكة التاريخية في الرواية المبكرة التي ظهرت في مطالع القرن المنصرم. و تنذرنا أن العالم القديم أوشك على الأفول و نحن على مشارف عالم جديد. و المحظوظ من تواتيه الفرصة.
و من المؤكد أن لدى أديب كمال الدين اهتماما خاصا بصور شتى لهذه الفرصة و منها الطوف ، و تحديدا سفينة سيدنا نوح.. سواء و هي تتحرك بحمولتها، أو و هي تستعد للإقلاع. و لكن غالبا ما تبدو سفينة مقفلة. و ذات قلب شرير. و أشبه بجيش الإنقاذ في نكبة فلسطين. لا تستطيع أن تنقذ نفسها و لا قبطانها من المأساة. و هذا واضح في تصويره لرحلة السفينة بأنها موحشة و لم نهيء لها أي شيء. ثم إن نوح كان نرجسيا و لا يهتم إلا بنفسه و بابنه و طيوره ( جاء نوح و مضى ). زد على ذلك أنها تبدو مثل رموز المركبات الأخرى التي لا تخلو منها دواوينه كالقطار و الطائرة. إنها أشبه بعربة متحركة تدور من حوله فقط، و لا تسمح له بالصعود أو بالهبوط. ترسم العالم و هو بحركة دائبة، و تؤكد له أن السكون معضلة خاصة به، و ليس مشكلة عامة. و أن الجحيم الذي يعاني منه ( كما قال أونامونو ) هو في الداخل و ليس في عموم التجربة.
و لكن من جانب آخر لا بد من ربط السفينة بتخصيصها، و هو الماء. أو سيد الأرض بلغة البابليين. و هذه هي شعرة معاوية ( إن أحسنا التعبير ) التي تضع في كفتي الميزان الموضوع و مرجعياته. و بلغة أخرى التي تغلّف الغرائز بمصدر الفعل و الحركة ( ص 172 – ما قبل الفلسفة. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ). فالماء في كل قصائد أديب كمال الدين متحرك ( بشكل أمطار و فيضانات و أنهار )، و لا توجد له صور سكونية، و بالاستطراد ليس له مضمون نرجسي، و لا مضمون مرآة. و هذا يعني أنه يتعامل مع الفكرة الشعرية من منطلق تذكير و تفاعل، و ليس وفق منطق تأنيث. و على أغلب تقدير هذا يعود لأهمية المياه الجارية عند المسلمين في طقس الوضوء. بغير الحال لدى المسيحيين الذين يستعملون مياه الجرن في التعميد. الغريب في الموضوع أن حداثة أديب كمال الدين كانت من طرف أنصار المدرسة الواقعية في تفسير رموز الماء. فهو مع المعلم شولوخوف مؤلف الدون الهادئ و الذي يعتقد أن الحياة لا تعرف الهدنة مع الظروف. و لم يكن من طرف غادة السمان ( انظر قصتها: لا بحر في بيروت ) أو زكريا تامر ( و قصته الرحيل إلى البحر ) في استعمال مصادر المياه على أنها صورة ترمز للفوضى و الخراب و للنفوس الآسنة التي لحقت بها جرثومة الفساد.
مهما يكن الأمر، هذه القصائد من ناحية الرموز العامة تتصل بثقافة مناطق الاستقرار و مجتمعات الحضر، و هي شديدة الابتعاد عن ثقافة البدو و الصحراء ( مجتمع الرعاة و الجاهلية الأولى عند العرب ). و لا توجد أية إشارة ذات اعتبار تربط الذهن بتاريخه. و لذلك إنها قصائد تعاني من مشكلة العطالة التاريخية. إن مشاعرها تجاه تعاقب الفصول و الأزمنة معطلة و ملغاة.
و ترتب على ذلك تقليص حجم العلاقة مع الذاكرة. و هذه نقطة أخرى خاصة بحداثية أديب كمال الدين. إنه بطل عاطفي و رومنسي، و لكنه يتجنب النظر إلى الخلف. و لا يحب أبدا أن يتغنى بالماضي السعيد. و لا بقصص الحب الميتة. وعلى الأرجح وراء ذلك أزمة وجود. أزمة إعادة توزيع لترتيب العلاقات. فالـ “هناك ” يتحول إلى الـ ” هنا ” بمنطق هيدغري بسيط و خفيف. أو بعبارة أخرى إنه يتحقق الآن. لأن الحقبة هي مكان متجمد بقوة التأمل و التصوير. و هذا يفرض عليه أن يكون نسيج وحده و بعيدا عن السرب و يبحث عن منبع الطاقة في الذات و ليس في إسقاطاتها. في العالم الداخلي و ليس في الواقع. و من هذه الحقيقة كانت كل عناصر الموجود لا يمكن إنجازها فنيا إلا من خلال انعكاسها. و بلا أية اهتمامات بمسألة الوقت. و هذه هي المصالحة الوحيدة بين منطقه المائي و منطق الثقافة الرملية ( كما تجدها لدى شعراء آخرين يلعبون بفكرة الصحراء و الرمل و الرماد على أنها من مخلفات احتراق التاريخ و تعاقب الأزمنة. و منهم علي الجندي مؤلف صار رمادا، أو حتى عبد الرحمن منيف مؤلف خماسية مدن الملح ). فالحركة لدى أديب كمال الدين هي في دائرة الغمر، حيث أن العالم تطبيق بسيط لفكرة الإرادة الإلهية. و هذا فرض عليه بالمقابل أن يختصر كل الإشارات إلى اللون الأخضر و لو أنه ذو دلالة تشير إلى التصوف و النزاهة في الأخلاق و العبادات. و حتى لو أنه مرتبط لفظيا بسيدنا الخضر قاتل التنين- الشيطان. أو المحارب الشجاع الذي تصدى لمصادر الرعب. على أية حال إن اللون الأخضر يأتي هنا بشكل جناس مع الخضراء و هي السماء ( باعتبار أن الحافز الإيماني يأتي في هذه القصائد أولا )، مقابل الغبراء التي هي الأرض ( كما ورد في المعجم الصوفي لسعاد الحكيم – ص 398 ). و هذه قرينة على عذاب الشاعر أديب كمال الدين. عذاب منشأه الحصر الذي تفرضه هموم الأرض و الواقع.
و إثبات ذلك في قصيدته اللطيفة ( المبحر منفردا ) و التي تؤكد على دور الذات الشامل في حربها المفتوحة ضد عناصر الفساد بكل ألوانه. و منها القرصان الأحمر ثم القرصان الأصفر و أخيرا الأسود. و كأن قاطع الطريق – قرصان الشعر، متدرج و متصاعد. من ألوان باردة باتجاه ألوان داكنة و حارة و كيدية. و لا يوجد بعدها من وسائل للشر المستطير غير الريح الصرصر التي اشتق منها الساميون اسم زوجة آدم الأولى ، الناشز ، ليليث.
عموما يمكن اختصار تراتبية معاني تلك القصيدة بالمخطط التالي :
خطاب موجه إلى الحرف ← حرب ضد القرصان الأحمر ( = الجرح النازف أو النار الحارقة ) ← حرب ضد القرصان الأصفر ( = غروب الشمس و نهاية النهار أو الأوبئة و الانحطاط و الانحدار و الغيرة ) ← حرب ضد القرصان الأسود ( = الموت و الظلام و الفجوات العميقة و المدافن )← أخيرا الحرب ضد الريح العاتية التي تمنع المركب من التقدم إلى بر الأمان.
و بخطوة تالية من الأجدى تكثيف المخطط السابق كما يلي:
التبشير بالرسالة ← الحرب ← الإصابة و الرقود على فراش المرض ← الموت ← ثورة العناصر.
و أرى أن هذا التوجه يقوم على دمج موقفين: الأول يعود للقرن التاسع عشر حيث كانت ثقافة الموت هي السائدة للتعبير عن فجيعة الطبيعة البريئة أمام زحف علاقات مجتمع صناعي و بلا قلب و عنده ينتهي تاريخ الرومنسية البيضاء. و الثاني يعود لفترة النهضة و إصلاح الناسوت حيث كانت مفاهيم الفكر البورجوازي تناضل لتفتح الطريق أمام مجتمع تحرسه علاقات درامية لنظام إقطاعي متحجر.
و هكذا تبدو علاقة الماء بالشعر عند أديب كمال الدين أقرب لتكنيك أساطير التفسير، و ليس التكوين. لذلك إن المرجعية في الخارج. في ضمير ( هو). فالماء لديه مبرر للحركة فقط. إنه لا يقول مثل محمد عمران ( ها إن جسدي بحر). و لكن يقول بصوته المتلعثم و المخنوق: ( دخلت مرتبكا كجثة تسقط في البحر ). و هذه إشارة إلى الرحلة المستمرة. رحلة الحياة المتورطة بجينوسايد الغمر و الفُلك المنقذ. و ذلك يدفعه للحرص دائماً على رسم الحدود بين حيز – أنا – ضمير المتكلم، و تيار المياه الذي قد يشير إلى حدس برغسون أو إلى جدلية الأشياء الإغريقية.
إن التاريخ هنا نقطة اتصال مع الإحساس بالفاجع و دراما الأحزان المتكررة. و لو اعتبرنا أن هذه القصائد قصص وجدان شاعر يكافح ضد مصادر الألم العام فإن أي تحليل بياني سوف يؤكد أنه يعتمد على المشاهد الثابتة، و التي لا تهتم بمبدأ التعاقب و لا حتى التقابل. و إن المعنى لا يتطور إلا من خلال تكامل الرموز مع المشاهد كما فعل زكريا تامر في ثورته ضد التقاليد الواقعية.
فالماء هو الدرع الذي تحمي به الشخصية تفاصيل هويتها المتألمة و الحزينة من الضياع، و في نفس الوقت الضمانة لاستمرار الصراع على البقاء حيا. أو نواة الدراما. بعكس طريقة عمل الرموز الرملية و الرماد. فهي رموز يمكن أن تدفن الحياة فيها. و أن تقتل القدرة على الأمل و الشفاء من اللاجدوى بالوهم و بالرعب من الكهولة و من دراما فصول العمر و فصول الطبيعة الأربعة. فالتراكيب التي تأتي من أصل ترابي ( إن صحت التسمية ) تستغرق عادة في وصف الجفاف و الحضارات الهيولية. و تستمد مشروعها من إيديولوجيا مزاجية كما هو حال علي الجندي. فهو في قصائده، دائما ، يبحث عن الحياة في حفنات الرمل ( ص 180 )، و: إنه يعزف بقيثارة من ورق الرمل ( ص 9 )، و أيضا يتدحرج: على أجنحة الرمل ( ص 12 ). و هذا بدوره يفتح الباب للتأكيد على صور الـ ( أرملة ) التي تدل على فجيعة فراق و موت ، باعتبار أنها مشتقة دلاليا و لفظا من الرمال.
و لكن ليست هذه حالة أديب كمال الدين فهو يركز في كل تراكيبه على تخصيص الحركة في الماء. و لا سيما بصيغة بحر و مشتقاته. حتى أن كل حركة يستعير لها الإسم المعروف ( الإبحار )، فيقول : يا رجلا مبحرا إلى الله، و يقول أيضا: أبحر باتجاه العبث، أبحر باتجاه الماضي، إلخ. و أحيانا يربط كل الحركات و لو أنها مجازية بالسفن فيقول : يا عابرا شمس الله و سفنه و كواكبه.( قصيدة إبحار ). ثم يختار أن يكون البطل الأوحد لموضوعاته و أن يبحث مثل شخصيات بيرانديللو عن المؤلف. ففي نص ( قصيدتي الجديدة ) يبحث بإلحاح عن مؤلف لقصيدته. و يتوهم أن هذا ممكن على يد حسناء في الباص، أو طفل صغير، أو حتى بواسطة مجرى الماء المتحرك، النهر. بمعنى أنه لم يحبذ أن يكون في خدمة الأسطورة الاجتماعية للحداثة، و لكن أن يوظف الحداثة لخدمة الشعر.
و أغلب الظن أن هذا الموقف ناجم من طبيعة تفسيره لمبدأ الوجود و العدم. فهو موجود بمقدار ما تتوفر بين يديه الطاعات و العبادات. و هو غير مرشح للزوال و لا لخطر الموت، و لكنه مستعد دائماً لآخر لحظة خطيئة و ندم و لأول فصل من رحلة العبور. و لقد كان ذلك يعفيه من مشاعر الخوف أو الرعب التي تسببت بها فلسفة أرض الخطاة ( عند أنصار توما الإكويني) و فلسفة الفراغ الوجودي ( عند سارتر و أتباعه). لا يوجد في شعر أديب كمال الدين لا – خوف من التجربة مع الواقع. و لكن تتوفر لديه مشاعر أصيلة بانعدام هذا المبدأ نفسه. إنه ليس مجرد نفي لحالة من الوجود العابر و المثقل بالأخطاء، و لكنه عبارة عن نفي لحالة التأويل من أساسها.
إن بطل قصائد أديب كمال الدين خاسر و يحمل كفايته من الأحزان و الرضات النفسية، و هو في معظم الحالات يعكس كل أعراض شارل فورنييه عن أهوال العصاب. فهو حائر و لا يمتلك زمام نفسه . يشك حتى بمنقذ البشرية من طوفان دنسها و فجورها، و يتقلب على جمار مشاكل ميتافيزيائية. و ربما كان هذا هو المبرر له لأن يختار شكل القصيدة الدائرة، التي تكرر موضوعها و تقنياتها و عددا لا بأس به من الصور و التراكيب . و نحن نعلم أن هذا يؤدي إلى حالة تثبيت طفولي، و لا يكون الحل إلا بواسطة تعازيم لها بنية أداء طقس تهدف لاستبعاد الوساوس الملحة، و مكافحة مشاعر الصعوبة و الحصر – أو الكبت، كما هو حال أناشيد أخبار المعنى ثم مواقف الألف. و كأنه طفل و أمه تنشد له كي تضمد جراح الواقع العاجز ( انظر لوحة الأمراض النفسية لشارل فورنييه و رفاقه – ترجمة وجيه أسعد – ص 219 و ما بعد).
أما النقطة الثالثة و الأخيرة فهي خاصة بمسألة الأسلوب و الاتجاه.
و أرى أن ظاهرة أدب المقاومة التي تشكلت في الخمسينات و طرحت مبدأ الالتزام بمعناه السياسي و بالبروغاندا التي روجت لفكرة الكلمة المقاتلة و الفن المسلح ، اضطرت لأن تنتقل إلى مبدأ ( التلازم) ، أو فكرة الارتباط الوجودي بأسطورة الذات المعذبة و الغريبة عن محيطها. و هي نفسها الذات التي تعقل قضاياها الفردية في وجود مضطرب و جاحد و يكاد يشبه الجحيم. وجود من غير هوية و لا اتجاه، و يفتقد لأدنى الصفات و يحرض من خلال الوعي بالضرورات على المجابهة، و كأنها آخر صورة من امتحان البقاء.
و هذا على الأرجح السبب وراء صور الطبيعة في القصائد ذات المغزى العرفاني، إنها طبيعة مغلوبة على أمرها و ترزح تحت أعباء الطغيان النفسي و المادي. بعكس الصور الواقعية ذات الأشكال الجبارة و الشامخة التي تتحدى كل الاعتبارات، إن الطبيعة في الأدب الواقعي هي الرمز المباشر لتقوى العالم، لورعه و اعتداده بنفسه. و لا يتساوى معها إلا عزم الإنسان على ترويضها.
اللطيف في هذا الموضوع أن أديب كمال الدين يعقل الطبيعة بصفة أنها رمز تجريدي نرى بمرآته أنفسنا .. بما هي عليه من ضمن التجربة، صغيرة و منعزلة، و تكافح لتفسر العلامات المفروضة بقوة القدر أو المصير. و لذلك إنها ذات منشأ تكويني و لا تنحاز لأحد : لا للتفسير الأسطوري الذي يتغنى بتموز و بمواسم الحصاد و أزهار الربيع الحمراء أو سوسنة الأودية المذكورة في التوراة. و لا للطبيعة الصناعية التي يدك أساساتها دخان المصانع و يهددها زحف جحافل البشر و الحديد و المحرك البخاري.
و هذا أودى به للتركيز على الغراب و معالم الخرائب ( و كأنها الوجه الآخر للوقوف على الأطلال التي اندثرت – و كأنها أيضا ذات دافع ذاكروي ، يستعيد بالذهن ما يفضل أن يهرب منه في الواقع )، و الآبار العميقة الجافة على وجه الخصوص ( باعتبار أنها رمز للمدنس عند البشر و لقوة الظلام و للغيب)، و التيه المائي ( كخلاصة لمحنة الوجود، و للشعور بالحيرة تجاه الغمر المميت – و هو معطى أسطوري لدينا شواهد عليه : إما في الحفريات أو في نشاط الإعلام المرافق لإنشاء السدود الضخمة و أثرها على عمال التراحيل و السكان البدو ). لم يكن أديب كمال الدين جزءا من هذه الماكينة الفكرية الضخمة، و لذلك تجد أن صورة القارب التائه و المتمايل على سطح الماء من أهم العلامات التي لا تخلو منها مجموعاته.
لقد كانت هذه الصورة هي شمعته التي تبكي من قوة الظلام، و هي اللمسة الخاصة التي ترمز لأهمية البحث عن الخلاص و عن افتراضات فوق الموت. و قد اختار لذلك رمزا مؤثرا و هو شراع أبيض. قد يكون صورة تمثل الروح، أو أنه الرمز المتناهي لقوة الإيمان. و يجب أن ننتبه بهذا الخصوص لمعنى الأصل الثلاثي لكلمة ( شراع ) باللغة العربية. فهو في مختار الصحاح يدل على مورد الماء ، و الطريق ، و التساوي بين المذكر و التأنيث و الجمع و المفرد و الحركة و السكون. و فوق ذلك كله يدل على الأوامر و النواهي الإلهية. أو على مطلق جوهر و روح الدين ( ص 335 – منشورات دار الكتاب العربي ).
و هنا تبدأ القطيعة الثانية مع قانون المحاكاة. فالحداثة أساسا هي إنكار للعقل و للعاطفة و رفض للمجتمع. و هي أيضا بلا جوهر إيماني، لأنها من غير إله. و هي من نتاج الثقافة التي سماها نيتشة ثقافة ( موت الإله )، حتى أنها أيضا لا تؤمن لا بماضيها و لا بحاضرها و لا بقوانين المجتمع المنتج لها. و كما يقول هنري لوفيفر: مع الحداثة يبدأ المجتمع البورجوازي باستيعاب المفارقات المؤلمة و يشعر بعدم التطابق بين الفرد و النظام ، أو بين نشاط الإنسان و الدولة و قوانين العمل. و هذا موضوع آخر.