معلوم أن الخصال الحميدة التي توارثها العراقيون عن أجدادهم، لها أول وليس لها آخر، فقد جبل آباؤنا وآجدادنا على قيم ومثل أبوا إلا أن يزقوها لأجيالهم زقا، كي لاتنتهي بانتهائهم، ولاتندرس بعدهم، وقطعا مازالت تلك القيم تتمثل في كثير بل كثير جدا من العراقيين، رغم تغير الحال وتبدل المآل. استذكر مثلا دارجا نلجأ اليه نحن العراقيون في حال ركون أحدنا الى ماضٍ يقلب فيه أحداثا، أكل الدهر عليها وشرب، يقول المثل: (التاجر من يفلس يدور دفاتر عتگ). وللمثل هذا أكثر من قصة، إلا أنها جميعا تشترك في أن كل تاجر له سجلات يقيد فيها عمليات البيع والشراء التي يقوم بها، وحيث أن بعضا من مبيعاته كانت بالآجل، فقد كانت سجلاته تضم -فيما تضم- الديون التي بذمة المشترين. ولبعد الديار وشحة المواصلات وعسرها آنذاك، يصعب عليهم التسديد، فتطول المدة على صاحبنا التاجر. وحين يمر بعسر وضنك مادي يلجأ الى الـ (دفاتر العتگ) لعله يجد بين الصفحات حسابا قديما لمدين بإمكانه الوصول اليه، ليجلب منه مايفك ضيقه المادي.
ولا أراني اليوم إلا مستذكرا لـ (دفاتر عتگ) تحمل بين سطورها ما لايُنسى بتقادم السنين، ولايُمحى بتراكم الأحداث. فبعد سقوط النظام السابق، وانقشاع غيمة الدكتاتورية، وحلول زمن الديمقراطية، وقبيل تأسيس المجالس الثلاث واستعدادا لها، كتبت لائحة تخص واحدا من المجالس، سميت بـ (مدونة قواعد السلوك النيابي لمجلس النواب العراقي) سأقتطف ماجاء في بدايته نصا:
“نود أن نؤكد من خلال القواعد التالية حرصنا على اعلاء شأن مكانة مجلس النواب في عيون ابناء شعبنا، لانه يمثل قمة الهرم في مؤسسات الدولة استنادا الى الدور الكبير الذي رسمه الدستور له، كونه السلطة التشريعية الرقابية العليا في الدولة، وهو في ذات الوقت ممثل تتطلعات شعبنا الى تحقيق أهدافه في الحياة الحرة الكريمة الامنة”.
فيالروعة الإعداد ويالحسن النية في إنشاء مجلس نواب من الشعب والى الشعب وعينه على الشعب. أما في فقرة أخرى فقد رسمت المدونة المبادئ العامة التي تنطبق على سلوك النواب في المجلس وفي اللجان التابعة له، بحكم النظام الداخلي والقواعد البرلمانية، وبضمنهم هيئة رئاسة مجلس االنواب، فقد حددت المبادئ الأساسية التي يجب توافرها فيهم على النحو التالي: الإيثار، النزاهة، الموضوعية، المساءلة، الشفافية، الصدق، القيادة. وهنا لو أردنا أن نقلّب (دفاتر عتيگة) للبحث عن مدى تحلي النواب ورؤساء المجلس المتعاقبين عليه بهذه المبادئ، لخرجنا صفر اليدين في كل مبدأ منها، ولنأخذها على التوالي:
– الإيثار.. وقد كان أبعد من زحل عن مجلس نوابنا، إذ المصلحة الشخصية كانت على رأس قائمة أولويات أغلب النواب.
– النزاهة.. تبعد عن كثير من النواب بآلاف السنين الضوئية.
– الموضوعية.. ماكان لها حضور في اجتماعاتهم، حيث فقرات جدول أعمال الجلسات في وادٍ، ومواضيعهم التي يثيرونها في وادٍ.
– المساءلة.. لم يكن أغلبهم يسائل نفسه؛ هل أنا أعمل مايرضي الله والناس؟ وهل أنا في خدمة المواطن؟ أم أنا سبب تعاسته!.
– الشفافية.. أظن أن علاقة الشفافية بمعظم أعضاء مجلسنا، كانت كعلاقة (الحية والبطنج) او هي ذات العلاقة بين (Tom & Jerry).
– الصدق.. يذكرني كلام نوابنا ووعودهم ببيت الدارمي القائل:
توعدني صار سنين والحالة هيّ
وبسبع صابونات غسلت اديّـه
– القيادة.. وهنا تسكن العبرات.. فقادة برلماننا، ولاسيما الحالي والسابق لم يعمل كل منهما تحت قبة المجلس وخارجها إلا لصالح كتلته وطائفته وعشيرته، وما خفي كان أعظم.
وبذا يكون إحداث الصلاح ونيل الفلاح أبعد من ناظرنا، او يكون قد ضمه أفق لن تبزغ منه شمس علينا، مادامت الخصال الحميدة رحلت مع الراحلين، واندرست مع المندرسين.
[email protected]