23 ديسمبر، 2024 3:22 م

خصائص الثقافة العراقية وتجربة التثقيف الذاتي

خصائص الثقافة العراقية وتجربة التثقيف الذاتي

على قدر ما أشيع عن العراق بصدد كينونته ؛ موطن الحضارة بلا منافس ، وموئل التاريخ بلا منازع ، ومبدع الثقافة بلا سابق ، للحدّ الذي كتبت عنه وحوله العديد من البحوث والدراسات ، التي أضحت في مضمار أدب الاستشراق العالمي مصادر كلاسيكية ، لا يمكن لباحث جاد أن يلج هذا الحقل المعرفي المتنوع ، دون المرور بها والاعتماد عليها والشروع منها والإياب إليها . بيد إن هذه الحقيقية التاريخية لا ينبغي لها أن تحجب عنا حقيقية أخرى ، لا تقل عنها أهمية في ميدان التحري السوسيوتاريخي . إذ ليس من الموضوعية العلمية في شيء الإشاحة عنها والتعتيم عليها مفادها ؛ إن أشكال الثقافة وأنماط المعرفة التي نمت وتطورت في أصقاع أخرى من العالم ، وفقا”لسيرورات جدلية من التراكم والتناضد ، لم تكن تشكل بالنسبة للمجتمع العراقي سوى واحات صغيرة وجزر متباعدة ، تعوم فوق بحور من مظاهر اليباب الفكري والجدب المعرفي والخراب الثقافي . ولذلك فقد اتسمت هذه الأنشطة الروحية – على قلتها وندرتها – بطابع كونها نتاج إبداعات الخاصة لا مكابدات العامة ، وحصيلة إرهاصات النخب لا مخاضات الشعب . وبصرف النظر عما شهدته حقب التاريخ العراقي من تغييرات سياسية وتحولات اجتماعية وانزياحات قيمية ، إلاّ إن هذه الحالة / الوضعية استمرت تراوح في مكانها مثلما كانت في السابق ، دون أن ينالها شيء من التغير أو يطالها نوع من التطور ، لا في مجال اختراق نمط التقسيم العمودي / الطبقي للمجتمع ولا في إطار تخطي التوزيع الأفقي / القطاعي لمكوناته . ولكن مع بدايات تعرض بلدان العالم الثالث إلى مدّ الظاهرة الكولونيالية ، حيث الصراع الكوني شرع لتوه يتخطى أطره الوطنية ويتجاوز حدوده القومية ، باتجاه قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ،على خلفية تعاظم القدرات وتصادم الإرادات وتنافس السياسات ؛ للسيطرة على مصائر شعوب المستعمرات السابقة ، والهيمنة على مواردها البشرية والطبيعية ، والاستحواذ على مجالاتها الجغرافية والجيوبولتيكية ، حيث كان نصيب المجتمع العراقي من تلك المصائب والنوائب باذخا”وسخيا”لحد التخمة . ولكي تهيئ الأوضاع السياسية لغزوها ، وتمهد الظروف الاجتماعية لاحتلالها ، فقد عمدت سلطات الاحتلال البريطاني – ما أشبه اليوم بالبارحة – إلى تضمين سياساتها وتطعيم ممارساتها ، بطائفة من قيم الإيديولوجية الليبرالية ، التي كان من أبرز خصائصها ؛ تمجيد المبادرات الفردية وتجميد نظيرها الجماعية ، وتشجيع المشاريع الخاصة ومناهضة نظيرها العامة ، والحضّ على أن تكون المعارف الإنسانية والمهارات العلمية من نصيب علية القوم دون أسافلهم . مما يتيح لها خلق (نخبة) على مقاسها ؛ تأتمر بأمرها وتنصاع لإرادتها وتجتاف قيمها وتتماهى معها ، وتمارس – بالنيابة عنها – تدوير عمليات إنتاج التخلف الاجتماعي بكل أنواعه وأشكاله ، عبر مظاهر تعهر السياسة وتبربر الثقافة وتحجر الوعي وتذرر الاجتماع من جهة ، وترك عامة الشعب ، من جهة أخرى ، تجتر أوهامها عن ماضيها ، وتلوك خرافاتها عن حاضرها ، وتزدري أباطيلها عن مستقبلها . وهو الأمر الذي وسم الثقافة العراقية منذ ذلك الحين ولحد الآن ، بميسم التعالي النخبوي والتماهي السلطوي . أي انه بقدر ما ترتفع مكانة (المثقف) في سلم التراتب الاجتماعي ، ويزداد اعتباره في ميزان التوقير الثقافي  ، ويعلو مقامه في مدارج التقييم المعرفي ، بقدر ما تستدرجه السلطات الملكية والجمهورية والإسلامية لولوج عرينها ، وتستقطبه الأنظمة الدكتاتورية والتوتاليتارية للاندغام بإيديولوجياتها الليبرالية والاشتراكية والدينية . لدرجة إن الحديث عن (طبيعة الثقافة) – من حيث لا وجود لثقافة وطنية عليا جامعة ، وإنما ثقافات فرعية وتحتية وهامشية – و(خاصية المثقفين) – من حيث لا وجود لشريحة منظمة ومستقلة (انتللجنسيا) وإنما أفراد مقسمين الانتماءات وموزعين الولاءات – لا تكتمل شروطه ولا تستقيم مقوماته ، دون توصيف مواز – إن لم يكن مسبق – يفصح عن خلفيات الأولى لجهة تحزبها ، ويشي عن علاقات الثانية لجهة استتباعها .

* الاحتكاك الإيديولوجي والحراك الثقافي *
ما أن خرجت روسيا من حلف الضواري ، اثر اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 ، حتى تغيرت خارطة الصراع الإيديولوجي وتبدلت تضاريس الحراك الثقافي ، لا في المجتمعات الغافية على أمجاد تاريخها المعتق بالأساطير والمخترق بالخرافات فحسب ، وإنما في سائر المجتمعات الأخرى بما فيها الصناعية والمتقدمة بمقاييس تلك الفترة . وذلك بعد أن بادر قادة الثورة المذكورة إلى فضح كل الاتفاقيات السرية وتعرية جميع الصفقات المخفية ، التي سبق وان أبرمت بين أقطاب العالم الرأسمالي ، لتقسيم جغرافيات بلدان العالم الثالث إلى كيانات هزيلة ، لا تقوى على النهوض بغير مساعدة خارجية ودعم مشروط ، كما وعمدت إلى تفتيت ديموغرافيات شعوبها إلى أقوام لاستغلال نزاعاتها ، وطوائف لتوظيف صراعاتها ، وقبائل لاستثمار نعراتها ، لكي تبقى خاضعة سياسيا”وعليلة اجتماعيا”وكسيحة حضاريا”، يسهل بالتالي ترويض إرادتها ونهب ثرواتها وتوزيع أسلابها ، بين قوى الغرب الرأسمالي الطامحة إلى نشر سيطرتها العسكرية وفرض إرادتها السياسية وتعميم خياراتها الإستراتيجية . وهكذا فقد استتبعت هذه المعطيات انشطار العالم إلى معسكرين سياسيين مختلفين في كل شيء ، ومجالين حضاريين متعارضين على مختلف الصعد والمجالات ، باستثناء كونهما يسعيان باتجاه هدف واحد لا يحيدان عنه ؛ هو تحقيق السيطرة الجيوبولتيكية وبسط الهيمنة الإستراتيجية وضمان السيادة العالمية ، وذلك عبر شتى الأساليب الإيديولوجية والنفسية والإعلامية والثقافية والفنية . ومن منطلق طبيعتها الطبقية فقد استهدفت الإيديولوجية الليبرالية عقلية وسيكولوجية الطبقات الوسطى والميسورة ، لاستدراجها واستمالتها صوب الفلك الرأسمالي ،  باعتبار ان هذه الأخيرة من أنصار الملكية الخاصة ودعاة القيم الفردية . هذا في حين اتجهت محاولات الإيديولوجية الشيوعية نحو ذهنية وسيكولوجية الطبقات الفقيرة والشرائح المعدمة ، والتي اعتبرت للمرة الأولى خالقة قيم وصانعة تاريخ وقائدة مجتمع ، بعد أن أبصرت نور الفكر العلمي واستضاءة بشعاع الثقافة الإنسانية . وعلى ذلك يمكن اعتبار فترة تكوين الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في بلدان العالم الثالث ، بمثابة الباكورة التي دللت على طبيعة الحراك الثقافي الذي طال المجتمعات ، ونمط التحول المعرفي الذي شمل بنية الوعي لمكوناتها . حيث بينت النظرية الماركسية أن على الطبقة العاملة تقع مهام تاريخية وتحديات مصيرية ، يتعذر امتلاك شروطها وحيازة مقوماتها ناهيك عن تحمل أعبائها وانجاز رسالتها ، ما لم تتمكن من اجتياز اختبار الانتقال من طور الوعي للذات إلى طور الوعي بالذات ، وذلك من خلال تثوير الواقع السياسي ، وتطهير القاع النفسي ، وتحرير النزوع الإنساني ، وتنوير العقل الجمعي . صحيح إن بعض بلدان العالم العربي قد شهدت موجة من حركات الإصلاح السياسي والديني ، التي قاد لوائها ثلة من رجال الدين وعلمائه المصلحين ،على خلفية تأثرهم بنتاجات وإبداعات عصر الأنوار الأوروبي – حينما اجتهدوا لمقاربة الفكر الليبرالي من منظور إسلامي – فضلا”عن محاولاتهم الاقتداء بدور فلاسفته ومفكريه ، ممن أسهموا بالاجهاز على مخلفات القرون الوسطى واجتثوا زؤان خرافاته ، وبالتالي وضعوا الشعوب الأوروبية على طريق الحداثة ، التي لا زالت تقطف ثمارها وتتمتع بانجازاتها لحد الآن . إلاّ انه بالرغم من صدق النوايا وجدية المساعي التي كانوا يضمرونها حيال أوطانهم وشعوبهم ، لاسيما بخصوص انتشالها من وهاد التخلف وإقالتها من عثرات التأخر ، التي خلفتها قرون من التسلط العثماني . نقول بالرغم من كل ذلك فإنها لبثت تعاني أوزار طابعها النخبوي وآثار جلبابها الديني ، وهو الأمر الذي أفضى بها لاحقا”إلى الانحسار كأفكار والاندثار كمشاريع ، لاسيما بعد غياب أصحابها المصلحين وتلاشي خطاباتهم المؤمثلة .

* المنهجية الماركسية : ومحظور الوقوع في الدوغمائية * 
لعلي قرأت ذات مرة – لا تسعفني الذاكرة لتحديد المصدر للأسف – رأيا”لرائد الانثروبولوجيا البنيوية المفكر (كلود ليفي ستروس) يفصح من خلاله انه (( لا يمكن للمرء أن يصبح مثقفا”حقيقيا” ما لم يقرأ الماركسية )) . والحال إن جلّ الفلاسفة والمفكرين الكبار ، الذين شغلت أعمالهم الإبداعية حقول المعرفة على امتداد عقود القرن المنصرم ، ممن استهوتهم ، بل قل استقطبتهم ، الماركسية إلى فلكها ؛ لا كعقيدة جامدة أو كمذهب مغلق ، كما جعل منها أشياعها وأتباعها ومريديها ممن يجهلون ألف بائها – الذين سخر منهم لينين بسبب مسخهم إياها إلى صيغ وقوالب كاريكاتورية – وإنما كمنهج تحليلي / جدلي وتصور تاريخي / نقدي ، أسهم ولا يزال في إثراء الفكر البشري واغناء الثقافة الإنسانية . يضاف إلى ذلك إن الماركسية وبالرغم من طابعها الفلسفي الكثيف ، فقد أولت مهام تحويل العالم وتغيير نظام الأشياء والعلاقات والتصورات ، إلى أكثر الفئات والشرائح الاجتماعية فقرا”والأشد حرمانا”، بحيث زجتها في أتون تلاقح فكري وتثاقف حضاري وتواصل إنساني ، قلما شهده تاريخها الاجتماعي من قبل ، للحدّ الذي ساعدها على اكتشاف ذاتها كصانعة للتاريخ لا كحلقة في سلسلة سيرورته ، وكخالقة قيم لا كمستهلك في أسواق بضائعيتها . وهو الأمر الذي أضفى عليها ( = الماركسية) جاذبية فكرية وثقافية ، جعلت منها النظرية الأكثر رواجا”وشعبية في تاريخ النظريات والأفكار التي ابتدعها وعي الإنسان ، باستثناء ما حضت به الأديان من تعالي واتشحت به من قداسة بالطبع . ولعل تلك العوامل وسواها من الخصائص الأخرى ، التي كانت محط أعجاب وتوقير الكثيرين ، ممن ولجوا لتوهم رحاب الثقافة الواسع ، وتلمسوا وقع خطواتهم الأولى في أروقة الفكر المتعرجة ، هي ما اجتذبنا لسحر تلك النظرية – ينبغي الاعتراف بأني مدين لها ، ولا أفتأ أنهل من معينها – لاسيما وان طريقة صياغتها وأسلوب عرضها وعلمية منهجها وواقعية خطابها ، كانت من النجاعة التحليلية لجدليات الواقع ، والقدرة التأملية لديناميات المجتمع ، والصرامة النقدية لمنظومات الايديولوجيا ، بحيث لم يعد هناك – من وجهة نظري في حينها – ما يمكن أن يضاهيها من أفكار ويضارعها من نظريات ، لا في التعبير عن تطلعات الإنسان ولواعج ذاته وإرهاصات كينونته فحسب ، وإنما في توجهات الإعلاء من ِشأنه وخيارات الارتقاء في قيمته ومنطلقات البناء في شخصيته . ألم يسجل للماركسية سابقة القول بأن (( الإنسان أثمن شيء في الوجود )) ؟! . وكأي مبتدئ حين يجد صدى تأملاته البكر وقد انداح بين أروقة نظرية شهد لها الخصوم قبل المريدين والأعداء قبل الأصدقاء ، بواقعيتها في تبني قضايا المجتمع وإنسانيتها باحتضان تطلعاته ، بحيث وجدت فيها ضالتي ومقصد رجائي . ولأن الأسئلة الوجودية التي تثيرها شاملة ، والإجابات التي تطرحها واقعية ، فقد تملكني هوس الدفاع عن نقائها من أي تلوث (برجوازي) قد يطالها بالنقد أو بالمخالفة أو حتى بالتجاهل . للحد الذي استبعدت معه كل نص لا يعلن صراحة انتماءه للفكر الماركسي أو لا يشرع بالبحث من منطلقاتها الفلسفية ، لاسيما وان الفترة التي بدأت أميل من خلالها للتعرف على أسباب الاستقطابات الفكرية والصراعات الإيديولوجية ، سجلت بداية أفول الأفكار الليبرالية وانحسار مدّ الممارسات العلمانية ، على اثر تسلل العسكر إلى رواق السلطة المتريفة من جهة ، ودخول الأحزاب القومية المتعصبة والإسلامية المتطرفة إلى مضمار السياسة المتطيفة من جهة أخرى . وهو الأمر الذي أدركت لاحقا”انه كلفني ثمنا”باهضا”، لم أبرح أعاني فداحته وجسامته لحد هذه اللحظة ، وخصوصا”على صعيد توسيع مداركي وتعميق معارفي وتنويع ثقافتي وإنضاج وعي ، لاسيما وان كل المصادر السوسيولوجية والمراجع الفكرية والمنطلقات الإيديولوجية ذات النزعة المتمركسة ، غالبا”ما كانت تقلل من شأن الدراسات والبحوث التي لا تتعاطف مع الطرح الماركسي الأصولي ، سواء أكان خلافها لأسباب سياسية / إيديولوجية ، كما شهدته فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفيتي السابق وأنصاره من جهة أخرى ، أو كان لدواعي علمية / معرفية صرفة كما عرفته الصراعات الفلسفية / المنهجية . ولعل الأحزاب الشيوعية العربية تتحمل الجزء الأعظم من المسؤولية التاريخية والفكرية حيال هذا الموقف الإشكالي ، بعد أن كانت (تبصم بالعشرة) على كل ما كان يقال لها أو يرد إليها من توجيهات مركزية وتوصيات ملزمة ، كان لها الأثر السيئ على تطور تلك الأحزاب ونجاح تجاربها الوطنية .

*الشيوعية العربية والأشباح البرجوازية*
سبق لماركس أو انجلس (الأمر سيان) أن شبّه الحركة الشيوعية (بالشبح) الذي يجوب القارة الأوروبية ، ليرعب الطبقات البرجوازية ويقضّ مضاجعها السياسية والاقتصادية . إلاّ إن أحدا”منهما لم يكن ليدور بخلده أو يخطر له على بال في يوم من الأيام ، أن تتحقق فكرة تبادل الأدوار وتناقل المواقع ، بحيث يستحيل – من وجهة نظر الشيوعية العربية – كل ما له علاقة / صلة بالطبقة البرجوازية ؛ من فكريات وتصورات وعلاقات  إلى أشباح شيطانية برؤوس أفاعي كما للميدوزا في أساطير اليونان القديمة . إذ بالرغم من احتكام تلك الأحزاب إلى ترسانة فكرية مدججة بشتى ضروب الحجج الفلسفية والبراهين المنطقية والأدلة المنهجية ، فضلا”عن ادعائها (= الأحزاب) استيعاب وتمثل ذروة ما أنتجه الفكر الإنساني من معارف علمية ومنهجيات تحليلية . بيد أنها استمرت بلا مسوغات معرفية ولا مبررات فكرية ، تحاذر الاقتراب من أية فكرة أو نظرية أو مقولة لا تتوافق مع طروحات العقيدة الماركسية واستنتاجاتها المؤقنمة ، حتى وان ادعت لنفسها تلك الفكريات والنظريات التزام جانب الحياد عن كل تحزب فلسفي / سياسي ، أو أعلنت وقوفها من جميع الإيديولوجيات المتصارعة على مسافة واحدة . والأنكى من ذلك إن أدبيات التثقيف السياسي / الحزبي ، لم تفتأ تحذر أنصارها ومريديها من مغبة الوقوع في حبائل الإيديولوجية البرجوازية ، التي من خصائصها إتقان فن الغش النظري والتمويه المنهجي ، بحيث لا عاصم من ذاك الشطط سوى الالتزام بالأفكار والطروحات والمقولات الأصلية الصادرة عن المراكز الإيديولوجية المعتمدة . ولهذا فقد استمر اعتبار النص الماركسي (الارثذوكسي) هو المصدر الشرعي والوحيد ، لكل من يروم الحصول على الاعتراف بشرعية انتمائه لهذا الفكر ، أو يسعى للانخراط بتنظيمات تلك الأحزاب . وهكذا فقد استبعدت وبإصرار غريب كل المصادر المعرفية الأخرى ، التي لا تحمل ختم المنظرين السوفييت من قائمة التثقيف الذاتي ، دون أن يفطن المعنيين بالأمر إلى حقيقية إن جبروت الماركسية ذاتها يمتح من معين فكر (برجوازي) يمتد تراثه إلى ما قبل الميلاد ، بعد أن شذبت أصوله وهذبت نوازعه وعقلنت مضامينه وانسنت تطلعاته . وفي هذا الإطار فقد سئل (لينين) ذات مرة مجموعة من شباب الكومونات قائلا”(( ماذا تقرأون ؟ هل تقرأون بوشكين ؟ )) . صاح أحدهم : (( كلا ، كان برجوازيا”. نحن نقرأ مايكوفسكي )) . فرد لينين مبتسما”(( برأيي إن بوشكين أفضل )) . والغريب إن كل الذين اجتهدوا لإخراج النص الماركسي من دائرة التابوات الإيديولوجية والمحرمات الحزبية ، والشروع من ثم بإعادة قراءته من منظور جدلي تاريخي مغاير للتصورات التي تحاول أن تسبغ عليه مظاهر العصمة وإلباسه جلباب القداسة ، التي سبق لماركس ذاته أن مزقها شرّ ممزق ، حين أطلق بوجه تلامذته الأدعياء ومشايعيه الاردياء ، ممن حاولوا تحنيط أفكاره وتنميط منهجه ، جملته المشهورة التي ذهبت مذهب المثل (( أنا لست بماركسي ! )) . نقول إن كل من سلك ذلك الاتجاه المنطقي معرفيا”ومنهجيا”، وصم بالردّة والانتكاس نحو الأفكار البرجوازية والرأسمالية تارة ، والتحريفية المثالية والميتافيزيقية تارة أخرى . ولعل هذا الأمر يفسّر لنا جزئيا”ظاهرة الانشقاقات والتصدعات التي تعرضت لها الحركة الشيوعية العربية ، وخصوصا”في نسختها العراقية ، تعبيرا”عن الاختلاف في فهم العقيدة الماركسية والتباين في إدراك مقاصدها والتغاير في اكتناه طبيعتها . وإذا كان التقوقع الإيديولوجي والتخندق الدوغمائي ، قد حرم الشيوعية العربية من إنتاج فلاسفة ومفكرين يمتلكون القدرة المعرفية والمرونة المنهجية ، لتخطي حواجز الممنوعات الموضوعية والتغلب على عوائق الممانعات الذاتية ، والوصول من ثم إلى لب الماركسية واكتناه جوهرها ، بحيث شجع هذا الأمر تنامي وتوطن ظواهر الكسل الفكري والعطالة المعرفية ، التي أبقت الفلسفة الماركسية بعيدة عن صخب تيارات التحديث في العلوم الاجتماعية والتطوير في المنهجيات النقدية . فان ذلك لا يعني إن وجودها ، ضمن أوساط الحركة الشيوعية الأوروبية ، معدوم أو إن قدرتها على التأثير ضئيلة . وهكذا فان قائمة التأثيم والتحريم والتجريم تمتد لتشمل أسماء لامعة من الفلاسفة والمفكرين لا تبدأ مع (بليخانوف) وأضاربه ولا تنتهي (بغارودي) وأمثاله ، مرورا”(بتروتسكي) و (التوسير) وسواهم – لسنا معنيين هنا بتقديم جردة بأسمائهم ومواقفهم – . فحين اهتدى الأول إلى رؤية الماركسية من منظور واقع روسيا بداية القرن العشرين وصم بكونه (منشفي) ، وأجبر على الخروج باكرا”من المشهد السياسي والفكري . أما حين توصل الثاني إلى قراءة الفلسفة الماركسية ، من منظور النسبية التاريخية والموضوعية المعرفية حكم عليه (بالتحريفية) ، واستحق على ذلك الطرد من الحزب الشيوعي الفرنسي . وحين أعلن الثالث تصوره المغاير عن (الثورة الدائمة) ، لما كان يعتقد انه التصور الماركسي / الستاليني القويم (الاشتراكية في بلد واحد) أدين بتهمة (الخيانة) ، وصدر بحقه حكم الموت وهو بالمنفى . أما حين اتجه الرابع إلى قراءة النص الماركسي قراءة بنيوية موازية للمنهجية الجدلية ، ناله ما نال مواطنه الثاني من عقوبة الطرد من الحزب المذكور .

* الانقطاع المعرفي والانخلاع الحداثي
لا يظنن القارئ إن استخدام عبارة (الانقطاع) المعرفي ضمن هذا الفاصل ، بدلا”من نظيرها (القطيعة) المعرفية كما هو شائع ، جاء من باب التلاعب الاعتباطي بالألفاظ أو حصل كاستجابة للصيغة المعروفة التي مؤداها ؛ خالف لكي تعرف . إنما تعمدنا ذلك وتقصدناه استنادا”إلى حدود فهمنا لمدلول كلا العبارتين ، في سياق الحديث عن مظاهر الركود الثقافي والجمود الفكري ، التي قد يعاني وطأتها الأفراد والجماعات مثلما قد تقع ضحيتها الشعوب والمجتمعات . إذ إن اللجوء إلى مفهوم (القطيعة) لتوصيف تلك الحالات والمعطيات ، يعد من وجهة نظر المنهجية الجدلية خطأ سوسيولوجي بقدر ما هو قصور ابستمولوجي ، ينطوي على جهل وسوء فهم بمضامين المفاهيم والمقولات ، التي غالبا”ما تعكس مستوى الوعي لطبيعة الظاهرة ونمط التفكير بخصائصها وعلاقاتها . ذلك لأن عملية (القطيعة) لا تحدث في الفراغ ولا تأتي من العدم ، إنما هي بالتعريف تعبير عن تحول نوعي / ارتقائي في سيرورات ؛ كيان اجتماعي استنفد طاقاته على التقدم ، وسياق تاريخي استهلك دينامياته على التطور ، ونظام رمزي فقد دوافعه على الإبداع . للحدّ الذي يغدو من الضرورة بمكان إحداث صدمات بنيوية عميقة وشاملة ، لا في أنماط العلاقات والسلوكيات والتواضعات والمسلمات فحسب ، بل وفي سساتيم الذهنيات والتصورات والفكريات والاعتقادات أيضا”. والانتقال بالتالي من طور ثقافي / فكري معين إلى طور آخر أرفع مكانة وأرقى مستوى ، يبني على أسس مدماك الأول ويحتوي انجازاته ويتمثل قيمه ويتخطى حدوده ويتجاوز تخومه . وهو الأمر الذي حفز عقول العديد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء ، للشروع بانجاز تلك المهام النبيلة والتطلعات الجسورة ؛ لا في إطار عرض وتحليل السرديات والإيديولوجيات الحداثية التي أنجبها عصر الأنوار فحسب – والتي لا تزال مجتمعاتنا المخصية تجهل طبيعتها الإنسانية وتتجاهل قيمتها الإنسانية لحد الآن – وإنما في مجال توالد الفكريات والنظريات وتناسل البراديغمات والمنهجيات لما بعد الحداثة أيضا”. هذا في حين تلخص ظاهرة (الانقطاع) شتى ضروب المساعي المقصودة والمحاولات المتعمدة ، التي مارستها وتمارسها أنظمة الحكم السلطانية ؛ لإيقاف مسارات التطور التاريخي ، وإعاقة أواليات التقدم الثقافي ، وتعطيل ديناميات الارتقاء الحضاري ، وكبح تطلعات التواصل الإنساني ، تلك التي تستحيل من دونها المجتمعات إلى مجرد أقوام متنازعة لحد الاستئصال المتقابل ، وقبائل متناحرة لحد الإبادة المتبادلة ، وطوائف متذابحة لحد الفناء المشترك . بحيث يتسنى لتلك الأنظمة تمرير وتبرير سياسات التجهيل السياسي والتضليل الفكري والتهويل الإيديولوجي والتخبيل النفسي . بمعنى آخر ليس فقط توفرها على إمكانيات إجبار الشعوب المعنية على قبول حالة العزلة الإنسانية والرضوخ لوضعية الدونية الآدمية ، عبر إحاطتها بستار حديدي من الممنوعات والمحرمات والمقدسات فحسب ، وإنما سوقها بالإيحاء تارة وبالرياء تارة أخرى ، للتماهي الطوعي مع كل ما يعزز حالة العبودية التي تتمرغ بمهانتها وتتعفر بذلها ، من خلال مسخ شخصيتها ونسخ هويتها وتسطيح وعيها وتشويه تاريخها وأسطرة ذاكرتها . هذا بالإضافة إلى إغرائها بالحيلة تارة وبالخديعة تارة أخرى ، لاجتياف نوازع التعصب القومي والتطرف الديني والتفرد التاريخي والتعالي الحضاري والتميّز الأخلاقي ، على حساب قيم التآخي والتعايش والتلاقح والتثاقف والتفاعل والتواصل . وعلى هذا المنوال فقد خضع المجتمع العراقي – أفرادا”وجماعات – لأنظمة سياسية طفيلية متعاقبة ، فرضت عليه سلسلة طويلة من الانقطاعات والانخلاعات شملت بنى الوعي بكل مستوياته ، وطالت أنساق الثقافة  بمختلف أنساقها ، ونالت أنماط المعرفة بشتى مستوياتها ، بحيث أفضت به هذه الحالة / الوضعية ، ليس فقط إلى النأي عن كل ما هو جديد في مضامير الفكريات ، والابتعاد عن كل ما هو حديث في حقول المنهجيات فحسب ، بل والوقوع في دائرة ما أسميه (بالانخلاع) الحداثي الذي من سماته الخروج باكرا”عن مسارات التطوير في حقول السياسات ، والتخلي عن محاولات التعمير في هياكل الاقتصاديات ، والانحراف عن منطلقات التنوير في بنى الثقافات ، والانفصال عن اتجاهات التغيير في أطر الاجتماعيات ، والنكوص عن تطلعات التثوير في أنماط المعرفيات . ولعل هذه المعطيات الارتدادية تفسّر لنا على نحو واضح ، سرّ عجزنا المزمن عن تخطي أطوار الاجترار السطحي للأفكار ، والتكرار الساذج للنظريات ، والترديد الببغائي للمنهجيات ؛ لا في طبعتها المعاصرة التي غيرت الموازين وقلبت المعايير وأزاحت المقاييس فحسب ، وإنما في صيغتها الكلاسيكية حيث شهدت مراحل أفول مجدها وتلاشي بريقها في بيئة إنتاجها ومحيط ولادتها . وهكذا ففيما كنا نرطن بالماركسية والليبرالية والبرغماتية والوضعية والبنيوية والوظيفية وسواها من الإيديولوجيات والسرديات ، فإذا بالعقود الأخيرة من القرن الماضي ، لاسيما بعد أحداث سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، تفاجئنا بحقيقة إن تجربة الحداثة التي لا نزال نتراشق التهم حيال كونها مناسبة أو غير مناسبة لطبيعة مجتمعاتنا ، مثلما إزاء صلاحية قيمها من عدمها لحرمة موروثنا التاريخي وقداسة مخيالنا الديني والأخلاقي . هي الآن على وشك أن تطوي صفحتها المليئة بالانجازات المذهلة والاكتشافات المدوية ، كما وتغادر مسرحها الذي ملأته بضجيج صراعاتها الناعمة / الباردة وصراخ حروبها الخشنة / الساخنة . بحيث إن مواطن (جمع موطن) الحداثة ذاتها تعيش الآن عصر تحولات ما بعد الحداثة ؛ ليس فقط على صعيد المؤسسات والعلاقات والممارسات فحسب ، وبل وعلى مستوى الفكريات والاعتقادات والمنهجيات أيضا”. للحدّ الذي ألزم الفلاسفة والمفكرين والعلماء للانخراط – منذ عقد ستينات القرن المنصرم ولحد الآن – بحملات إعادة قراءات وتصفية حسابات لكل ما أنتجه العقل الغربي من أنظمة معرفية وسساتيم فكرية وبراديغمات منهجية . وهكذا فقد غمرتنا على حين غرة (منذ عقد التسعينات) موجات ؛ التفكيكية والجينالوجية والهرمينوطيقية وغيرها من الصرعات الفكرية والمنهجية ، التي اكتسحت مختلف أنواع العلوم الإنسانية والاجتماعية ، واضعة بذلك حدا”للمسلمات الراسخة في حقل الأديان ، والبديهيات القارة في مضمار الحضارات ، والتواضعات الثابتة في ميدان التصورات . وهو الأمر الذي وجد صداه ليس فقط في هزال ثقافتنا واضمحلال معارفنا وابتذال وعينا فحسب ، وإنما في محنة تخبطنا في السياسة ولعنة تأخرنا في الاجتماع . 

* الثقافة بين عصرين : من الإيديولوجيات إلى المنهجيات
يكاد المجتمع العراقي ينفرد دون سائر أقرانه من المجتمعات المجاورة والتي تقع ضمن محيطه الجغرافي ، لجهة خوضه تجارب عديدة واجتراحه ممارسات متنوعة تمخضت عن ؛ تواتر الانقلابات العسكرية البيضاء والحمراء ، وتوالي البرامج الحزبية اليسارية واليمنية ، وتعاقب الأنظمة السياسية الرأسمالية والاشتراكية ، للحدّ الذي جعل من سقوف توقعاتها تبدو حبلى بالوعود السخية والآمال العريضة . غير إن شيئا”من التحول النوعي والتبدل الكيفي لم يطرأ على نمط الإدراك الفردي وبنية الوعي الجمعي ، بما يحفزها لتحايث التغييرات السياسية وتواكب التطورات الاجتماعية ، وتستجيب ، من ثم ، لانثيال التداعيات التاريخية والتحديات الحضارية . إذ لم تفتأ الثقافة – بما هي بوصلة معرفية تعقلن التصورات وتشرعن الخيارات وتأنسن العلاقات وتحضرن السلوكيات – تعاني الانحباس بين قيود ؛ الإيديولوجيات الراديكالية ، والسرديات الأسطورية ، والذهنيات الأصولية ، والانتماءات الفرعية ، والولاءات التحتية ، والعلاقات الاستزلامية . وهو الأمر الذي أفضى بها إلى الانخراط بتيارات الاستقطاب القومي / العنصري ، والتحندق الديني / الطائفي ، والتمترس القبلي / العشائري ، والتحصن الجهوي / المناطقي . بدلا”من أن تربأ بنفسها عن كل ما من شأنه ؛ تعميق الانقسامات السيكولوجية بين الأقوام ، ومضاعفة التشظيات الإيديولوجية بين الأحزاب ، وتأجيج الخلافات التاريخية بين الطوائف . وتؤبد بالتالي مظاهر التخلف الاجتماعي ، وتخلد ظواهر العنف السياسي ، وتسيد علاقات التطرف العصيوي . وهكذا ففي الوقت الذي تتجه فيه منظومات الثقافة وسساتيم الفكر ، لدى المجتمعات المتحضرة إلى نبذ كل ما من ؛ حشر عناصر الوعي الجمعي ضمن أطر قوموية / سلالية ضيقة ، وحبس مقومات الإدراك الفردي ضمن تصنيفات سيكولوجية مغلقة ، وتقنين الذاكرات التاريخية ضمن مركزيات حضارية متقاطعة . بحيث تتبدى لها ماهية الإنسان عبارة عن صيرورات مستمرة من ؛ التحولات البيولوجية ، والتطورات الاجتماعية ، والتراكمات المعرفية . وتضحى أمامها طبيعة المجتمع بمثابة سيرورات دائمة من ؛ التفاعلات الجدلية ، والترابطات الوظيفية ، والتواصلات الإنسانية . وتستحيل لديها خاصية التاريخ إلى ما يشبه الشبكة الحية التي تتلابس في نسيجها وتتداخل في تشكيلاتها ، شتى ضروب الممارسات الواقعية والفعاليات الرمزية . نقول في الوقت الذي تتجه فيه إرهاصات الثقافة والفكر على هذه الشاكلة التطورية / الارتقائية هناك ، فإنها استحالت هنا – لدى الشعوب المتحجرة والمتبربرة – إلى انساق مغلقة تتجنب الانفتاح على الآخر ، ومنظومات متكلسة تخاف المرونة في التعامل مع المختلف ، ونصوص جامدة تخشى التعاطي مع التأويل المغاير ، وتصورات منمطة تتحاشى التثاقف مع الرأي المفارق . وعلى وفق هذه الانكسارات والارتكاسات نلاحظ ؛ انه بقدر ما ينحسر ، في المجتمعات الأولى ، مدّ التيارات الإيديولوجية ويبهت بريق السرديات العقائدية ، لاسيما في إطار رؤيتها لطبيعة الواقع وقوانين حراكه ، وتصورها لأنماط المجتمع وأواليات تغيره ، وتفسيرها لبنى الوعي وديناميات تطوره . بقدر ما يتعاظم زخم الموجات المنهجية (التاريخية والنقدية والتفكيكية والتأويلية ، الخ ) ، التي لا يوجد في عالم المعاش والملموس والعيني ، مثلما الافتراضي والمجرد والمؤمثل ، ما لا يخضع لاشتراطاتها المفضية إلى الغوص في الأعماق الانثروبولوجية ، الحفر في الطبقات السوسيولوجية ، والتنقيب في الرواسب السيكولوجية ، والبحث في الطمى المخيالية ، والتعرية للتمثلات الأسطورية ، والمسالة للمعتقدات الدينية . وهو الأمر الذي يحمل بنى الوعي وانساق المعرفة وانظومات الثقافة على ترك تخومها مشرعة وآفاقها مفتوحة ، ليس فقط لاستقبال كل ما هو جديد في مضامير الفكريات والثقافات والحضارات والديانات والهويات فحسب ، وإنما لاستدخال كل ما هو مستحدث في حقول المؤسسات والممارسات والعلاقات والتشريعات أيضا”. أي بمعنى تحرير (الوعي الثقافي) من كل تصور دوغمائي يعيق تفتحه وتلاقحه بما يجعله خصب ومنتج ، وانتشاله من كل وصاية مسبقة تمنع تطوره وارتقائه نحو فضاءات أغنى وأرحب . وهكذا فقد تمخضت جهود الفلاسفة ومحاولات المفكرين عن انبثاق قراءات مغايرة للسيرورات التاريخية (راجع كتاب ؛ التاريخ الجديد ، لمؤلفه جاك لوغوف وجماعته ) ، واجتراح مقاربات مختلفة للبراديغمات الفكرية ( راجع كتاب ؛ براديغما جديدة لفهم عالم اليوم ، لمؤلفه آلان تورين ) ، وطرح تصورات مباينة للمنظومات الفلسفية ( راجع كتاب ؛ ما هي الفلسفة ؟ لمؤلفيه جيل دولوز وفيلكس غتاري ) ، وابتكار طروحات مفارقة للمقاربات التأويلية ( راجع كتاب ؛ الحقيقة والمنهج لمؤلفه هانز جورج غادامير ، وكتاب ؛ صراع التأويلات ، لمؤلفه بول ريكور ) . هذا في حين استمرت – رغم كل الثورات المعرفية والانقلابات المنهجية التي عصفت بالفكر الاجتماعي طيلة العقود الخمسة أو الستة الماضية – عناصر الثقافة في المجتمعات الثانية ، تعاني ليس فقط من هزال إنتاجها وتردي حيويتها الإبداعية فحسب ، بل وتشكو من اضمحلال قدرتها على التلاقح والتثاقف ، ناهيك عن ضعف مقاومتها إزاء الغريب من القيم  والعجيب من الممارسات . ومع ذلك وبرغم كل المحرمات والممنوعات التي أعاقت حركة الثقافة العربية عامة والعراقية خاصة ، وحالت من ثم دون تطورها واسترداد عافيتها ، لاسيما لجهة التخلص من الاستقطابات السياسية ، والنأي عن الاستتباعات الإيديولوجية ، والتحرر من الاملاءات الأصولية . فان هناك من حاول رفع قيود الحصار عنها ، وإزالة طوق الوصاية المفروض عليها ، عبر مساهمات رصينة ومحاولات جادة وان بدت متباعدة زمنيا”ومتفرقة مكانيا”، إلاّ أنها كانت بمثابة الحجر الذي ألقي في بركة راكدة . حيث طبعت بصماتها وتركت آثارها بين طيات الوعي و أخاديد الفكر . وهكذا فقد انبرى جيل نابه من المفكرين والكتاب العرب والعراقيين ، ممن احتك بحضارة الغرب وتذوق منتجات حداثته ، سواء في مجال الفكريات والنظريات والمنهجيات ، أو في مضمار المؤسسات والسلوكيات والعلاقات ، بحيث لم يكتفي فقط بمقاضاة مظاهر الركود الثقافي والجمود الفكري فحسب ، وإنما بادر – بعد أن استوعب زبدة الأفكار وتمثل خلاصة القيم ، التي أسهمت بنقل المجتمعات الغربية من طور السجالات الإيديولوجية والمماحكات السردية ، إلى طور الحوارات الفكرية والإبداعات المنهجية – بمحاكاتها في مجال التحليل للظواهر السوسيولوجية ، والنسج على منوالها في مضمار التأويل للنصوص الابستمولوجية ، والحذو حذوها في إطار التفكيك للسرديات التاريخية . وهكذا فقد بزغت أسماء لامعة وشخصيات متألقة في مجال مفهمة التاريخ والثقافة والاجتماع واللغة والدين أمثال ؛ خليل عبد الكريم والسيد القمني وعبد الله العروي وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وعلي حرب ومحمد أركون وعبد الله الغذامي وسواهم – ممن لا يسع مجال الموضوع ذكر أسمائهم جميعا”- حيث استطاعوا أن يسهموا كل في مجال اختصاصه العلمي ، وحسب إمكانياته الثقافية ، وقدراته المعرفية ، واجتهاداته المنهجية ، في خلخلة اليقينيات الإيديولوجية المتأصنمة ، وحلحلة القناعات الفكرية المؤقنمة ، التي كانت وراء استشراء ظواهر ؛ تعليب الوعي وتنميط الفكر وتحنيط الثقافة وأسطرة التاريخ ، وتعيق من ثم فئات النخب مثلما طبقات الشعب ، من الاهتداء إلى حقيقة سوسيولوجية وايستمولوجية ، طالما حجبها تعهر الأحزاب الراديكالية ، وتحجر الحركات الأصولية ، وتهور الخطابات الطوباوية مؤداها ؛ إن لمدماك الفكر أكثر من باب وان لمعمار الثقافة أكثر من سبيل . فلماذا إذن يا ترى ، والحالة هذه ، نستهلك طاقاتنا في تشويه الأفكار العقلانية ، ونستنفد قدراتنا في مسخ الثقافات الإنسانية ، وذلك من خلال سحبها ومطها إلى أبعاد كونية مطلقة الزمان والمكان ، في حين نجهل ونتجاهل أنها تنتمي لحقول شتى من النسبية الاجتماعية والمعرفية والنفسية والتاريخية والحضارية ؟! . 
[email protected]