18 ديسمبر، 2024 5:57 م

خزعبلات تقمص الممثل للشخصية

خزعبلات تقمص الممثل للشخصية

حينما يتم قياس جودة اداء الممثل وعندما يكون الحكم على نجاحه من عدمه هو القدرة على تقمصه للدور الذي يمثله, يكون لزاما النظر لكل التناقضات التي ترد من خلال تطبيق هذه المعادلة الغير مسندة إلى حقائق علمية, وكأي ظاهرة تواجه الانسان حين عجز العلم عن تفسيرها يكون ملاذه الخرافة, فالتفكير الخرافي يحاول ملىء الفراغات إلى حين يتم اكتشاف عدم منطقيته, وفي البحث عن ظواهر الانسان لا العلوم التطبيقية نجد إن هنالك رؤية غير علمية تلف غموض عمل الممثل بحيث اتخذت لها اطارا شبه علمي يتعذر على الكثير المساس به بطرق علمية, وذلك لانها اصبحت من المسلمات, وبتعبير اكثر دقة فقد اصبحت من المتطلبات الضرورية لانجاز صورة عامة عن فن التمثيل حينما يتم التعرض له في البحث العلمي الاكاديمي, ومع إن جل التناقض واقع فعلا في توصيف مكانة هذه المسلمات وعلى رأسها تقمص الممثل للشخصية, وبالتحديد في المجتمع الاكاديمي الذي جعل منها تأريخا لابد وان يبدأ به البحث العلمي الاكاديمي في فن التمثيل, حتى يكون شاملا ومنطقيا, ولأن هذه الخرافة التي تفتقر إلى ادنى حد من الدليل العلمي اصبحت مقياسا اكاديميا بعدما كانت الحد الفاصل الذي يترتب عليه تصنيف الممثل في قائمة النجوم جماهيريا, صار من شبه المستحيل الخوض في عدم اهلية مبدأ تقمص الممثل للشخصية, كمقياس على نجاحه, مع ان المستحيل لا ينتمي للعلم ولا البحث الاكاديمي.

في كتاب إعداد الممثل لستانسلافسكي في الفصل السادس عشر الذي عنوانه عند مشارف العقل الباطن يقول في الصفحة 375 ( من الخطأ إن نتصور إن الممثل يعيش صورة أخرى من الحقيقة أثناء قيامه بعمل إبداعي على المسرح, فلو إن هذا هو الحال لعجز كياننا الجسماني والروحي عن احتمال مقدار الجهد الملقى على عاتقه ), هذا التصريح بحد ذاته ليشكل صفعة قوية جدا لكل الآراء الواردة حول ستانسلافسكي واهمية تقمص الشخصية لديه, وايضا هو كشف التناقض في ما يريده من الممثل, بالتالي لا يمكن مع هذا التصريح القول بأن ستانسلافسكي قد وصل إلى طريقة في فن التمثيل اساسها تقمص الممثل للشخصية, فالصورة الاخرى التي يوضحها هي الشخصية التي لا يمكن لممثل إن يبدلها بضخصيته كما يذكر, والا فمن يقول بتقمص الممثل للشخصية يخالف ستانسلافسكي اكثر مما يتناقض ستانسلافسكي مع نفسه, بل إن الممثل حسب تصريح ستانسلافسكي سيعجز روحيا وجسمانيا عن احتمال جهد محاولة التقمص للشخصية اثناء اداءها, بالتالي ستكون العقبة امام ابداعه هي محاولة التقمص ذاتها لا غير, وهنا لا يمكن بعد هذا الوصف الذي جربه ستانسلافسكي بنفسه كممثل, إن يقال إن ستانسلافسكي يعلم الممثل تقمص الشخصية والا لما وصف التجربة بهذا الشكل, وان لم يكن ستانسلافسكي يؤكد على تقمص الشخصية فعلى ماذا يؤكد ؟, انه بلا شك لا يملك إن يخرج عن مساره المتناقض فهنا لا يؤكد تقص الشخصية الا انه في مقولات اخرى يؤكد تماما إن الطريق لنجاح الممثل هو تقمصه للشخصية, بالتالي لن يتم الفصل بتأكيده او عدمه, الا إن الاهم هو كونه لا يملك طريقة لما يؤكد عليه وهو تقمص الممثل للشخصية, بل لا يملك ايضا طريقا مغايرا لتقمص الممثل للشخصية, فماذا بقي لستانسلافسكي ليضيفه لفن التمثيل اذن ؟, ليس اكثر من تاريخ ممثل يسرد مذكراته مع فرقته المسرحية, ليس اكثر من مقولات انية لا تمت لخلاصة تجربة الا بتوجيهات اخلاقية عن اهمية إن يلتزم الممثل بوقت التمرين كأي توجيهات تخص أي عمل ومهنة اخرى لا توجد فيها أي خصوصية لفن التمثيل ومهنة الممثل, وخاصة فيما يتعلق بطريقة عمل الممثل التي تتأرجح في تناقض معلن بمقولاته بين تأكيد التقمص وعدم امكانية التقمص, فلا يبقى للممثل من ستانسلافسكي غير كونه ممثل كأي ممثل يكتب سيرته الذاتية ليس الا.

إن المشكلة في تناول ستانسلافسكي وما عرف عنه بتأكيده على إن طريق نجاح الممثل هو تقمصه للشخصية ليست مشكلة فنية تخص فن التمثيل اكثر منها مشكلة اكاديمية, فالبحث الاكاديمي لا يعامل ستانسلافسكي كأي ممثل اخر كتب سيرته الذاتية على شكل مذكرات بل يعلي من شأنه وكأن ستانسلافسكي هو اساس فن التمثيل مع انه هو ذاته لا يقول بذلك ولا يدعيه بشكل ما ودليل ذلك إن ستانسلافسكي يشيد بممثلين ومخرجين اخرين سبقوه وفي عصره بشكل لا يعطي انطباعا انه يرى نفسه قائدا لتلك المرحلة التاريخية على مستوى فن التمثيل العالمي, والغريب إن هنالك مقالات وبحوث ودراسات تعطيه ما لا ينسبه لنفسه بالشكل الذي يجعل ستانسلافسكي ذاته ليستنكر لو وصلت اليه, والاغرب استمرار اعتباره مدرسة لفن التمثيل لها اثار عالمية وليس على البحث الفني الا الكشف عن من قلدوه في العالم, والا كان الاولى بكل بحث في فن التمثيل إن لا يبدأ من ستانسلافسكي كنقطة بداية, بل هو سطر في صفحة تعج بأسطر اخرى, وتلك الحيادية الموضوعية التي يراد من البحث الاكاديمي إن يقر بها منهجا على صعيد الدراسة او النقد الفني, ليست بالمستحيل تحقيقه, بل الواجب اتباعه لكي لا يكون للتاريخ الاكاديمي تحريف اكبر مما حصل مع ستانسلافسكي, بغير قصده, وبغير علمه, وبدوافع اقل ما يقال عنها غير علمية.

لو إن الاساس الذي قامت عليه البحوث الاكاديمية التي اتخذت من تقمص الممثل للشخصية عنوانا لستانسلافسكي قد بني بحسب المتوفر من المصادر التي من شأنها لوضع تاريخي معين العبث بمجريات بحث او دراسة او مقال نقدي, لكان الاولى عدم اغفال كوادر اعدادها ما يصرح به ستانسلافسكي نفسه, لكن الذي يحصل هو الاعتماد على جزء من مصادره بل واقتناص المسلمة البديهية وتكرارها لتكون حقيقة علمية فقط لانها مسندة ببحث اكاديمي, الا إن هذا الحال بوجود اطار اكاديمي وغطاء مؤسساتي لا ينقذ من المراجعة النقدية لمدى الابد, فلما كان البحث العلمي مستندا إلى العلم الذي لا يقبل بالمسلمات ولا يقف على البديهيات والا فقد قيمته منطقيا, ليس واردا إن يقف عند عدم مراجعة تحريف سيرة ذاتية لتكون نظرية شاملة في فن التمثيل.