8 أبريل، 2024 5:36 ص
Search
Close this search box.

خزانة حجر للشاعر هيثم عيسى : الدخول في كُنه الحَجرْ بسُلطان اللغة وأزميل الشعرْ!

Facebook
Twitter
LinkedIn

لو تأملنا الأحجار في خزانة الشاعر هيثم عيسى , نجد انها تمتلك حقيقة و تأريخ يختبآن فيها , فأحيانآ يفتتن بها الإنسان فيسهل إغوائه لأنها مستودع للحقيقة والزيف ما يجعل الإنسان ينساق ورائها سواء كان قويآ أم ضعيفآ ما يتسبب أحيانآ في معاناة له وخداع لأن في ذلك إنتهاك لأسرار لا يراد الكشف عنها .
وإذا تأملتها من ناحية أخرى تراها شواهدآ لعصور كاملة , وكائنات إذا قارنتها بكائنات أخرى , عصور لأنها ترتبط ترابطآ خفيآ بعالم لا مرئي وآخر مرئي . والحجر شيء غير مبتذل أو خامل في الطبيعة , بل كينونة ملهمة للعقل الإنساني سواء للأفضل أو للأسوأ . فأي مركبة vehicle أختارها وتعلق بها الشاعر المتميز هيثم عيسى في مجموعته هذه وشغف بها , بل وأستبدت به ليصفها ويصنف كينونات أفكاره ومصائرها بأزميل لغة ذكية ونادرة بالإستعارة metaphor جعلها صور مصغرة epitome لتطور الإنسان في صراعاته التراجيدية وافراز معايير محددة للخير والشر والتفريق بينهما من ناحية والخليقة بشكل مختزل للوصول الى المعنى العميق او المغزى tenor الذي يريده أو إحالة القاريء اليه retort بقوة وحرية بلغة شعرية مرنة تكتسب لقب أزميل , وموسيقى متنوعة في جميع قصائد المجموعة من ناحية أخرى :
ليس لي إلا أن أضع رأسي
فإنما أنا حجر ملقى على حجر (حجر الدم ص11 )

في قصيدة ” حجر الدم ” , يبدأ الشاعر مجموعته بهذا المقطع كما تبدأ البسملة , لندرك فورا أن لديه مشروعا شعري ذو بنى حجرية ومفهوم ينص على وجود كنه مرئي وآخر غير مرئي فيها ليبدء مشروعه , فيقر بالأستسلام , بل والشهادة أولآ لحقيقة أنتمائه ولا مفر من قدره , فهو من تراب ويعود الى التراب الذي يملأ فمه . وهو لايقلب المعادلة بالتشابه بين الأصل والأختلاف بالأرادة ليصبح كنها مختلفآ . وماذا بعد ؟
فلنتتبع مايقوله عن مشروعه بعدما نطق بالمعرفة المختزلة بالحجر التي تقول أن الأصل يعود الى الأصل :
وإذا الأرضُ رمانة تفتتتْ
وتوهَّجت حبّاتها
………
………
وتجاوبت بين نجومها ضربات مِعول ( القصيدة نفسها )

من هنا يبدأ بالإستعارة الفريدة لتشمل جميع القصائد في إحالة القاريء الى اتباع آلية البحث في القاع عن المغزى الذي يقود الى مراحل تطور الإنسان . فمن خلالها , هنا , يصف الخلق والتكوين ودبيب الحياة المطاوع للتحفيز بصور جميلة , ويتبدى لنا أن الإنسان بقدرته على التحول من اساسيات الحياة , أو التغيّر يبدأ من بيئة الحجر ويتطور بتطور الوعي . فعهد يبدأ ويستبدل بعهد يهيمن فيه الإنسان على كل شيء ليصبح السيد والعبد معآ , القاتل والمقتول , المؤمن والخاطيء , ولكن بإيقاعية واعية للشاعر كما تبدو هنا بإستخدام الأفعال المضارعة : أضع , تصنع , والأفعال الماضية : تفتتت , توهجت .. وتجاوبت , لتنسجم القصيدة في نسقين ; الأول سردي حكائي للمكان المتخيل من جانب القاريء والثاني تطويري زمني للكينونة التي أنعتقت مضيئة بعدما كانت خامدة أو مجهولة :

كثر فيها سَرَقَة النار .. وتجاوَبت
بين نجومها ضربات معول
هرع أبن آدم .. يبحث عن الصخرة
التي تقتله وتصنع تمثاله ( القصيدة نفسها)

هذه الصياغة النحتية بالكلمات تنتقل للمقطع الثاني لتثير حدس القاريء ان ” المعول ” هو الرمز الذي شطر الخليقة مابين سَرَقة النار وهم أنصار البشر , من ناحية , الذين ذكروا بالميثولوجيا اليونانية وبطلها بروميثيوس , ومن ناحية أخرى دينية هم آكلي السحت الذين يأكلون الحرام وفي يوم الحساب تخرج أمعائهم وتسحل بالنار . فهم بأكلهم الحرام كأنهم يسرقون النار ويدخرونها في بطونهم لتحرقهم , وضاربي المعاول المصطفين معهم وبين أبن آدم الذي دأب على البحث عن ذاته التي تقتله وتارة تمجده وكأن الشاعر يفضح البنية التي أبتدأ منها الإنسان والصراع الأزلي بين الخير والشر بشكل يثير الفضول ويهيء القاريء للدخول في قصائده اللاحقة .

تُرى ما الذي طال الإنسان إثر ذلك ؟! هل غدا كائنآ للسلطة للإحتماء بها ؟ أم هي حركة عصفت به , حركة في جوهرها إنطلاقة وفي ظاهرها صدمة لنشوء صراع داخل هذا التغيير الذي يراه الشاعر ؟ ووفقآ لهذا الصراع الذي يتخذ أنماطآ عديدة من بينها الحرب , نرى تشتتآ لجهد الإنسان وسوء أختيار مما جعل هذا الصراع من نتائج تحول الإنسان بطائل وبلا طائل أحيانآ :

حين أدرك القلّة أن خيارهم الوحيد
هو الحرب
جمعوا المتاع والأطفال وكبار السن
وأغلقوا أبواب مدينتهم ( حجر المحك ص13)

في هذه القطعة الشعرية من قصيدة ” حجر المحك ” , عهد يطل بصورتين ; الأولى بالسلوك والتفاني في حل الكثير من العقد كما يراها الإنسان وإن كانت بعيدة عن المنطق والعقل لدى البعض إلا أنها عند االبعض الآخر تعد فهمآ ابعد من فهمنا , فالإنسان يرى أن مايكسبه من ماديات الكون على حساب الزمن هي ضرورة قصوى في الأعم الأغلب . ولهذا يقرر الأحتفاظ برأيه العنيد رغم الهزيمة التي يراها لا مفر منها . لذلك تجلت خسائره المادية المرئية والملموسة المتمثلة بالمتاع والرجال الكبار بتعبير مستلهم من إدراك له صلة بفهم طبيعة القوة . أما الصورة الثانية فهي صورة الصراع الفاشل الذي يصل الى حرق الكينونة والمغزى الداخلي الذي يمنع التحول الى العبودية والأستسلام لقوة سعت الى كسرها .
وهذا المغزى يحيلنا الى الملحمة الشعرية التي كتبها الشاعر الصوفي مالك محمد جياسي في القرن السادس عشر الميلادي . الملحمة التي حملت أسم ” بادمافاتي ” وتتحدث عن مملكة راجبوت الهندية وكيف تعرضت الى غزو السلطان علاء الدين الخلجي بعد أن غدر بملكها السلطان راتان سنغ زوج الملكة بادمافاتي بدافع الطمع بها للزواج منها اولآ , وبدافع الأنا المتكبرة ثانيآ ما جعل الملكة تقود الحرب بنفسها , فأغلقت أبواب المملكة وجمعت كل النساء والرجال والأطفال في قاعة الحصن الكبيرة وأحرقوا أنفسهم بالنهاية لكي لايحصل الغزاة على مبتغاهم :

في الخراب الأول
نفد المتاع
………
………
ونخلة نخلة
نفد كبار السن

ومن أجل أن تبقى الأبواب مغلقة
أحرق البقية أنفسهم (القصيدة نفسها)

في قصيدة ” حجر الشمس ” يعبر الشاعر بأسلوب خطابي عن مكان النشوء , والتكوين ورحلة الوعي قبل الوصول الى الوعي العام والأنجرار اليه , إذ لا يوجد صراع ونحن بلا أنجرار اليه . ولا ملامة على ذلك ولكنها ليست دعوة الى الفوضى , بل إشارة الى الأختلاف بين انسان الماضي وانسان الحاضر . فالمأوى هناك محزن برغم كونه غاية ووسيلة :

هناك
حيث لا يسأل الخائن
هناك
حيث الصرخة الأولى
هناك
حيث لا مأوى سوى الدموع ص 15

المذكور بالنص هو ربما صورة العودة الى مكان النشوء , لتعلق الأشخاص بالأشياء وهنا أعني مكان الولادة , الصرخة الأولى بعد ان تراجع في تعميم تحوله وهي خيبة أمل وحزن وضياع . فهل يدعو الشاعر الى مقارنة عصرنا هذا : عصر الظلم وذروة الهيمنة بعصر النشوء ؟ فالحوار القائم بين الإنسان الحالي لايضمن الحب , بل يسرقه على الرغم من استجابة الزمن وحركته إلا أنه يتحول الى التحكم والخضوع والسيطرة :

هناك
حيثُ حجارةُ الزمن
حيث لا يُسرق الحب ( القصيدة نفسها)

أيُّ كنه , ياترى , في هذا الحجر يريد منا الشاعر أن نقرأه ؟ هل هو كائن حي أحتل مكانا رفيعا ثم خضع للسيطرة والتحكم ومورست عليه أفعالآ تهديمية ما يدعونا الى الأنشداد الى القديم : الزمان والمكان ؟ أو ربما الى القيم الإنسانية التي بدت في ظاهرها سلبية إلا أنها انتماء غريزي وأحتماء بالتلازم بين الإنسان والحجر مما ينتج عنه سلوكآ يصعب فرز احدهما عن الآخر وهذا ربما ما لا يدعو اليه هيثم عيسى :

الحجر
وحده يُعتِقُ الحجر (القصيدة نفسها)

والظاهر هنا هو تقنية الإنسان في الماضي , يتحكم بها لإثبات وجوده أمام الظواهر الطبيعية وقوى الطبيعة التي تفرض نفسها كما تمارس سيطرتها على الآخرين . فالحجر الذي يحقق له النصر هو نفسه الذي يحقق له الحرية وهذا مايراه الشاعر لأنه ينظر الى كنه الحجر بخلاف الكنهه الحالي الذي نسي ذاته , بل مبرر وجوده .

في ” حجر الزند ” وبلغة ذكية دأب فيها على أستخدام الأستعارات التي تعيد الى الماضي , تتوضح دعوة هيثم عيسى وهو يعظنا لإتباع ستراتيجيات لتجاوز السيطرة على الذات الإنسانية والفوضى والمشاكل التي تقدمها الحياة يومآ بعد يوم لسائر البشر فتستخلف مشاكلآ تدور وتدور بلا نهاية وذلك بإيجاد الحلول ولو اننا ننتهي بسببها الى الموت كما انتهى اليها ذبيح الفرات . لأن من الضروري أن نتخذ القرار الذي يعطي الإجراء المؤثر القادر على التغيير :

المصائر الدائرية تجهل الى اين تمضي
فكن رأسآ على رمح ص 17

فالإنسان وبغض النظر عن ضعف أي تقنية لديه يجب ان يُحدث فرقآ بين فكرة التابع والخاضع وبين فكرة تحرر الإنسان لتحقيق الحلم الذي يخطط له :

كن خارج الصواري المحطمة
حيث تولد الشمس (القصيدة نفسها)

باللغة الأستعارية نفسها وبتكرار فعل الأمر ( كُن) في مقاطع القصيدة يتهيكل التعبير عن التعارض المبدئي من جانب هيثم عيسى لما يجري الآن وكأنه يطرح رؤيته وأحساسه كشاعر بما تؤول اليه الأحداث من عواقب بأسلوب حواري مع القاريء موضحا ضرورة القرار أو المصير :

ومثل روح زرقاء على حدّ موسى
كن .. كن وحسب ( القصيدة نفسها)

تستمر دعوة الشاعر لنا لخلق عالم له صلة بالعقل وكأنه يقول : ” أفعل مافي وسعك وأتخذ القرار فإن فشلت فذلك الوجه الذي ينبغي أن تراه بنفسك , وجه يتطلب الأعتراف به والندم عليه إذا رغبت بالتغيير دون سلطة أو سيطرة ” . وهنا معطيات فعل الأمر ( إفعلْ ) :

كن رأس الحكمة
وإفعل شيئآ تندم عليه (القصيدة نفسها)

في نهاية القصيدة يظهر الشاعر تسامحآ سببه أن الإفراط في النزاعات والإبتعاد عن العقلانية يوقع في شرك الأستبداد ومن ثم الى فقدان الحرية . فهو يلمّح بلغته الأستعارية الذكية نفسها بأن يكون الراعي مسرورآ برعيته , عاملآ بقواعد الصواب والخطآ والندم وبالحكمة والفضيلة وليس سيدآ مستبدآ يبسط يده بالخفاء عليها ليزدريها ويستلب حريتها لتصبح مروضة فيطفح الطغيان وروح الدهماء القطيعية :

لا تكن سيدآ في قطيع
الحرية لا تنحت بأزميل أعمى (القصيدة نفسها)

في قصيدة ” حجر الأم ” يرى الشاعر أن الحزن رفيق الجمال , ينبئنا أن في عمقه التأريخي كانت حضارة عمرها ستة الاف سنة وكان فيها الإنسان في أعلى سموه , هذه الحضارة وثقتها الواح الطين جيلأ بعد جيل . في هذا الأستكناه تلميح بأن الحجر لم يقف عن الحركة رغم الصمت , بل وجد في صمته إنتقامه . إنها تضحية بالدرجة نفسها التي ضحّى بها النبي إبراهيم .
إن أستخدام صورة لتكون نقيض صورة أخرى هو أسلوب وجد في المسرح وهو توظيف شخصية ذات خصائص لتكون على طرفي نقيض لشخصية أخرى antagonist . وهي كذلك مقارنة بين الحزن والجمال بطريقة يصعب إدراكها إلا بالشعر , أستخدمها هيثم عيسى بشكل بالغ الذكاء كنوع من الطابع غير المألوف في الشعر على وجه الخصوص عما تناوله البعض من شعرائنا المبدعين :

في أقاصي هذا الحزن
ستة الآف عامٍ من الجمال
البشرُ في اعاليه
حجرٌ يُستبدلُ بتاريخ ص 20

عن ” حجر الملح ” وهي قصيدة لمعركة يعرضها الشاعر للتأويل والتفسير برمزية الملح في الادراك الجمعي , وهي من ابيات قصيرة وطويلة سردية تمتلك تقنية وبنية تختلف عن القصائد السابقة تحث على دراستها من الداخل , فهي قصة تتكلم عن ” منزل العميان ” تحيلنا للوهلة الأولى الى لوحة الرسام الهولندي بيتر بروغل ومقولة السيد المسيح : ” دعهم وحدهم , فهم عميان يقودهم عميان ” في آن واحد . القصة في القصيدة تؤرخ واقعة او ازمة نفسية مر بها الشاعر وهي كذلك مصائر آلت الى مصائر :

سوى منزل العميان
تنكّر كل شيء ص 24

يرصد الشاعر في هذين السطرين صفة الزيف بكل شيء , إلا جزء من الحياة , وهي مخاطبة للوعي الجمعي بان الخلق احيانا يتحرك ويمضي قدما ثم يتهاوى ويضمحل كفص الملح من دون ان يدرك الانسان لما حدث , فهو إذآ كيان وصف من الداخل , نستقرأ فيه أن الزمن كان طويلآ ومتسلسلآ وأن هذا الكيان حفل بأحداث مروّعة إلا من شريحة العميان :

ولأنهم لم يضعوا الرماد موضع الرمل
فتحوا زجاجة العطر ( القصيدة نفسها)

لم يعمد الشاعر – هذه المرة – الصعوبة وتعقيد التراكيب الجملية , ربما لأنه يريد مدّ جسر بينه وبين القاريء لما يتميز هذا الشكل من القصيدة عن قصائده السابقة . فلو اعتبرنا القصائد السابقة ذات صوت يشبه الهمس الذي يصعب سمعه ( = فهمه ). ففي هذه القصيدة ينطق شاعرنا بصوت عال ( = مفهوم ) وبدفق شعري سهل .
أزمة هؤلاء العميان انهم اختلفوا عن القوانين الحقيقية لحياة الزيف السائدة , بمعنى آخر انهم ارادوا الخروج عن الأعراف وهذا هو الخطر او الجهل الذي عرضوا انفسهم له فبسطوا امامهم القوارير المليئة بالأسرار مما تلهب الخيال فتحيل مأوى هؤلاء الى فردوس واحجار بصرهم الى حجر من شمس لزمن محسوب من ناحية والخطيئة التي افرزها الجهل ما جعل القاريء يتعاطف مع العميان من ناحية اخرى :

وبحجم الصمت الذي يملأ كبريائهم
أشعلوا السراج ( القصيدة نفسها )
……………….
………………
حتى اذا انكشفت سوأة الملثمين
فرّوا منتصرين
……………..
لم يبق في منزل العميان سوى
حرب الأعمى والأعمى

وبعد ان جعلوا من انفسهم هدفآ للملثمين , يهرع أبن آدم من مساره في خضم كينونته السوداء الداكنة التي جاءت بها النسخة الأصلية التي ترى أن الطعن والذبح والسلب هو السبيل الى البقاء . بينما نسخة العميان الأصلية هي التي ورثوها برفقة الخواتم ( = خواتم الحرية في اسطورة بروميثيوس ) فنقشوا عليها غصن الزيتون للتعبير عن تطور الكينونة الأصلية الى درجة أعلى بالسمو , فأنتفضوا لكبريائهم رغم حتمية الموت. وهنا يتبين مبدا الجهاد وهو الجوهر الروحي لسمو الوعي وإن تراجع لوهلة من الزمن .
في هذه الصورة الشعرية المقدمة على طبق السرد والتي تتميز عن باقي الصور في القصائد السابقة والتي يجمع فيها الشاعر بين الحس الفكاهي والمأساوي , ينهض الذي لا بصر له للدفاع عن سراجه . هذه الفرادة في مسألة الدفاع التي أراد أن يصورها الشاعر أو أنه أراد أن يبين مدى التناقض والمقارنة في آن واحد بين مفهومين مختلفين : ” أعمى يدافع عن سراج ” وملثمين يقتحمون مكان لمصادرة قارورة عطر . المفهوم الأول هو كينونة العميان والذات التي تحب الضوء وهي المسكونة فيها على نحو متعاقب وليس ظاهر العمى . وهذه الحيرة هي التي تدعو الى التعاطف إما الى البكاء أو الضحك .
هذا الضرب من دفاع العميان استغرق زمنا غير محدود حتى كشف الواقع تقنية ابن آدم ( = الإنسان ) فظهرت ذاته الصميمية لتكشف عن زيفها كونهم فروا منتصرين , وهو المفهوم الثاني الذي أراد الشاعر تصويره , إذ كيف ينتصر الفار المدمغ باللاعقلانية والعاجز عن تمييز الحقيقة من الزيف ؟!
ولكن هذا الفرار من نوع آخر هو فرار الإنسان من كنهه . والخلاصة ان الشاعر وضح ان هؤلاء العميان والملثمين لايستطيعون تجاوز كنه ذواتهم لأنهم وإن ينتمون بالشكل الى كينونات اخرى إلا أنهم لا يتجانسون معها ولن يتجانسوا ومن هنا ينشأ الزيف .
هذه المواجهة من قبل الشاعر لأشكالية ( التنكُّر ) قد لفتت نظرنا الى ان المشكلات ذات الطابع الأجتماعي والسياسي والأقتصادي سببها الذات العميقة للإنسان التي ينبغي عدم تجاهلها .

وعن ” حجر الحرية ” وهي قصيدة طويلة نسبيآ بالقياس مع القصائد السابقة , لم يلجم الحاوي كنهه عن خدمة الأفعى , بل عصب عينيه ليكون عبدآ أمام وجهها ورؤومآ . إنه يغذي هذا الكنه بأجل قصير بما يخسر من النظر . فلا تطابق بين مايراه الإنسان وما تراه البصيرة المسكونة فيه :

لمّا إرتعب الحاوي من سطوة التناغم
في جسد الأفعى ص 31

في هذا المشهد لايرغب الحاوي رؤية مايحصل فهو امام اختبار وهذه هي حرية الإنسان في رؤيته لكينونات الأشياء وكأنه حد في مجال الحرية ما جعل الأفعى أمام ضرورة الأختيار بين إنعدام حركتها وهي في كيس الحاوي وبين الموت الذي ينتظرها في نهاية الأختبار , فهو يريد ان يكذّب كل قبيح صادر عن غرز السيف الى جانبه وهذا ما اراد الشاعر , أن يسوّغ العلاقة بين مآرب الإنسان وما يتخذه من تحركات في عينيه :

غرز سيفآ في فضاء الرقص , وبخرقة سوداء
عَصَب عينيه .. وأبتدأ العزف (القصيدة نفسها)

ويبدأ العزف وتبدأ الأفعى بأستعراض مايحبه المبصرون أمام الأعمى (= المعصوب العينين ) . هذا التقديم بهذين الوجهين الذين أظهرهما الشاعر من جانب الأفعى وكذلك الحال مع الحاوي , إذ يخالف ما يتحكم فيه , وتلك هي ماتدعوه الكينونة فالذي يبدد حاضرآ هو في حقيقة الأمر غريب .
تستمر القصيدة في نزعتها الحكائية وإمعان الشاعر في تصوير انشغال الحاوي في إثارة غريزة الأفعى بينما تنمو المأساة وراء هذا الطقس من الواقعية المستفزة :

وبرعب فجائي تبدد سواد الخرقة
من امام الحاوي
رمق الأفعى تسقط جمرة
جمرة ص33

يختتم الشاعر هيثم عيسى مجموعته الشعرية بنتفة ” النقش ” ( ص 96 ) :

لا حلَّ لهذه الحيرة
أنت الحجارة وأنت الأزميل

لمن هذه المخاطبة ؟ للقاريء أو للحجر أم لكليهما ؟!
الجواب للأثنين معآ , لأن الشاعر ربط بين الحجر وبين الذات والازميل في آن واحد من ناحية , وبين القاريء من ناحية اخرى . فلم يطلق سراحه ليستخلص الحقيقة من ظاهر وباطن وجود الحجر بالعودة الى اي تنظير فلسفي يرتأيه , بل أوجب عليه ان يفهم أنه هو الإنسان بكينونته ووجوده ونزوعه الى ما يرغب وإنه هو الذي يحدد كنهه وإنه هو الأزميل الذي يفلق هذا الكيان ليحقق وجودأ مغايرآ لما هو عليه .
لكنني أختتم مقالتي الموجزة , عن قراءة ستة قصائد من المجموعة وبيان جوهر الجمال الذي لا يتغير في القصائد اللاحقة , عما يقوله الشاعر في مجموعته خزانة حجر بالقول أن الشاعر هيثم عيسى خاطب وجود الحجر كمركبة vehicle لكن المغزى tenor هو الإنسان والتغير في الذات والسلوك والفلسفة التي تحدثها هذه الرابطة من خلال المقارنة بين كيانين مختلفين من خلال تجربته الأدبية الطويلة بأستخدامه سلطان اللغة الأستعارية لتحفّز القاريء للبحث عن قراءة اخرى للشعر تكون فيها مادة النقد اكثر تطورا عما في السابق وكذلك البحث الواسع في حياة الإنسان المتحقق فعلآ عبر التأريخ لكي يفهم مشروعه الفكري الذي إنتهجه في مهمة البحث عن ماهية الأحجار . وعلى هذا الأساس أيضا , أستخدم الشاعر لغة شعرية استعارية metaphorكانت بمثابة أزميل فلق هذا الكيان المعرفي المتمثل بالحجر ليبث فيه أبعاد الوجود الإنساني .
وإذا تأملنا السيرة الشعرية لهذا الأزميل في هذه المجموعة نرى أنه كان موجهآ لفلق الوعي الشعري الحالي بمظاهرة المقيدة بالمشاريع الشعرية القديمة التي تتعامل مع الموقف اليومي للإنسان من دون الولوج في عوالم أخرى ليقترب الشعر من الحداثة المتعالية التي تدعو الى الفرادة العالمية كالتي بدأها الشاعر الراحل محمود البريكان والراحل عبد الوهاب البياتي .
فالشاعر هيثم عيسى استطاع ان يخلق هذا النوع من الشعر وابدع في معادلة اللغة بأزميل استطاع به ان يغير الفهم التقليدي للشعر بآخر يستلزم تقنية الذهاب الى مواقع وجوده وتطبيقه لكي يحرر لنفسه نتائج تدعم قرائته ويدفع الى معرفة ذاته الشخصية وإبطال الزائف الموروث بها لإنتاج بنية تحتية جديدة .
ولكي يرتقي الإنسان بوجوده الأدبي بشكل خاص , تتجلى أهمية قراءة النصوص التي تستدعي التأويل والتي تنبأ بأخطار تأويلات الأمس التي أمسى الكثير منها ساذجآ لا يعين على اعتبار ان القدرة المعرفية الكامنة في الإنسان كانت هكذا وستبقى كما هي , بل هذا هو التهديد الذي يحجّر الوعي الإنساني أكثر فأكثر وصولآ الى فقد إنسانيته .

* المجموعة الشعرية الأولى للشاعر هيثم عيسى – الطبعة الأولى 2010 الصادرة عن دار أزمنة للنشر والتوزيع في عمان 2009 .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب