لم أتخيّل أن ليلة ستخيّم علّي كهذه ، ألم .. حسرة .. ضياع ، لا أملك أية وسيلة للاتصال بهما ، فمنذ أن مزقت جواز سفري انقطع آخر خيوط الأمل في لقاء زوجتي وطفلي الوحيد في القارة العجوز ، لا اعرف إن كان سبب حزني هو هذا ؟ لكن ألم أتذكرهم كل ليلة ؟! أوه .. لعلها المجاهدة التي خرجت مع صغيرها من خيمتنا قبل قليل ، هي من أيقظت فيّ هذه الحرقة وذكرتني بما لم أنسه ، آه .. ما أقساني ؟! لكن لا يهم علي أن أنسى الأمر ، ما دام ما نفعله في سبيل الله وإقامة الدين .
قال صديقي الراقد بجني ( أخي في الله ) _كما يحب أن أناديه_ : إن من أعظم الجهاد أننا نرابط في سبيل الله في خيمتنا هذه ونحفظ الثغور بعيداً عن الوطن والآهلين .
فقلت في نفسي : دعني من هذا فما أكثر نصائحك !
ثم أخذ يذكرني بأيامنا المباركة في الرقة وأغمض عينيه وسلّم لنومه .
قلت في نفسي طبعاً : آه لو عرفت يا صديقي بما أنا أفكر لتقرّبت بي إلى الله والإمارة بإقامة الحد عليّ فجراً ، الحمد لله يا صديقي انك لا تجيد قراءة أفكار الآخرين وليس لك فضول في أي شيء ، فأنت لا تحب سوى العبادة والقتل .
هوّمت في رأسي الحيرة وأخذتني الأفكار بأمواجها ، ولم اشعر بالنعاس بعد يوم حافل بالحسنات والأجر ، فاليوم كانت رحلتنا شاقة في إقامة بعض حدود الله وتطبيق حكم الخلافة ، فقد ايقظني صديقي الراقد بجني باكراً بتكبيرة في أذني ، وهو يمشط شعر لحيته بعد أن خلّله بالطيب ، تساءلتُ وقتها : ألم يكن ذلك سنة ؟ فلمَ أصبحت أسأم المشط والتخليل !
ما إن تناولنا الإفطار حتى رنّ هاتفه معلنا جاهزية أميرنا ، فانطلقنا نحو السيارة وجلست خلف المقود وأنا ارتب عصابتي محدقاً في المرآة ثم انطلقنا نحو خيمة الأمير التي لازمها حسوبي المكنى بأبي دجانة ، وفتى آخر لا اعرف اسمه لكني اعرف انه مجاهد مهاجر مثلي في سبيل الله وعابر الأبيض المتوسط . ما إن توقفنا حتى خرج علينا الأمير كعادته ببزته السوداء لابساً درعه ومتقلداً لامة حربه ، المصنّعة في بلاد الكفر ، ومخضباً لحيته بالحناء ، ركب في المقعد الخلفي وقفز الشابان على متن السيارة وانطلقنا على بركة الله .
_ اليوم بيان مهم سأتلوه على بعض النصارى في حي الإخاء .
_ وماذا يتضمن يا أميري ؟ سأل صديقي .
_ ستعرف بعد قليل ، وابتسم الأمير ابتسامته الصفراء كعادته ناظراً إلى جانبي الطريق .
توقفنا أمام بناية المحكمة الشرعية ونزل الأمير لملاقاة قاضي الخلافة ، لا أعرف ماذا دار هناك ، لكني أظنه استلم بعض الفتاوى و الأحكام .
_ قال صديقي يبدو أنهم في اجتماع .
وبعد أكثر من ساعتين جاء الأمير والبشرى تعلو محياه ، ركب ولم يتكلم ، استأنفنا طريقنا باتجاه حي الإخاء على الجانب الأيسر من الموصل عمّرها الله ، كان الأمير ينظر إلى أبواب البيوت المختومة بحرف (ن) ويلهج منتشياً : ما شاء الله ، انظروا ، ما شاء الله …. وصلنا ساحة في وسط الحي حيث ينتظرنا حشد من الناس ومجموعة من المجاهدين مدججين بالسلاح استقبلونا كعادتهم بتحية الإسلام ، فنزلنا حتى توسطنا الجمع ، وهنا لمحت ابن خالتي (عاصم) المكنى بأبي أيوب الذي لم أره منذ ثلاثة أيام بعد أن كنا نلتقي كل يوم تقريباً ، أشار إليَّ بيده وصرنا نتحدث إلى جانب مُمال قليلاً عن الجمع :
_ لليلتين لم أرَ النوم .
_ ولمَ لا تذهب الآن كي تسترح ؟
_ أميرنا أقسم على نفسه ألا نسترح لنومٍ حتى ننفذ حكم الله في النصارى ولاسيما المنتشرين في سهل نينوى الذي رجعنا منه ليلاً .
_ النصارى ؟
_ نعم ، ألا ترى هؤلاء الواقفين على يسار الأمير ؟
_ بلى أراهم .
_ إنهم ممثلون عن نصارى هذا الحي وقد جمعناهم لنتلوا عليهم بيان الخليفة الذي صدر أمس .
وتبادر إلى ذهني أن اسأل ابن خالتي عن فحوى البيان ، فطريقة كلامه تشي بأنه مطلع على تفاصيله ، لكن صوت صديقي باغتني ، فالأمير تحرك من مكانه ورجع ثلاث خطوات طويلة إلى الوراء ، وصرنا خلفه أنا وصديقي وحسوبي ورابعنا المهاجر مثلي في سبيل الله ، والجموع متحلقة حولنا ، وبدأ الأمير يتلو : (( الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ، وجاعل الأيام دولاً بعدله ، والصلاة والسلام على من رفع الله منار الإسلام بسيفه وبعد : يقول تعالى : وإذ قالت أمة منهم لمَ تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً )) فبعد إبلاغ رؤوس النصارى وأتباعهم بموعد الحضور لبيان حالهم في ظل دولة الخلافة في ولاية نينوى اعرضوا وتخلفوا عن الحضور في الموعد المبلغ إليهم سلفاً ، وكان من المقرر أن نعرض عليهم إحدى ثلاث : (الإسلام ، عهد الذمة ( اخذ الجزية منهم ) ، السيف ) وقد منَّ عليهم أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم _أعزه الله_ بالسماح لهم بالجلاء بأنفسهم فقط من حدود دولة الخلافة لموعد آخره يوم السبت الموافق 21 رمضان 1435 هـ الساعة الثانية عشرة ظهراً ، وبعد هذا الموعد ليس بيننا وبينهم إلا السيف ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )) .
ثم كبّرنا ثلاثاً ، إلا أحدهم فاستمر بالتكبير ثم صاح : انظروا إلى رحمة الخليفة وبكى ، وتفرق الناس .
لمحت في عيني صديقي الراقد بجني خيبة أمل ؛ فالبيان انتهى ولم يشر إلى إقامة حد أو تطبيق حكم يتولاه هو ويتقرب به إلى الله .
ركبنا بعدها بقليل ، وأشار الأمير إلى التوجه جنوباً وانضمت إلينا مجموعة من المجاهدين في عجلتين تحملان أكثر من عشرة تقريباً ، فخطر لي وأنا أقود السيارة في مقدمتهم أننا ماضون في تنفيذ حكم آخر ، وإن يكن ؟ فهو في سبيل الله .
توقفت عجلاتنا الثلاث أمام منزل ذي بناء حديث ، وهبّ المجاهدون لمداهمته فوراً ، لم تمضِ بضع دقائق حتى خرجوا علينا يقتادون رجلاً دون الأربعين من عمره ، فيه هيبة ووقار ، وُضِعت في يده السلاسل وأُركِبَ في العجلة الأخيرة . وصلنا طريقاً عاماً ، انحرفنا عنه شمالاً على جادة ترابية ، وقبل النزول أشار الأمير بعدم التصوير على خلاف عادته .
نعم .. تذكرت ، ليتني سألت صديقي الراقد بجني الآن عن سبب ذلك .. أوه ، لا ، إنه لا يعلم بما أفكر الآن .
تحلقنا حول الرجل الذي شعر بدنو حتفه ولم يظهر ضعفاً أو ليناً ، بل بقيَ يخبّيء تحت عينيه موقفاً لا يحيد عنه ، وإن كنت لا اعرف حينها كُنهِ هذا الموقف الذي أدى به إلى مصرعه .
عُصِبت عيناه وأُجثِمَ على ركبتيه مستقبلاً القبلة ، وتلا الأمير عليه أية : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف )) فباسم خليفة الله في أرضه نُنفّذ في هذا المرتد عدو الله حكمَ المحكمة الشرعية بسبب من وقوفه بوجه دولة الخلافة والتحريض ضدها بمناصرته للنصارى .
أردت أن اسأل صديقي الراقد بجنبي الآن : أرأيت عدو الله المرتد؟ لكنه مستغرقاً في نومه .
قال لي حسوبي : انه أستاذ جامعي في كلية القانون .
سلّ صديقي سيفه كي لا يفوته الأجر ، ونزل في رقبة الرجل ضرباً والتكبير يعانق أعنان السماء .
تمت العملية بحمد لله الموفق لإقامة حدوده ، وحملَ المجاهدون جثة عدو الله لتُلقى في باب الدار التي أخذت منها ، هذا أمر الأمير ، وكانت الشمس قد زالت لتؤذن براحة للصلاة وللغداء…
ما كنت احسب أني سأستذكر ما افعله نهاراً وانأ أضع رأسي على وسادتي ليس للنوم وإنما للندم ، وهل ينفع الندم ؟! لا .. إنه ليس الندم ، فهو القدر الذي يأخذنا بخطواته ، أليس كذلك يا صديقي الراقد بجنبي ؟ أعرف انك لا تسمعني … لكني أسألك : لمَ تجرّني هذه الأرض على الاعتراف كلّما حل المساء ودنا النوم من عيني ؟ ألم أكن مجاهداً في سوريا ؟! بل فعلت الكثير ، قتلت وهجّرت أكثر ممّا يصحو عليه ضميري الآن ! الموصل ؟! لم ارتكب سوى بضع حالات … لو سألت صديقي الراقد بجنبي ، لقال لي : ويحك ! إنها في سبيل الله وسيتضاعف أجرنا .
ألم أكن قبل أيام قلائل أشكر الله أن هداني هذا الصراط مع ثلة مؤمنة ؟! بعد أن تهتُ في غياهب أوربا وهوّمتُ في موبقاتها ، الحمد لله أني ندمت على ذلك وكفّرت عن ذنوبي وتقربت إليه بدماء الخارجين عن طاعته والمنغمسين في حبائل الشيطان بعد أن نجوت أنا منها .
آه ياصديقي النائم جنبي ! كم كنت احسدك على جلدك في الحق ؟! كم كنت اغبطك على يدك المباركة في مسك سيف الحق والقصاص من اعداء الله ، وكنت كلّما حسبت اني دانيتك في حصد رأسين او ثلاثة أجدني اتقهقر امام تقفوّق عليّ ، استغفر الله ، المؤمن ليس حسوداً .
نفذت ساعة الظهر لتجلب معها أسى شديد ، فلا تمرُّ الساعات حتى تخلف في نفسي شعورا بالضياع يزداد كلما قربنا من معسكرنا حيث الخيام المرابطة في سبيل الله ، فامسك مقود السيارة بقوة خوفا من ذهابي مع نوبة اغماء لتسلمني إلى غرب تشهق فيه نفسي على صوت تكبيرة صديقي ، فاحمد الله انه لم يرفع سيفه معها ، انها صلاة المغرب فحسب ، هلمّوا يا اخوة الجهاد هلموا … لأظفر بعدها بتهويمة في خيمتي بعد يوم ثقيل انتظر نداء صديقي الذي سيلحقني بقصعة العشاء وهذا ندائه الوحيد الذي يخلو من تكبيرته المعهودة .
_ قال لي صديقي: اترى هذا الطعام ؟
_ نعم انه لذيذ .
_ وطعام الجنة ألذ وأزكى ((
_ وما بالك وانت تأكله مع رسول الله ؟! قلت هذا وزرت بعيني عنه ايذاناً بانتهائي ، ففاضت عين صديقي بالدموع حين ذكرت الرسول ، وغاب عنهما الشرر الذي يصاحب تكبيرته عندما يقطع رأساً او يجلد ظهراً .
أما الآن فقد جنبتني ياصديقي بنومتك العميقة أن أرى هذا الشرر في عينيك ، ا وان ترى أنت شرر عيني فتعلن ردتى قبل صياح الديك فتعلن ردتي ، وهل جزاء المرتد إلا السيف .