قد يكون من المفيد اثناء تناول القضايا السياسية التي تتخذ شكل الازمة, ان يتم النظر الى الصورة الكاملة للمشهد وعدم التقيد بالحدود الضيقة التي يصطنعها الاستغراق بالتفاصيل العديدة المحيطة بالحدث, والافضل هو عدم الوقوف طويلا امام التفصيل الا باعتباره نافذة ننشد من خلالها النظرة الشمولية التي تستبطن القواعد التي تساعدنا على المقاربة الواعية للموضوع.
ومن هذا المنطلق فقد يكون من الصواب عدم النظر الى اعلان تركيا انها “ستواصل” سحب قواتها من العراق، الا كتفصيل قد يؤدي بنا الى الصورة الاشمل والاكثر نجاعة الا وهي للامم, كما الافراد, مشاكل منتصف عمر, وفقدان بصيرة , ورعونة قد تجعلها -وهذا ما ينكره الكثير عن تركيا حتى الان – تتصرف في علاقاتها الخارجية بخفة وطيش قد لا يليق بدولة فاعلة على المستوى الاقليمي والدولي. والاهم, هو ان رهان -بل قد يكون ارتهان- بعض القوى السياسية على ثوابت السياسة التركية في المنطقة ورسوخها لا يعد الا نوع مؤسف من البلادة السياسية المفرطة , ولكنها بلادة باهظة الكلفة بشكل يثير الاسى..
فحتى الغفلة لن تكون هنا مبررا للتغافل عن عملية الاقصاء القسري للباب العالي عن الملف السوري الذي انعكس سلسلة من المواقف المتشنجة المتعجلة التي اضطرت -وستضطر- الى التراجع عنها في حالة مؤلمة من مكابدة التقليل المستمر لهامش الحركة امام القيادة التركية التي تمادت في استهلاك التغاضي الغربي عن ممارساتها الاقرب الى اجواء عصابات الجريمة المنظمة منها الى الدولة المؤثرة في القرار الدولي والاقليمي, والتي تجلت في تسليعها السريع لحلفاؤها ووضعهم المهين المتعجل على طاولة التفاوض في سوق الغاز والنفط الرخيص..
ما لم يفهمه حزب العدالة والتنمية ان الغرب لن يسمح بان يكون لتركيا مشروعها الخاص في المنطقة , وان اي محاولة لتجاوز دورها المحدد كمفرزة متقدمة لارباك المشهد الامني والسياسي للمنطقة لن يكون مما يمكن تجاوزه غربيا , ولا هضمه من قبل روسيا الجاثمة على طول وعرض المصالح التركية في المنطقة.
فكما ان هناك دول عظمى فعالة لما تريد لا يسألها احد عن سياساتها ولا عن الوسائل التي تتخذها لتنفيذ تلك السياسات, ولا يوجد من العقلاء من يعتقد ان تركيا, في ذروة احلامها , تتصور نفسها ضمن هذا النادي المغلق بقوة , هناك دول مشروع تكون ممارساتها السياسية مكرسة لهدف اعلى متفق عليه وطنيا ويتخذ صفة الهدف القومي وهذه الدول تكون عادة قوية ومكتفية ذاتيا , والاهم , متفيأة بظل قوى عظمى متحالفة معها في خدمة هذا المشروع..وهذا الموقع الذي يراه اردوغان وحزبه لتركيا ضمن حالة التشتت والوهن الذي يعتري دول المنطقة, ومن بعده تكون دول الدور التي يسمح لها بالحركة ضمن اطار محدد مرسوم لها سلفا من قبل الدول المؤثرة, ولا يسمح لها بتجاوزه مطلقا الا ضمن دور آخر قد تكلف به ضمن معطيات سياسية معينة, وهذا الموقع في الواقع, هو بالضبط ما يرى الغرب -بل بعضه حتى- تركيا من خلاله..وبعده خليط من بلدان -واقاليم- وقوى وتيارات سياسية تأخذ صفة الاداة او الوسيلة التي تستخدمها دول الدور في تنفيذ مهماتها وسياساتها المحدد, وهذا للاسف, ينطبق تماما على القوى السياسية العراقية التي راهنت بامن واستقرار بلدها على تورم الدور التركي واحلام يقظة اردوغان بمشروع بعث الدولة العثمانية من خلال خليط عجيب ومتنافز من اللحى الكثة والشواطيء الكاسية العارية والنفط المسروق..
والدرس الاهم الذي افرزته هذه الازمة هو انكشاف المظلة الغربية المفترضة لممارسات الحكم التركي وادواته داخل العراق والترويج بمشروعية ورضا دولي -ان لم تكن مباركة او تكليف- لجميع ما تقترفه تلك القوى من ممارسات توازي الفعل الجنائي والخروج على القانون.
لن نبالغ اذا تعاملنا مع التدخل التركي بما هو عليه كلوثة عابرة, فرضتها ظروف العزلة التي تزداد احكاما على الحكم التركي تحت ضغط الانكشاف الكامل لتفلتاته وممارساته البعيدة عن طبيعة العلاقات ما بين الدول المتجاورة, وما زال الرهان على طبيعة العراقيين ووعيهم وايمانهم باهمية الحفاظ على وحدة الارض والمصير, ولكنها مثل هذه الخفة التي اسرف البعض في التعامل بها مع موضوعة الوحدة الوطنية قد تنبىء بما هو أسوأ إذا لم تعالج بالتي هي أحسن وأقوم واكثر حفظا لامن العراقيين وسلمهم, ولنا تجارب مرّة مع مثل هذه الممارسات، وندرك تماما حقيقة ما يمكن أن تؤدي إليه..
يبقى الرهان على الشعب, وعلى العقلاء والاصلاء في قطع الطريق امام هذه الممارسات ,وقد تكون هناك فسحة ما زالت متاحة لتصحيح بعض الامور قبل استفحالها..وما زال الامل كبيرا في صبر العراقيين وجلدهم, ولكن ما لا يمكن توقعه, هو المدى الذي يستطيع الشعب ان يتحمل كل هذه الاعباء, وكل هذا القرف اليومي المعاش.