17 نوفمبر، 2024 10:33 م
Search
Close this search box.

خريفيات باريسية

الذي يزور شوارع باريس  هذه الأيام يرى أن الوان الطبيعة قد تنحّت جانبا  مخلية  الساحة للون الأصفر , فأوراق الخريف  تغطي أرصفة  عاصمة النور والفن والجمال  وفي كل دقيقة تتساقط  مئات الأوراق التي انتهت دورة حياتها مودعة الغصون التي شاهدتها في زيارتي السابقة و كانت في عز الصيف حينذاك كانت تلك الأوراق تفيض خضرة فتقف متباهية  بخضرتها وشبابها الغض وأطيارها العاشقة ونسائمها التي تطبطب على أكتافها فتزدان القا وجمالا , لكنها اليوم ليست كما كانت بالأمس  , قال صديقي موسى الفرعي: انه الخريف ! شعرت بنقباض  , فموسم الخريف يثير في أرواحنا الكثير من الالام , كبشر يعرفون أن الحياة ليست سوى حلقة مهما طالت فان  لها نهاية لامفر من ادراكها كحقيقة .
لذا فكلمة الخريف لها تداعياتها المثيرة للحزن  لنا لأنها تجعلنا نقف بمواجهة حقيقة أن للحياة دورة وهذه  الدورة هي الأخيرة , وقد اعتدنا على كره هذه المواجهة لانغماسنا بالحياة ولذتها الباهرة , وما سقوط ورقة من أعلى شجرة بكل ما يحمله هذا المشهد من الم هو تجسيد لحقيقة الموت الكبرى وترميز لها
واصلنا سيرنا أن والفرعي وسط جثث الأوراق التي كانت تتساقط مثل المطر , حاولت أن أتجاوز أمر هذه البيانات الصفراء التي صار منظرها بكل ماتحمله من مدلولات رمزية يعصر روحي بالتشاغل بالبرد , لذيذ هو البرد في هذا الموسم , إنه يجعل الانسان ينسحب الى الداخل أكثر مما يكون في الخارج وكلما كان داخله ثريا كان يشعر باللذة لذا فان الكتاب والشعراء وأنا منهم يميلون للكتابة أكثر خلال هذا الموسم وكأن بذور الأفكار التي زرعها الربيع في أرواحنا وكبرت خلال المواسم السابقة وأزهرت وحبلت بالثمار وحان موسم  قطافها  , فتنزل على الورق لتفتح صفحة حياة جديدة قوامها الكلمات .
تساءلت مع نفسي :لو كنت قد زرت باريس قبل عشرين سنة هل كنت سأنشغل كل هذا الوقت بتساقط أوراق ميتة ؟
لا أظن , ربما كنت سأمد بصري حيث الفاتنات اللواتي يملأن شارع الشانزليه  بنسبة تجعلهن أضعاف أضعاف الرجال , بما يؤكد أن أعاصير الحرب العالمية الثانية التي جرفت الرجال الى المعسكرات ومن ثم الى الموت لاتزال قائمة !
كان عمال النظافة يحاولون أن يدفنوا الأوراق في الحاويات لكن ما أن يواروا  جثمان ورقة حتى يحمل الهواء الى الأرصفة عشرات غيرها ففي أعالي الأشجار ماتزال هناك أوراق تصر على مقاومة رياح الخريف حتى تستنفذ اخر رمق لها في حياتها القصيرة , لذا فالأوراق المتساقطة على الأرصفة تبقى أضعاف أضعاف التي يلقي عليها عمال النظافة القبض لتتحول الى سماد  , أحاول أن أشيح ببصري عنها , مثلما أفعل حين أرى مشهدا داميا , متجاهلا ما يحدث لها من فناء , أستحضر بيتا قديما حفظته منذ كان شعر رأسي أسود:
لما رأت شيبي عم مفرقي
قالت غبار ياخليلي ما أرى
منظر الشوارع وهي ترتدي ثوب أوراق ميتة لم يمنع  المحلات التي تتزين لاستقبال أعياد الميلاد من فتح أبوابها للزبائن والسياح  فهي كما يبدو قد الفت هذا المنظر وصار جزءا من مشهد له جمالياته الا وهو مشهد الخريف , فكما للربيع جمالياته للخريف كذلك حين توصلت الى هذه النتيجة صرت أكتشف شيئا فشيئا هذه الجماليات وأستمتع بها فلكل مرحلة من مراحل الحياة جمالياتها التي تجعل الحياة أقوى من الموت في كل صورها المشرقة .

أحدث المقالات