18 ديسمبر، 2024 9:33 م

خريطة الهجرة من الجنوب إلى الشمال… إلى أين؟

خريطة الهجرة من الجنوب إلى الشمال… إلى أين؟

تعتبر الهجرة أحد الأنشطة الرئيسية التي اعتاد البشر ممارستها لآلاف السنين، وارتبط بها عدة عوامل محفزة لها حيث تتجه حركة الهجرة دائماً من مكان فقير إلى أخر أغني ولا يعتبر العنصر الاقتصادي فريداً في هذه المعادلة بل يتصدر الأمن المشهد في حالات عديدة.
مع التطور التكنولوجي والاقتصادي للأمم بالقرن الماضي، برزت أهمية تكثيف الجهود الدولية لتنظيم حركة الهجرة من بلد المنشأ حتى بلد المضيف وتأمين حقوق الانسان الأساسية مثل الحق في الحياة. بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت أوروبا حركات نزوح هائلة من شرق القارة إلى غربها هرباً من نير الشيوعية الزاحفة على الشرق، وبعد نصف عقد من الحرب العالمية الثانية تداركت الأمم ضرورة تأسيس كيان دولي معني بالمهاجرين لتولد مفوضية الأمم المتحدة للاجئين للتعامل مع الوضع الإنساني المتدهور بالقارة أنذلك ثم وصل عدد النازحين جبرياً 65.3 مليون وعدد اللاجئين 21.3 مليون بالعام المنصرم تسعى المفوضية لتوفير مأوى لهم، ثم في العام التالي مباشرة تأسست المنظمة الدولية للهجرة لتدير الساحة السياسية المتأزمة بأوروبا بالخمسينات ثم سرعان ما واجهتها عدة تحديات كان أهمها أزمة المجر سنة 1956، وتشيكوسلوفاكيا سنة 1968، وزلزال عام 2010 الذي ضرب دولة هايتي لتتدخل المنظمة في إدارة تبعات الأزمات السياسية والطبيعية التي يصحبها حركة أو هجرة قسرية للمواطنين بتوفير مأوى آمن وإمدادات طعام وأدوية لهم بميزانية سنوية تقدر بحوالي 1.4 مليار دولار و9 ألاف موظف يعمل في أكثر من 150 دولة بالعالم.
والجدير بالذكر تداول وسائل الاعلام العربية والدولية العديد من المفاهيم وثيقة الارتباط بالهجرة مثل النزوح لكن مفهوم الهجرة لا يزال محل نقاش حيث يتصدر مفهوم “الهجرة غير الشرعية” وسائل الاعلام لوصف حوادث الغرق التي تقع بشكل متتالي في البحر المتوسط الذي يشهد أهم خطوط الهجرة من الجنوب إلى الشمال حيثما توجد اقتصاديات متطورة ومتماسكة في الاتحاد الأوروبي. وعند التدقيق العلمي، يعتبر هذا المسمى غير دقيق لأن الهجرة حق شرعي مكفول للإنسان لكن تعتبر غير قانونية إذا مارس الانسان هذا الحق بدون اجتياز الإجراءات القانونية المتبعة لدى الدولة المضيفة.
وعند تحليل الخريطة الجيوسياسية الحالية للمنطقة العربية، تصبح حقيقة الواقع السياسي، والأمني، والاقتصادي العربي جلية في خلق بيئة طاردة للهجرة إذ شهد البحر المتوسط مئات المحاولات للهجرة من جنوبه إلى شماله، بعضها أخفق والأخر نجح حيث ساهم تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية في خلق دافع أقوى للنزوح نحو الشمال.
لقد ازداد الوضع إلحاحاً لقبول مزيد من المهاجرين النازحين قسرياً من الشرق الأوسط خاصة سوريا والعراق بسبب استعار الحرب هناك، والجدير بالذكر أن الدول الأوروبية استقبلت 1.9 مليون مهاجر من خارج الاتحاد الأوروبي عام 2014 وتأتي ألمانيا في الصدارة ليصل عدد المهاجرين لديها 884.9 ألف مهاجر حيث اعتمدت مبدأ (سياسة الباب المفتوح) في التعامل مع قضية الهجرة ثم تلاها المملكة المتحدة بعدد مهاجرين 632 ألف مهاجر ثم تأتي فرنسا بالمرتبة الثالثة بعدد مهاجرين 339.9 ألف مهاجر.
لقد اجتمعت عدة عناصر ساهمت في إنجاح بعض حالات الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله وأصبح ذلك جلياً في زيادة برامج التبادل الشبابي والثقافي بين ضفتي البحر المتوسط، هذا بجوار العدد المتنامي للمنح الدراسية الخاصة بالتبادل الطلابي والبحثي الممولة من مفوضية الاتحاد الأوروبي أو الحكومات الأوروبية ذاتها. وتتعدد فترات الهجرة لدى البلد المضيف وأغراضها بين الدراسة والعمل حيث نجح العديد من المهاجرين “عبر قنوات قانونية” في الاستقرار والإضافة للمجتمعات والاقتصاديات شمال المتوسط رغم أنه يعد نزيفاً للعقول لدى البلد المرسل حيث تُستنزَف كوادره الشبابية المؤهلة.
علاوة على ذلك، يعتبر التكيف والاندماج في المجتمعات الأوروبية ركيزة وأولوية محورية لإنجاح الهجرة بل ولدى صانعي السياسات أيضاً حيث يشارك في هذه العملية عدة دوائر رسمية وغير رسمية معنية بقضية الهجرة مثل الدوائر الأكاديمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني هذا بجوار استحداث مفوضية الاتحاد الأوروبية اقتراب جديد لاحتواء المهاجرين وهو (المنهج التشاركي) الذي يسمح للمهاجرين أنفسهم بالمشاركة في صناعة القرار المتعلق بإقامتهم ودمجهم بالمجتمعات الأوروبية إذ يرسي الاتحاد الأوروبي أهداف بعيدة الأجل لجني ثمار حركة المهاجرين بمساهماتهم في تحفيز حركة النشاط الاقتصادي والتنوع الثقافي لدي الشعوب الأوروبية.
ويواجه المهاجرون المنتظمون والنازحون قسرياً “لأسباب أمنية أو اقتصادية” على حد سواء عدة تحديات للاندماج والتكيف بالمجتمعات المستقبلة لهم وتعتبر اللغة والهوية الأهم على الاطلاق حيث يضطر المهاجر قبول قيم ومعتقدات جديدة ومختلفة جذرياً. وتأتي مشكلة الإرهاب في منعطف الطريق خلال صياغة تشريعات وسياسات المجموعة الأوروبية بشأن الهجرة لتتقاطع مع ملفات أخرى مثل قبول اللاجئين الفارين من الحرب في سوريا، والعراق وبلدان أخرى والعبء المالي الذي تتحمله أوروبا لمعالجة أزمة الديون في اليونان.
تحديات صعبة يتعثر بها المهاجرين من جنوب المتوسط إلى شماله لتصبح صخرة تكاد تتحطم عليها آمال آلاف النازحين من مناطق الاقتتال والتناحر الطائفي والسياسي بجنوب البحر المتوسط، وفي المقابل بزغ نجم الحركات المعارضة للمهاجرين في أوروبا لتخلط الأوراق.
وتعتبر حركة بيجيدا الأكثر تصدراً للمشهد الإعلامي العالمي مؤخراً بعد مظاهراتها الحاشدة بمدينة كولون الألمانية عقب ادعاءات بتورط المهاجرين العرب في حادثة التعدي على فتيات ألمان خلال الاحتفال برأس السنة في مطلع العام الجاري.
لكن لابد من وجود ضوء في نهاية النفق، ففي مقابل هذه التحديات الجمة، ينمو دور مؤسسات المجتمع المدني في أوروبا المدافعة عن حقوق المهاجرين إذ تتنوع المهام التي تقوم بها هذه المؤسسات لإنجاح عملية اندماج المهاجرين وبالأخص اللاجئين منهم مثل تنظيم دورات تعلم لغة البلد المضيف والتعريف بالإجراءات الرسمية لتقنين الإقامة ومد فترتها بل ونهج موقف مشدد في تدابير منح تأشيرات الإقامة بالنسبة لمن يرفض مسار الاندماج ، حيث باتت استدامة سياسة ألمانيا في فتح الباب لاستقبال المزيد أمراً حتمياً من أجل ضخ دماء شابة وجديدة في شرايين مجتمعات واقتصاديات القارة العجوز وهو الاتجاه ذاته الذي تدفع الحكومات الأوروبية نحوه ليرتفع سقف الآمال لدى الطامحين للهجرة نحو تبنى الدول الأخرى ذات المبدأ (الباب المفتوح).

* باحث دكتوراه علوم سياسية
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة