23 ديسمبر، 2024 6:44 ص

لمْ أجد في اصدارات الكتَّاب الكبار الذين قرأنا ومازلنا نقرأ لهم اي اهتمام لديهم في أن يذكروا سيرتهم الذاتية بنهاية كتبهم،وحتى فيما لو اضطروا إلى ذلك تحت ضغط الناشر الذي يتولى اصدار مؤلفاتهم فإنهم يكتفون بعدة اسطر تشير الى ما يستحق تثبيته في الاصدار الجديد،هذا لانهم يحترمون القارى الى حد كبير ويحسبون الف حساب لوعيه وذكائه ممايجعلهم على درجة عالية من الحذر والحرص في التعامل معه،ولأنهم مع كل اصدار جديد ينطلقون الى القارىء بتجربة ابداعية جديدة لاتستمد قيمتها واهميتها وخصوصيتها من تجارب ابداعية سبق أن انتجوها،فالقيمة الفنية للعمل الجديد كما يفهمها هؤلاء الكبار تبقى مكتفية بذات العمل نفسه وليس من مسيرته الادبية وسيرته الذاتية،ذلك لان العمل الابداعي قيمته لاتأتي من خلال علاقة تراكمية قوامها أرشيف وتاريخ الكاتب،بقدر ماهي علاقة مشروطة بالعمل من داخله وليس من علاقة خارجة عنه.

في مقابل ذلك نجد في واقعنا الثقافي عدد كبير من كتابنا،يمتلكه حرص شديد في أن يضع قائمة طويلة لانشطة شارك فيها مع كل اصدار جديد له في سيرته الذاتيةلايفتأ أن يذكر فيها كل شاردة وواردة من تلك الانشطة،إبتدأً من المؤتمرات والندوات والمهرجانات والحفلات والشهادات وهدايا التكريم من دروع وسيوف وخناجر،ولن يبقى أمامه إلاّ أن يذكر رقم حذائه،وغذائه المفضل،واسماء اولاده واحفاده ونسبائه ورقم داره وعنوان بيته والزقاق الذي يقع فيه …!

وكأننا هنا،أمام وثيقة أمنيّة من تلك الوثائق التي عادة ما تفرض علينا في بلدان الشرق المتوسط ــ حسب رواية عبد الرحمن منيف ــ لكي نجيب على مافيها من اسئلة واستجوابات عندما نتقدم بطلب رسمي للحصول على وظيفة

أو جواز سفر أو حتى طلبا للزواج من ابنة حلال،فقد اعتدنا في هذه البلدان التي عادة مايحكمها عسكر أو زعماء ميليشيا أوزعران،أن نجيب على اسئلة صغيرة وكبيرة تتعلق بكل شؤون حياتنا وحياة اهلنا واقربائنا من الدرجة الاولى وحتى الدرجة العاشرة.

يبدو لي ان هذا السلوك وهذا التقليد للعديد من ادعياء الثقافة والأدب هذه الأيام لاعلاقة له بالتوثيق ولابالأرشفة التي يدَّعونها،إنما محاولة ساذجة منهم لخداع البسطاء من القراء،لإيهامهم على أنهم يقفون أمام كتَّاب كبار يملكون تاريخا حافلا من الانجازات المتوَّجة بالدروع والشهادات والتكريمات والمشاركات، وفي حقيقة الأمر هذا النهج الساذج ماهو إلاَّ سلوك بائس لسد نقص كبير في المحتوى الادبي والشخصي.

و بعيدا عن أصدقاء وحاشية هذا النَّمط من الكتّاب ممن يحسبون ايضا على الوسط الادبي والثقافي،ليس هنالك من قارىء واحد من عامة الناس نجده يعرف اسما واحدا منهم،وما من قارىء يمكن أن يتملَّكه حرص شديد على قراءة ولو اصدار واحد لكاتب(جهبذ سامق)من هؤلاء،لأنه وببساطة لاأحد يعرفه أو سمع بأسمه !

في مقابل هذه الصورة الهزيلة لصناعة مجد اجتماعي زائف،مازلنا نجد حرصا لدى عديد من القراء ومن مختلف الاعمار والاجيال على قراءة مؤلفات علي الوردي أو نجيب محفوظ أواشعار محمود درويش،وأسماء اخرى كثيرة،غابت عنا جسدا لكنها مازالت تملك حضورا وتأثيرا في حاضر ثقافتنا ووعينا واهتمامتنا رغم ماحصل من متغيرات في اساليب ومناهج تقنيات الكتابة، ورغم عشرات الاسماء التي جاءت بعدها ورحلت دون ان تترك اثراً يذكر .