بعد ثمانين عاما من الشمس و الصاحب اتخذ عمي خاتما ، كُتب على فصه ” تولد النخلة في منزل لا سقف له فتملك السماء مثلما تملك الأرض ” .
تلك أيامهم بساط لا يطوى ، يكثرون من اللبن و يتعلمون بالحكاية ، يعطون الكسوة و حظهم من السراج ستر دخانه ، كل ميراثهم تلك الهناءة التي في مائهم ، و بالقناعة يلتحفون حتى في مناماتهم ، من جمال صلفهم يؤثرون النخلة على عيالهم فليس لهم ما يحرسهم من النسيان ، و جذرا فجذرا يمتحنونها من بين أجدادهم فيتجملون بنسبها ، كانوا إذا زهد زاهدهم مَلكَ الماعون و موقد النار ، يبتسمون ثمانين عاما .. يحملون النخلة أربعين و تحملهم أربعين ، ما قالوا لها قط شيئا لم تقله لهم ، صار واحدهم يضع الثمرة في فمه فتبلغ حلاوتها قدميه ، غير مخدوعين بعافيتهم فكانت على ذلك صبغة عيونهم ، عمتهم ، تملأ قلوبهم أسرارها ثم تلسعهم فما يشعرون لسعتها هذه من لذة أسرارها تلك .
العجب من معلمي كتاتيب القرى أن الواحد منهم بستان ، كل العجب من رشاقة مجاديفهم ، مزامير النهر الصامتة ، من نخلة الصاحب و هي تسند ظهرها إلى ظهورهم ، أولئك يستأذنون الأرض فتأذن لهم كما لو أنها عش يتكلم إلى عش ، منهم من يوقد شمعة قبل اقتلاع جذر واحد ، و منهم بدمعات لامعة يقرأ سورة يس ، أقوى من الحرمان أخو عزتهم ، و أعظم من كائن اللغة أرواحهم ، يسألونهم عن لعبة الصقر فيقولون أنها ثعابين ممزقة ، ينصتون إلى سماعات معدنية كبيرة تعتلي جمرة الأفق بدلا من رؤوس النخيل ، عصية على التذكر ، عصية على النسيان ، تارة تملأ رؤوسهم بصفارة إنذارها فيموتون ، وتارة تخدعهم دقات ساعتها فيحيون ، ألف مرة يموتون ، بين لعبة اختفائها و معاودة ظهورها ، ألف مرة يحيون ، ما عاد واحدهم يفرق بين صفارة الإنذار و دقات الساعة .
كما لو أنه قطعة من ماض عنيد ، عصي على الموت ، عصي على الحياة ، تشبه الصعود الى قلب النخلة شرارة عينيه ، و تحسبه عن امرأة منحوتة بصبر يحدث صاحبه ، لا يبين من جدار عمره سوى سكينه المعقوفة ، و يحفظ ما يحفظ من الأسماء ليكون حبة طلع ، يهنأ بالطست المعدنية ، يصغي إلى نقوشها الصامتة ، العصية على الماء ، العصية على الحجر ، و تحت إبطه سجادة مر عليها من الألم ما يكفي ليطويها بفرادة و زهد ، لم يكن في منام ليصحو على حرب لا تنتهي ، أكل نصف أبنائه طبلها المدوي ، و نصف أبنائه أكلهم طبلها المكتوم ، لم يكن حجرا ليفتح عينيه على نخيل يساق إلى حرب ، نخيل برؤوس مجهولة ، كما لو أنها سفر بلا عائدين ، لم يكن سرابا ليكتب و يمحو ، كانت الدماء تزحف باردة لتنزع المدينة من ألغازها ، ليل من الجرافات تديم الحرب بسواتر من نخيل .
لم تصمد الحرب ، صمد النخيل ، غير أن الحرب تسك عملتها لتبقى ، فصرنا إلى مدينة من مدافن و معاول و جرافات
لم يكن يغمض عينيه ، كان يقرأ رسالة حربه :
” عندما كنا نموت بالطريقة التي نختارها ، كان صانعو التوابيت ينشغلون بأحجام توابيتنا و أطوالها ، ألان و قد أصبح التابوت بحجم واحد ،صار لابد أن ننتهي بالطريقة التي يختارها التابوت “