19 ديسمبر، 2024 8:45 ص

ختم الحرب

ختم الحرب

تحدث القسوة دفعة واحدة.. يموت الجنود المتحاربون بعضهم يعانق بعضا فتتحد أجسادهم بعد أن رفضت أن تتحد في الحياة
لو يحدث للحجارة المرصوفة تحت سكك الحديد أن تنجب لأنجبت جنودا ، تشبه قصة فقدانهم حفرة بحجم قطيع ، ما تكاد تفلت من لحظة فزع حتى تعصف لحظة أخرى ، منسيين تحت جلد الذاكرة جرحا يعتاش على جرح ..

تحدث القسوة كما لو أنها نهر من القصب ، يغطس الجنود حتى خصورهم ليجروا مراكب حربهم ، بالملح يفركون عيونهم لئلا يغفوا ، ليس لهم سوى إنصاتهم كأنهم في غرفة معتمة مع أفعى ، يعرفهم الليل كائنات لوعة و انتظار ، أنصاف سكارى تزعم الحرب أنهم لا يموتون ، أبدا لا يموتون ، تشيخ ظلالهم لو تشيخ الشمس ، لا يعرف قاتلهم من قتيلهم كأنهم رماح مغروزة في صلب جبل ، تمسك صلادة أرواحهم بالحافة المجنونة للصبر ، و عبر صوتهم المحجور تلتحم جرعة موتهم بجرعة الحياة …

تحدث كما لو أنها نظرة أخيرة لمقطورة جنود ، تنهب العجلات أحلامهم و يخيط أفواههم أنهم لا يفرون ، تغلي صدورهم و تصير سياجا من الصبير زمزمياتهم لكنهم لا يفرون ، مثل كلاب عمياء يولدون من باطن خوذهم ، تفر رائحتهم غير انهم لا يفرون ، و يوم يكثر الفارون من نقائهم تعلم الحرب أنهم لا يفرون ، بأسنانهم يصنعون شمس العبيد ، يلوذون بأوجاعها و لا يفرون ، بجبيرة من صناديق الذخيرة يعصبون أطرافهم المحطمة و لا يفرون ، و لأنهم لا يسعون لتمجيد حرب تقول التقارير أنهم خائنون ..

تحدث القسوة كما لو أنها جندي يمشي على الماء ، عمره ألف حرب و يزيد ، لم يكن في القتلى ، لم يكن في الأسرى ، لم يكن في العائدين الى بيوتهم ، جندي لا يفكر به أحد ، تنهض جثته على أظافرها ، تسقط و تنهض ، تكتم موتها و تقف كأنها من صلب محارب مجهول ، تكتفي بنصف وجه و فردة حذاء و يد محنية بقسوة ، ترفض أكذوبة النصر ، و ما زالت تقول أن النصر في حرب أكذوبة لصناعة حرب أخرى ..

تحدث القسوة كما لو أنها حرب نائمين ، حرب جدار و جدار ، صور بالأسود و الأبيض تقتل الماضي و تحييه ، مدينة أسواق و دواوين جند ، زورق مملوء بالتمر و مغطى بالبواري ، نسأله فيغني ، مبخرة تضج بأسلاف صالحين ، ” سورين الساعة ” .. دم أراقه أهله ، شجرة بمبر تحفظ الوجوه إذ لا وجوه من دون شجرة بمبر ، أناس يقرئون السلام كل حين ، بائع رصيف يلف بجريدة عمره ثلاثة ملوك و خمسة زعماء و ست حروب ، منمنمات تبتاعها أسر البصرة من خوارزم ، مشهد فتى يٌعدم على حائط داره ، ما كان لمثله ، بنظارته السميكة ، أن يهرب من حرب لم يدخلها قط ، معلم الخيزران و تلاميذه ، بقايا أباريق تنعى سوق الصفارين ، مقهى لا تنشد لحرب تغدو مصنع جلود ، كاسحو ملح ، ” مواطنون أبديون تسكنهم بصرياثا ” ، ” جنود الكتابة و دراجات الليل ” ، ” قطارهم الصاعد إلى بغداد شعرية عمرهم ” ، ” لم يعد يجدي النظر ، لخمسين عاما يرقبون المارة ” ، عن ” عجوز يحب مدينته بالأمس أخذوا الوطن التفاحة ” ، و عن امرأة خلفها صِبية يعولون اخذوا لعنة الانتظار، النهر يبكي النهر ، و لفصاحة دهرهم عرفوا أنهم ورثة حرب ، مدينة تصنع لأطفالها نصبا تذكارية ليكونوا جنودا بالضرورة ..

تحدث القسوة كأنها حديث جدات عن عساكر هنود ، إلى أنصاف بنادقهم تمتد قاماتهم و يملأ سراويلهم القصيرة مزيج الضحك و اللوعة ، أدلاء بلباس التائهين ، غرباء تنعتهم أسواق البصرة بالصاحب ، من خشب السفن القديمة منجورة وجوههم ، يطيلون أعمارهم بشرب السم و مهر غزالتهم فيل ، عبدة التوابل و سكارى الحديث عن الحواة ، ليس لحاسدهم غناء و نهار غاباتهم ليل ، أوتارهم من الحجارة و أصابعهم من الدموع ، أهل لكل صناعة ، و كيف تشاء الخرافة تنبت حقيقتهم ..

تحدث القسوة كما لو أنها بألف رأس ، تنفرد جريد حرب بندائها ” احرقوا جثث الموتى” ، لم يسأل أحد عن مغزى النداء فليس لحرب صديق ، و مثلما تفعل الأيام الطاحنة ، إنها لا تفكر ، تستجيب لندائها فحسب ، تبدأ مشاعل مجهولة بإحراق جثث الجنود ، واحدة تلو أخرى ، تحدث القسوة دفعة واحدة ، نداء أعمى و مشاعل مجهولة و جثث جنود تحترق ، تلعب الكلمات لعبتها و تمضي غير ان النداء يستمر ، تغدو كل جثة مشعلا لجثة أخرى ، حتى إذا صارت لقسوة لا تصمد بوجهها جريدة حرب ، تتقدم الجريدة باعتذار ” لم نكن نقصد جثث الجنود كنا نقصد جثث الحيوانات ” ..

دفعة واحدة تحدث الحرب كأنها صندوق بقفل أبدي ، عبيدها عبيد ما تعاقب ليل ونهار، ليس لقسوتها أن تسكن ما لم نذبح كبشا و نسلخه و نلبس جلده ، يموت الملك من ملوكها فيوضع على سبخة من الأرض و امرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه …

أحدث المقالات

أحدث المقالات