23 ديسمبر، 2024 4:53 ص

خالي أبو عقيل وشبه جزيرة القرم

خالي أبو عقيل وشبه جزيرة القرم

قد يبدو العنوان أعلاه ، الذي إخترته لمقالي اليوم غريباً للقارئ ، وربما مُستفزِاً ومستعصي على الفهم والتقبل . اذ ماالعلاقه بين خالي أبو عقيل ، وهو أمر شخصي بحت ، ومعضله دوليه كانت خاتمتها استرجاع روسيا لأراضيها التاريخيه .
أنا أعتقد العكس . فثمة علاقه عضويه ومفاهيميه بين الأمرين .
ألامر يتعلق بحق الملكيه ليس إلاّ .
أشرح لكم ذلك ، راجياً ألصبر والتريث .
خالي أبو عقيل شخصيه حقيقيه ، وهو بهذه الصفه يكتسب كل الحقوق القانونيه ، الاعتباريه ، المتأسسة على ذلك .
اسمه ، اي خالي ابو عقيل ، مهدي الحاج سلمان الليث . عراقي من البصره ، كان يملك محلاً لخياطة الملابس العراقيه التقليدية ، إبتداءً من الدشداشه وانتهاءً بالقميص .
هو ، بهذه الصفه ، ووفق التحليل الماركسي اللينيني ، برجوازي صغير ، من حيث انه كان يدير
هذا المحل ويُشغل فيه إثنان من ألمعاونين لقاء إجره .
من حيث الصله العائليه ، كان هو بالنسبه لي أبن خال والدتي . لهذا كنا نسميه ب الخال .
أبو عقيل ، كان شخصيه يبخل التاريخ ، للاسف ، تكرارها .
كان أبعد الحدود خفيف الظل ، وداينمو المجلس أينما حلّ وإرتحل . النكته والاريحيه والإنسيابيه
في الحديث مُستلزمات لشخصيته . لم يكن ذلك ليكفيه ، ولكنه يضيف إلى ماتقدم ، فُسيفساء
من غسق محبه وزعفران طيبه تنعكسان لامُراء في مشروع إبتسامه على شفتيه .
كان مقياس السعاده لديه ، كما أتصور ، سعادة المحيطين به . لم يكن يعرف لاألغيبه ولا ألنميمه ،
وبعنفوان جسمه الرشيق ، ذي الطول الفارع ، محل الترحيب الاول لدى كل من يعرفه .
كان يحلو له يوم الخميس من كل أسبوع تناول العرق المُستكي في البيت ، وكان من واجب
أم عقيل ، زوجته ، التكفل بتحضير وإعداد شتى أنواع الزلاطات والمزّات العراقيه ، مُضافاً
لها الكُبّه النجفيه ، التي برعت بإعدادها .
وإذ إكتملَت المائده بما لذَّ وطاب ، يشرع أبو عقيل بإحتساء المستكي .
هو لم يبخل بذلك ، ولكنه أحياناً يتعمد ، بخبث ولكن ليس بغير حسن نيه ،الإيماء إلى قدراته حيث وبدون مقدمات يشرع ابو عقيل بقول شعر ، هو في الترنيمة شعر وهو في الانسيابية احلى شعر ، ولكن عندما تستوقف نفسك لجزء من لحظه لكيما تحاول ان تعرف عن ماذا يدور هذا ( الشعر ) سوف تعرف ان لاهذا ولا ذاك فيما سمعت للتو ، فهو ليس سوى ان صاحبه قد استطاع بحبكه وبتمكن ان يلوي جل عضلات وجهك حد التهدج في الايغال في الضحك .
تزوج أبو عقيل من إبنة عمّه ، ورُزِقا ، ماشاء الله ، بالعديد من الاولاد .
وذات يوم وكان الطقس شتاء كان في زياره لنا في البيت ، ويالها من اُمسية نتحلق حولها ليس فقط حول” المنقله ” وإنما حول ابو عقيل بالذات . وبعد ان طاب له المقام وانتشى ، شكا لامي من انه يعاني من البرد في يديه حين توجهه الى العمل في الصباح الباكر . فما كان لامي الوالده الا وان ترمي على يديه قفازات جلديه مبطنة بالفرو الطبيعي وليس الاصطناعي – made in Engeland – كان والدي ، رحمه الله ، قد اشتراها لي من الكويت ، حيث كان يعمل في ذالك الوقت ، وكانت هذه القفازات – الجفوف – مبعث اعتزاز لدي لان الوالد قد اصطفاني بها دون اخوتي .
اي نعم ! هكذا فعلت الوالده ، وبالطبع كان حافزها لااكثر من ان تحابي الأعز من أقربائنا ! ولكن على حساب ابنها وعضيدها !
فهمت حينها ، وانا اليافع بعد ، ماذا يعني اي يعطي احد احدا مالايملك .
في المحصله انا فقدت قبل هُنيهه ماكنت اعتز به . وكان ذلك سببا في خلاف بيني وبين والدتي ! وبعدين ؟ لاشيء !
كان من الطبيعي في هذه الحاله والاحوال المشابهه ان يستكين الامر وان يركن ويرحل الفعل الحالي الى الماضي وننسى الامر . هذا هو الاعتياد ، ولكن لم يكن ذلك من طبعي ولا من نسق مفاهيم الحياة لدي !
وكان ان وضعت خطه ، أردت لها ان تكون محكمه لاستعادة مافقدت !
وفي يوم ملائم شديد الحبكه تم لي ماأردت واستعدت بغامر فرح مافقدته .
هكذا أوصلك عزيزي القارىء ، ان كنت مازلت معي ، الى معضلة شبه جزيرة القرم ، التي وبعد طول انتظار استكانت مستقره في حاضن أمها روسيا . هي لم تكن اوكرانيه بالمره وإنما ألاعيب السياسه وخزعبلات ” خروشوف ” ألحقت عام 1954 بأوكرانيا ، بالضد وخلافا لدستور اتحاد الجمهوريات السوفيتيه الاشتراكيه ( الماده 49 ) ، والذي ينص وجاهة من ان اي تغيير في التركيب الاداري لأي من مكونات واقاليم الاتحاد يتطلب موافقة مجلس السوفيات الاعلى لكل جمهورية معنيه بالأمر ومن ثم تتم المصادقة على التغيير من قبل مجلس السوفييت الاعلى للاتحاد السوفيتي . خفيف الظل ( خروشوف ) اكتفى فقط بقرار رئاسة ، أكرر رئاسة مجلس السوفييت الاعلى لكل من جمهوريتي روسيا واوكرانيا متجاهلا وجاهة الماده رقم 18 من دستور الاتحاد السوفيتي والمواد رقم 16، 19، 22 و 23 من دستور روسيا الاتحاديه لعام 1937 والذي كان معمولا به في عام 1954 ، والتي تنص وجاهة ايضا على لزوم استحصال موافقة مجلس السوفييت الاعلى للجمهورية ( وليس الاكتفاء فقط بموافقة رئاسة المجلس ) !! وبناء على ذلك فان إلحاق شبه جزيرة القرم بما فيها المدينه الشهيره ( سواستابول ) ومصيف يالطا بأوكرانيا كان مخالفة للدستور ويعد باطلا ، ولا تترتب عليه اية اثار قانونيه .
سوف اسمح لنفسي في التوغل ، ولو لبضع شيء ، في التاريخ ، وهو الملاذ الأوحد لتبيان الحقيقه في تاريخ شبه جزيرة القرم ، حيث ان ثلم الحقيقه وغمسها بالجهل ثم عفرها بالاكاذيب ، كما يعمد اليها، بانكفاء وعتم ، بعض الكتاب لأسباب سياسية او نفعيه لاتودى بِنَا الى ملاذ أمن . لامناص ، إذن لهذا الموضوع من استيفائه .
في عام 1441 تم قيام ( خان القرم ) ” ومقاربتها باللغه العربيه تعني ً مقاطعه ً او ربما ً اماره ً ولكنها مالبثت في عام 1475 ان احتلت من قبل الامبراطورية العثمانية .
وفي عام 1772 صدر ميثاق ” كاراسوبزارسكي ” الموقع بين الامبراطورية الروسيه وخان القرم ، بموجبه تم اعلان استقلال القرم ولكن ضمن الحماية الروسيه . والميثاق الثاني عام 1774 كان باسم “معاهدة السلم كوجيوك كاينارديجزكي” والذي كان بمثابة المصادقة على ماالت اليه الحرب بين روسيا والإمبراطورية العثمانية ، والتي انتهت بانتصار الروس . في 19 ابريل ( نيسان ) 1783 وقعت الامبراطوره ً يكاترينا الثانيه ً على ميثاق ضم القرم الى
الامبراطورية الروسيه وأعقبها الاعتراف الرسمي والمعلن في 28 ديسمبر 1783 من قبل السلطان العثماني عبد الحميد بسيادة روسيا على القرم . وخلال أعوام 1941 -1944 ً فترة الحرب العالميه الثانيه ً خضعت القرم للاحتلال الألماني – الروماني ومن ثم تحريرها في 12 ماي 1944 .
ويورد البروفيسور ( روسلان حزبولاتوف ) ، العضو المراسل في أكاديمية العلوم الروسيه ، رئيس مجلس السوفييت الاعلى لجمهورية روسيا الاتحاديه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مقابله له مع قناة ( روسيا اليوم ) الناطقه بالعربيه – برنامج ً رحله في الذاكره ً للاستاذ خالد الرشد – ان المجلس الروسي المذكور كان قد أصدر في 21 ماي 1992 قرارا تحت رقم ً 2809 ً اعتبر بموجبه قرار رئاسة مجلس السوفييت الاعلى لجمهورية روسيا الاتحاديه لعام 1954 بالتخلي عن القرم قرارا باطلا ولا يحمل اي اثر قانوني ويعد انتهاكا لدستور جمهورية روسيا لعام 1937 ، والذي كان معمولا به في عام 1954 كما أسلفنا اعلاه ،حينما تم الحاق القرم بأوكرانيا . ولكن وفي خضم تلك الظروف الماساوية ، التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك القياده الهشة ل ( يلتسين ) وبدء الحرب الانفصالية في جمهوريات القفقاس عن روسيا واحتدام الصراع على السلطه بين الرئيس يلتسين وحزبولاتوف ، ابطل هذه المحاوله في مهدها . بل ان الرئيس ” بوتين ” اعترف في احدى تصريحاته ، انه لم يكن من بد في تلك الاحوال وما بعدها الا الاعتراف بالأمر الواقع ، كمحصل حاصل وصرف النظر نهائيا عن ابطال ضم ” القرم ” الى أوكرانيا . الم يتنازل ” يلتسين ” ووزير خارجيته ” شيفرنادزه ” عن 16 % ، اي نعم ستة عشر بالمائه من الجرف القاري التابع تاريخيا لروسيا الى الولايات المتحده الامريكيه بدون مقابل إطلاقا ، سوى ظل ابتسامه وفرح على وجه الرئيس ” بوش الأب ” الذي وعد ( غورباتشوف ) في حينها بان ” الناتو ” سوف لن يتمدد ، قسما عظما ، الى حدود روسيا ! وتبين فيما بعد ان وعوده هذه لم تختلف عن وعود ساندريلا الشاشه العربيه ( سعاد حسني ) لحبيبها ( حسين فهمي ) في فيلم ” موعد على العشاء ) !! والحال الان ان جل بلدان أوربا الشرقيه ، التي كانت عضوا في حلف ” وارسو ” تحول ولائها الى حلف الناتو واضحت عضوا فيه ! وألم يبع الإمبراطور الروسي الكساندر الثاني عام 1867 لِفدمهِ وقصر ادراكه ” ألاسكا ” بمساحة مليون ونصف كيلومتر مربع ونيف الى الولايات المتحده الامريكية لقاء مبلغ 7,200 ( سبعة ملايين ومائتي الف دولار ) اي ب 19 سنت أمريكي لقاء الكيلومتر المربع الواحد !!
هكذا كان يمكن لشبه جزيرة القرم ان تؤول لذات المصير ! بيد ان تسارع الأحداث في أوكرانيا ذاتها عام 2014 وخلع الرئيس ً يانكوفيتش ً اثر انقلاب لادستوري ، وتنامي النزعات القوميه والشعبوية في استغلال هذا الحدث او ذاك ورفع الرايه القوميه الضيقه لكل ماهو لااوكرايني ، والتضييق المتعمد بإصدار البرلمان لقوانين اعلاء اللغه الاوكرانيه وجعلها لغة الدوله الوحيدة في المعاملات وفي دور التعليم أدت بالشرق الاوكراني ، وسكّان شبه جزيرة القرم وهم في غالبيتهم من الروس الى الانتفاض ، رافعين راية العوده الى الوطن الام : روسيا . وبفطنه رجل دوله من طراز رفيع ،لم يعمد ” بوتين ” ، وكان بامكانه ذلك ، الى اعلان بطلان ضم هذه الاراضي الروسيه الى أوكرانيا وإعلان عودتها الى روسيا ، بل أراد ان يتم ذلك بارادة سكان هذه المناطق . وهكذا تم تنظيم استفتاء حر كان من نتيجته ان اكثر من 90% صوتوا للعودة للوطن الام .
أودّ فقط هنا ، للتوضيح اكثر ان أعرج باختصار الى ارقام إحصائيه رسميه عن التناسب السكاني لسكان القرم قبل اعلان عودتها رسميا الى روسيا :

السنه عدد السكان نسبة الروس نسبة الأوكرانيين
—– ——— ——— ————-
1939 1123800 49,6 13,7
1959 1201500 71,4 22,3
1979 2135900 68,4 25,6
1989 2430500 67,1 25,8
2001 2024056 58,3 24,3

أودّ ، ايضا ، ان أنوّه في الاخير ، الى ان هذا السرد المطول لموضوع مقالي هذا ليس بالمره محاباة لروسيا فهذا لامصلحة لي فيه ، وإنما هو ضمير الكاتب في تقصي الحقيقه ، والحقيقه فقط .