في الثلاثين من أبريل الماضي انتهى أضخم مهرجان استعراضي نظمته الكتل والكيانات السياسية العراقية للتنافس على مقاعد البرلمان، وسط شعور شعبي بالإحباط من هؤلاء السياسيين الذين عاودوا التنافس لتحقيق رغباتهم في الحفاظ على مقاعد البرلمان، ومن ثم الحكومة.
فعلى صعيد البيت السياسي الشيعي الذي يبدو أنه متمسك بنظرية الحكم للأغلبية الشيعية في العراق، تصاعدت الرسائل من المرجعية والتي لها مكانتها بين أبناء الطائفة وكان لها قرارها الصريح في الدورة الأولى عام 2005 في توجيه الناس لانتخاب القوائم “الشيعية” وسط مقاطعة من العرب السنة.
ومع تأكيد المرجعية بأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع والمقصود الأحزاب الشيعية، إلا أن رسائلها أصبحت أكثر وضوحا حين طالبت الناخبين بعدم انتخاب الفاشلين الذين لم يقدموا للمواطن أي منجز أمني أو سياسي أو خدمي، وفسرت تلك الرسائل على أنها تخلياً عن قائمة حزب الدعوة والمالكي، بل إن أحد المراجع الشيعية (بشير النجفي) أعلن عن نفسه خصماً للمالكي. أما حزبا مقتدى الصدر والحكيم، فكانت تعبئتهما فئوية حزبية صريحة في الدعوة إلى انتخاب قائمتهما. كانت المعركة حامية، بل إن السيد مقتدى الصدر دخل بثقل تعبوي أزال دعوة الاعتكاف عن السياسة التي أعلنها قبل شهر من الانتخابات.
أما على ضفة العرب السنة، فإن التشتت كان سيد الموقف، ولم تتمكن “القائمة العراقية” من استعادة مجدها قبل أربع سنوات حين دخلت الانتخابات بزخم عال كمشروع عابر للطائفية، وقف أبناء العرب السنة خلفه لأنهم كانوا يبحثون عمن يرفع الحيف عن أبنائهم، ويعيد لهم حقوقهم المسلوبة في الوظائف والخدمات، ويوقف حملات التهميش من خلال قانون المساءلة والعدالة الذي تحول إلى سيف يحز رقابهم.
يقول البعض إن التمزق الذي حلّ بقائمة الـ91 صوتاً الفائزة، كان بسبب ضعف الإدارة السياسية لمرحلة التفاوض، لكن زعيم القائمة علاوي يرّد على ذلك بقول: إن اللعب كان من بعض أطراف ائتلاف العراقية الذين لم يكونوا مؤمنين بالمشروع الوطني، ولم يتنازلوا عن المناصب الحكومية لصالح خيار المعارضة القوية داخل البرلمان، وهو الخيار السليم الذي كان قادراً على إنقاذ العملية السياسية مما وصلت إليه.
فاليوم أصبحت هناك قوائم إضافة للوطنية (متحدون والعربية والكرامة والحل وبعض عناوين القوائم التي تمثل أسماء أصحابها) وظهر ائتلاف جديد هو ائتلاف “العراق” الذي حاول استنساخ فكرة المشروع العابر للطائفية لكنه لم يعتمد على قيادة سياسية قوية لها مكانتها في الساحة السياسية، بل كانت بعض الأسماء محروقة.
كانت معركة تلك القوائم التعبوية موجهة إلى جانب قائمتي الصدر والحكيم نحو مركز الحكومة ورئيسها في ميداني الأمن والخدمات. ينضم إلى جميع القوائم العربية السنية والشيعية والليبرالية، التحالف الكردستاني بزعامة البرزاني الذي له خصوصية في الخلاف مع المركز يتعلق بتعطيل المكاسب الخاصة بالأكراد. ولم يحدث خلال الحملة الانتخابية تغيير جدي واضح يضاف إلى الكيانات الثلاث (الوطني والاتحاد الكردستاني والتغيير والإسلاميين).
وهكذا نلاحظ إن خارطة المتحاربين لم تكشف عن اختراق جدّي من قوة عابرة للخطر الطائفي ومحاصصاته. تجربة “العراقية” لم تتكرر، وحاول إياد علاوي في تعبئته الإعلامية أن يقدم ذات المشروع، ولكننا نعلم أن محركات اللعبة الانتخابية في العراق تعتمد على المال السياسي المحلي والإقليمي والدولي، ويبدو أن العرب الداعمين عام 2010 قد تراجعوا بسبب الإحباط الذي أصابهم، وطهران قدمت الدعم لجميع القوائم الشيعية حسب التقارير الصحفية. هذه المعطيات هي التي أوصلت جميع المتنافسين إلى صناديق اقتراع الثلاثين من أبريل الماضي. أما المواطن العراقي، فقد قرر الذهاب إلى الصناديق رغم كل التحديات الأمنية من قوى الإرهاب ومن بعض الذين ينّظرون “لمقاطعة العملية السياسية” دون بديل.
ذهب المواطن وهو يعلم غياب المنقذ البطل، عنواناً حركياً أو اسما سياسياً. ذهب إلى الصناديق وهو مشحون بكل آلامه وأحزانه، لكنه بصيص أمل، فالظرف الذي وضعه فيه الاحتلال ومخلفاته صعب للغاية. خيار الطائفية ومحاصصاتها يرفضه العراقي، وتجربة العشر سنوات الماضية كشفت زيفه، فالعرب الشيعة والسنة على سطح واحد من الحرمان. المواطن ذهب وهو يعلم بأن الاختراق لن يحصل بذات الوجوه “الفاشلة” لكنه ذهب لأنه يريد إبقاء الدورة السلمية للحياة السياسية. المواطن يأمل أن تتخلى الرؤوس التي تحدثت عن الوطن والوطنية عن عوامل الفشل وعن الفساد والظلم، وتسلك طريقاً جديداً، ولعل هذه أمنية الناس الذين ذهبوا ونسبتهم كانت كبيرة (60 بالمئة) حسب معلومات مفوضية الانتخابات.
دخلت الانتخابات منذ مساء الثلاثين من أبريل الماضي مرحلة مهمة وسط تكهنات وقياسات للفوز. جميع القوائم تتحدث عن فوز ساحق، والأهم قوائم البيت الشيعي الذي تدور فيه المعركة الحقيقية للحكم، وفق المقاييس الطائفية التي وضعت، فقائمة المالكي يتحدث زعيمها عن حتمية الفوز، وكذلك الصدر والحكيم، ويبدو أن الصراع يقع في محافظات التنافس المهمة (بغداد والبصرة وبابل وكربلاء والقادسية) إلى جانب محافظات المثنى والنجف وذي قار، وفي بقية المحافظات التنافس الرئيسي لدى القوائم الأخرى (الوطنية ومتحدون والعربية والكرامة والحل) خصوصاً محافظتي نينوى والأنبار التي تشظى جسمها الانتخابي، ولعل ذلك أمراً مقصوداً في اللعبة إلى جانب بغداد وصلاح الدين وديالى.
في الظرف العراقي ورغم ما أنفق في ميدان الإعلام والاتصالات من قبل الأميركان وبأموال العراق، تنعدم مقاييس الرأي العام السليمة لتبقى التكهنات واللعب بالإعلام هي السائدة، أما ما يحدث للبطاقات الانتخابية فهذا شأن آخر، ويبدو أن الوقت مبكراً للحديث عن التزوير فالفترة التي منحتها المفوضية هي من عشرين إلى خمس وعشرين يوماً لإعلان النتائج وسط دعوات من مجلس الأمن والرئيس الأميركي وجهات دولية كثيرة للإسراع بإعلان النتائج.
ما يدور داخل فصائل الكتل المشاركة في الانتخابات هو التحالفات بين الضفتين الشيعية والسنية وبينهما مشتركين، ويبدو أن التكتل داخل البيت الشيعي موجه نحو المالكي وكتلته، ولهذا أعلن عن مشروع “الأغلبية السياسية” في نقد للمحاصصة، وإذا كان ما سيحصل عليه حسب المراقبين لن يتجاوز 70 مقعداً مقابل 70 لكل من التيار الصدري والحكيم .فهذا معناه إن كلا القطبين سيحتاجان إلى حليف من خارج البيت الشيعي (الأكراد وقائمتي متحدون والوطنية) وهما ضد المالكي حتى اللحظة.
أعلن المالكي أنه قادر على تحقيق النصاب، هذا داخل اللعبة الداخلية الصرفة، أما التأثير الإيراني والأميركي فلم تتضح صورته بعد ويبدو أن الجميع ينتظر النتائج وعندها يبدأ اللعب. الخارطة السياسية تؤشر للصراع بين ولاية ثالثة للمالكي، وظهور زعامة جديدة يرشحها التحالف الشيعي المتمثل في الحكيم والصدر. ويبقى سؤال المواطن قائما: هل بديل المالكي إذا ما تقرر وهو شيعي أيضاً سيحقق الأمن والخدمات؟ وهل سينهزم الفاسدون في ظل حكم الشيعة وتعود للعراق هويته ومكانته وإنسانه؟