14 أبريل، 2024 7:59 ص
Search
Close this search box.

خارج إسطبل القطيع .. نحو فضاء التفرد والقيم

Facebook
Twitter
LinkedIn

من منّا يختار مصيره بوعيه وإرادته ؟ .. سؤال لم تحسم الإجابة عليه ما بين القدريين الذين يؤمنون بوجود حتميات مسبقة كتبت علينا ، ومابين أصحاب الإرادة الحرة ، وربما توجد رؤية ثالثة غير معروفة بعيدا عن مقولة (( أمر بين أمرين)) التوفيقية .

شارفت إقامتي الممنوحة لي على الإنتهاء في الأردن ، وكذلك الإفلاس رفيقي الدائم أطل برأسه قارعاً الأجراس ، مما أجبرني على الذهاب للنوم مجانا في ممر إحدى البنايات التي يحرسها شخص عراقي تعرفت عليه في مكتب الأمم المتحدة ، كنت أعيش في مأزق صعب جدا بين فرحي بترك العراق والخلاص من كآبته وعذاباته ، وبين صدمتي بنفسي حيث إكتشفت عجزي عن مواجهة متطلبات ومتغيرات السفر ، و أدهشني تبخر الأحلام بالمغامرات التي طالما راودتني لتحقيقها بتحريض من قراءات الروايات الأدبية ، لقد إكتشفت أنني لا أصلح للسفر ، وغير مستعد للمغامرات ، وفي نفس الوقت أبحث عن الخلاص من العراق ولا أريد العودة إليه ، وعزائي في حينها انني لست وحدي يعيش تلك الحيرة ، بل كانت حيرة وتيه شبه جماعي للعراقيين الذين خرجوا ، وليس معهم المال الكافي ، ولا لديهم أشخاصا يعيشون في دول أوروبا وأميركا يساعدونهم بالمال وتسهيل السفر الى دول اللجوء .

كان موعد مقابلتي في الأمم المتحدة بعيدا ، وكنت معجبا بإحدى موظفات مكتبها من بعيد ولا أعرف سوى إسمها وهي لاتعرفني ، كانت في منتهى الرقة والملامح الرومانسية ، وأهدتني حيرتي الى فكرة كتابة رسالة لها أطلب مساعدتها في تقديم موعد مقابلتي لتقرير مصيري هل سيقبلوني لاجئا أم لا ، جلست في المقهى وسكبت إحباطاتي وأحزاني ، وإعجابي بشخصية تلك الموظفة وتوسمي فيها خيرا في رسالة مطولة ، وذهبت الى مكتب الأمم المتحدة وسلمت تلك الموظفة الرسالة في اليوم التالي وجلست منتظراً ، لفت نظري شخص عراقي يهديء قلق المراجعين ويقدم لهم النصائح عند دخولهم للمقابلة ، كان أشبه بالجد الأكبر يوزع رعايته ووصاياه على الناس رغم انه عمره في الخمسينات ، وأثناء حركته بين المراجعين إلتفت نحوي وسألني عن وضعي كما لو انه يعرفني ومسؤول عني ، شكرته ، واستأذنت منه بأن أطرح عليه سؤالا شخصيا :

– ماهي الدوافع التي تجعلك تقدم خدماتك للناس بهذا الحماس؟
من عادتي البحث عن الدوافع والأسباب لمعرفة الحقيقة .. بينما معلم التحليل النفسي فرويد قال : (( الحقيقة ليست بالمنال ، والإنسان غير جدير بها )) وكلامه صحيح ، قبله وبعده قيل الكثير حول سجون اللغة والحواس والعقل .. التي تحجب الرؤية الكاملة للحقيقة ، وتحاصرنا ضمن نطاقها فقط .
إبتسم وأجاب :
– هذا هو الواجب من طبيعي تقديم المساعدة .. وهل المفروض ان يقتل أحدنا الآخر !
لم يقنعني جوابه ورددت عليه :
– من تجربتي في وقت الأزمات تتصاعد درجة الأنانية لدى البشر ، على سبيل المثال : هكذا كنا في الجيش في زمن الحرب .
– أنا أعيش خارج أسوار القطيع ، و تجاوزت معايير الخسائر والأرباح .. ومعياري الوحيد هو القيم الأخلاقية .

هذه أول مرة أسمع بشكل مباشر من شخصي يدعي تجاوز معايير الخسائر والأرباح ، بعد ان كنت اقرأها في الكتب على لسان المثاليين الأخلاقيين ، وكان الرجل بتكلم ويوضح بمصداقية عالية مبادئه ، بينما أنا أقول لنفسي : وأخيرا وجدت شخصاً يتفوق على أبطال الروايات الأدبية بتميزه وتفرده .. كنت دوما أشكك بجدية أصحاب القلوب الطيبة من ناحية قدرتهم على الثبات الفكري والعاطفي على السلوك المبدئي ، وإمتنعت عن عقد علاقات إجتماعية مع الناس لهذا السبب ، فكل شخص ألتقي به يبرز سؤال في بالي : كم يملك من القيم الإنسانية ، وما هو حجم قدرته في السيطرة على أنانيته وعدوانيته ، وإستعباد الحياة له ، ومن المؤسف أشاهد تساقط الكثير امامي وهم يفشلون في الإرتقاء الى مستوى هذه الشروط ، وأنا أرى حتى يصبح الشخص يتصرف بثبات وإيمان حقيقي بالقيم الإنسانية .. يجب ان يكون قارئا جيدا وعميقا للطب النفسي ، والتحليل النفسي ، والفلسفة ، مع إستعدادات تتوفر في شخصيته كي يسيطر على أنانيته ، ويستمتع بواجب فعل الخير أو التعامل الإنساني اليومي ، بحيث تصبح القيم الإنسانية رسالة تتشرب بها روحه وعقله وتشكل (مبرر وجوده ومعناه ) .

وفي هذه الأثناء نادت عليّ موظفة مكتب الأمم المتحدة وأعطتني موعدا جديدا قريبا للمقابلة .. خرجنا من المكتب ومد يده لي ذلك الشخص الذي كان يساعد اللاجئين .. أنا خالد مروان بحار سابق ، ودعاني الى أحد المطاعم .

– ما ألذي يجعلك تشكك بدوافع الأشخاص الذين يفعلون الخير ؟

بدا لي ان سؤاله مزيجا من الإستغراب وعملية الإستجواب مدفوعا بالفضول بعدما أخبرته انني دائما أشكك بقدرة الآخرين على يكونوا إنسانيين قياسا الى نفسي وإيمانها بالقيم .. و يبدو ان خالد مروان لأول مرة سمع بهذا النوع من الغرور .. إذ عادة يتخذ غرور البشر أشكالا عدوانية تبالغ في تفخيم صفات الشجاعة والذكاء وغيرها من المزايا التي تضعهم في حالة إستعلاء وتكبر على الآخرين ، اما ادعاءات طيبة القلب فهذا السلوك يخلو من العدوانية والتكبر والبحث عن المكاسب والمكانة الإجتماعية ، وربما التوصيف الأدق له هو التفاخر بالسمات النبيلة والدعوة الى الإقتداء بها وتعميمها على الناس .

أجبت على سؤال خالد :
– كنت دائما أقدم خدماتي الإنسانية بحب وفرح وإيمان دون ضجر وملل أو تفضل ، وأحيانا أقترض المال كي أساعد من يحتاجه وانا في غاية السعادة .. والصفة التي أحبها في نفسي هي أنها قادرة على عمل الخير كواجب ورسالة في الحياة .. وطبعا انا لست ملاكاً يشملني مايشمل البشر من العيوب لكن بنسبة قليلة .

أدهشتني قدرة خالد على الإصغاء بإحترام للمتكلم ، كنت أشعر به يريد ان يفهم ، لا أن يجادل وينتصر في النقاش ، لا أعرف كيف تخلص من عدوانية الشرقي في الحوار ، فلم يستفزه كلامي ، وأخذ يحاورني ويسأل ، وأحيانا يظهر تواضعه ويطلب مني ان أشرح بعض الأفكار اكثر ، أثناء أحاديثنا ونحن نتناول الطعام انطلقت أغنية رومانسية من راديو المطعم .. لمست تلك الأغنية مجسات الحنين والشوق ومعاناة الهجرة والفقر والمستقبل المجهول .. تذكر (( ميسون )) كنت بحاجة لإحتضانها شاكيا ورطتي في هذه الحياة ، الوطن الحقيقي هو المحبوبة ، والمكان الأجمل الذي فيه الراحة والسلام والسعادة … هو التواجد والعيش مع من تحب ويحبك بغض النظر عن الجغرافيا .. عندها تكون للمكان توصيفات أخرى روحية نادرة في حياة البشر .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب